غالب شعوره بالإرهاق وقاوم رغبته في مواصلة النوم .. حرك جسده وجلس على فراشه . نظر في الساعة . إنها الحادية عشرة ظهرا .. ياه .. نام سبع ساعات كاملة فما باله لم يزل مرهقا؟ إنه السفر المتواصل .. يمضي يومين في بلدته وثلاثة أيام في هذه المدينة التي يعمل في جامعتها ويومين في مدينة أخرى يحاضر في جامعتها .. آه العمر يجري بلا راحة ولا استقرار .. سفر وبحوث ومحاضرات جامعية وندوات ثقافية
استرجع نظرات والدته له صباح أمس قبل أن يغادر منزل العائلة لم تكن هذه النظرات جديدة عليه .. قال لها
- ماذا يا حاجة ؟ ماذا تريد عيناك أن تقولا
- أنت تدري يادكتور لقد ملّ لساني من الحديث
ضحك وربت على كتفها قائلا
- الوقت لم يحن بعد
- كيف ذلك يابني ؟ لقد حققت كل طموحاتك العلمية و بلغت الأربعين. ماذا تنتظر ؟ أريد أن أفرح بك يا بني قبل أن ..
قاطعها مبتسما
- لا تقلقي يا أمي سيتحقق كل شىء في موعده بإذن الله
رمقته طويلا وبدا عليها أنها كبحت في نفسها الرغبة في استمرار الحديث .. قال وعلى شفتيه ابتسامة مداعبة
- اطمئنى يا حاجة على حسن سلوك ابنك
رمقته بحنو وقالت
- حفظك الله ياولدي وهداك
----------
غادر فراشه وتحرك في الشقة الباردة فتح - شيش الشرفة الكبيرة .. بدا الزجاج غائما .. ياه .. رياح شديدة متربة وجو قاتم دنت أصابعه من مزلاج الزجاج ثم تراجع .عاد إلى الغرفة تحمل البرد ستة أعوام عاشها في صقيع أوروبا مستكملا دراسته العليا.. كنتُ أسكن منفردا كحالي الآن وأخذت مناعة من نزلات البرد .. بل كنتُ أسير تحت المطر متلذذا متدثرا بمعطف ثقيل ذي غطاء للرأس واقٍ من المطر .. لكن لم يكن يرى في أوروبا مثل هذه الريح المتربة الصفراء .. الريح الصفراء تصبغ أحاسيسه بالقتام والكآبة . هكذا كان منذ صغره .. اتجه إلى المطبخ أعدّ بعض الشطائر وكوبا من الشاي .. تناول فطوره بجانب سريره وهو يتفحص بعض الأوراق والكتب الملقاة على منضدة قريبة .. لم يعد هناك وقت يجب أن أنتهي من هذا البحث خلال ساعات قليلة قبل أن يحين موعد اللقاء المهم في المساء إنها فرصة يجب ألا أضيعها فالوزير نفسه اختارني لأشارك ببحث في هذا المؤتمر .. فقد قال لي : إنه اطّلع علي مؤلفاتي وتابع نشاطي العلمي والثقافي لذا رشحني للمشاركة ببحث في هذا المؤتمر المهم .. رمق العنوان الذي كان قد خطّه على ورقة كبيرة .. ثم جال بعينيه في السطور التالية لهذا العنوان ... جميل هذا الاستهلال يتفق مع الموضوع تماما .. لكن يجب أن يكون البحث جديدا وغير تقليدي.
أنا دكتور في علم الاجتماع وسيحضر المؤتمر علماء متخصصون وشخصيات مرموقة .. إنه لا يكتب جيدا إلا إذا كان مزاجه رائقا .. لكن يجب ان يغالب مشاعره الآن .. نهض وأعد فنجان قهوة حمله حيث بهو الشرفة الكبيرة .. وضعه على منضدة صغيرة وحرك بجواره كرسيا خيزرانيا كبيرا عليه وسادة وثيرة .. أزاح ستار زجاج الشرفة وظل الزجاج مغلقا .. لكن يجب الانتصار على الحالة المزاجية السيئة ومواجهة الريح الصفراء .. حمل بعض المراجع والأوراق ووضعها أمامه .. أشعل سيجارة ورشف من فنجان القهوة واطّلع على ما كتبه من قبل .. كتب صفحات عديدة وامتلأت المطفأة بأعقاب السجائر وشعر بالدخان يملأ المكان .. همّ بفتح زجاج الشرفة قليلا .. فوجئ بأمطار غزيرة .. هتف مبتسما .. هذا أفضل من العواصف الترابية المقبضة .. الريح العاصفة تلقي الآن بكرات ثلجية ترشق الزجاج ... رعدت السماء وبرقت .. همس لابد من استكمال البحث .. نظر بإمعان فيما كتبه .. حسنا فعلت يا دكتور سمير .. إنه بحث متفرد . فنجان قهوة آخر وتختتم هذا البحث . قام فشاهد بشرفة مقابلة رجلا مُسنا يطل من خلف الزجاج متدثرا بمعطف صوفي ثقيل ذكَره بالمعطف الذي كان يرتديه في صقيع أوروبا .. قبل أن يجلس شاهد الشيخ المُسِن على عينيه نظارة سميكة يجول بها في الطريق وفيما حوله .. ترى هل ضجر من وحدته داخل الشقة فأراد أن يتسلى . بمتابعة حالة الطقس وتأثيرها على الناس والطريق وهو داخل حصن شرفته وزجاجها الموصد .. ياه ..ما هذا إن هذا الرجل ليس غريبا عليه إنه قابله منذ شهور قليلة في إحدى الندوات الثقافية .. أجل أجل .. كان هذا الرجل يتابعه باهتمام وهو يلقي محاضرته في الندوة التي أعدتها مديرية الشؤون الاجتماعية .. ثم ناقشه في بعض أفكاره التي طرحها .. يتذكر الآن أن هذا الشيخ الهزيل استوقفه بعد المحاضرة وأراد أن يستكمل معه النقاش لكنه اعتذر له بضيق وقته .. يذكر الآن ان هذا الرجل قال له بكلمات عارضة لم يبال بها وقتها : إننا جيران يا دكتور ..هه . أيسكن هذا الرجل أمامه مباشرة .. لكن هاهو عاد ليتوارى داخل الشقة .. هل لاحظه الرجل حينما كان بالشرفة وتجاهله .. ألا يعيش معه أحد ؟ تذكّر الان أن هذا الرجل قال له في الندوة الثقافية التي شاهده فيها من خلال مداخلة نقاشية - إن ولديه هاجرا إلى أوروبا وزوجته توفيت غير أنه لا يفضل الإقامة في دور المسنين لانعدام المشاعر الإنسانية الحقيقية هناك . ولأسباب أخرى أبداها لا يتذكرها الآن بالتفصيل .. آه .كان موضوع الندوة دور المسنين .. مالها وما عليها .. مسكين هذا الرجل .. لكنه يبدو مستريحا من الناحية المادية .. ياه ..سيأخذني هذا الشيخ فيما هو أهم .. لأكمل البحث قبل أن يمر الوقت في تأملات لن تجديني ...كتب سطورا كثيرة ..وتأمل ما كتب .. - تمام التمام - أجل هكذا يجب أن يكون البحث وأكون قد وفّيت موضوع التكافل الاجتماعي حقه من خلال رؤية جديدة ومنهج حديث وأفكار غير مستهلكة .. استراحة قصيرة .ثم أراجع البحث وأنسقه .. رجع بمقعده للخلف ..انتبه إلى أن الرعد لم ينته بعد وأن الأمطار سيول ثم سمع صوت ارتطام شديد وأصوات استغاثة ..
أعوذ بالله .ما هذا ؟
نهض نظر من وراء الزجاج ازداد عصف الريح غبار شديد ودخان يحجبان الرؤية .. فتح زجاج النافذة بعد تردد سمع عويلا يصدر من أكثر من اتجاه بُهت .. ترامت إلى أذنيه أصوات متشابكة .فهم منها أن منزلا قد سقط .. أىّ منزل ؟ سمع أصواتاً نسائية تصرخ ..النجدة انقذوهم .. ازداد ارتباكه سرى إليه الهلع .. مسكنه لم يزل قائما .فتح زجاج الشرفة الكبيرة وأطل برأسه شاهد بعض الأشباح تهرول نحو نحو .. نحو المنزل المتهدم. طارت عيناه نحو منزل الشيخ المسن .الشرفة لا تزال قائمة .. والمنزل أيضا .ثقب بعينيه الضباب والغبار .أين الشيخ المسن .. مسكين ربما دفعه الهلع إلى الاحتماء بالشقة من الداخل . أو ربما ترك مسكنه هلعا ..
ازدادت الأصوات المستغيثة وأحاطت به ، صادرة من أطفال ونسوة .. هرع إلى الهاتف .. وعاد مسرعا ليطل من النافذة ..صاح قائلا لبعض الأطفال والنساء
- اطمئنوا ..أمر بسيط لقد اتصلتُ اتصلتُ بالإنقاذ اتصلت بفرق النجدة
لم يعبأ أحد بقوله . بل أحس بنظرات غاضبة قد صُوّبت إليه . وجد نفسه يتحرك داخل شقته ثم يعود من جديد متجها صوب الشرفة .. كان ستار الغبار والضباب والدخان قد شفّ قليلا .شاهد أشباحا تندفع نحو المنزل الذي تهدم وأخرى تندفع من بين الركام ..شد انتباهه من يخرج من بين الأنقاض حاملا طفلا يعدو به برشاقة ونشاط بعيدا عن الخطر ..المسافة بينهما أصبحت تسمح بأن يرى الدماء على وجه الطفل وجسده وبأن يرى صدر من يحمل الطفل وكأنه ضمادة فوق جسد الطفل الجريح ..ترى هل هو والده ؟ الله معه .. يهرع الرجل مرة ثانية إلي موضع الخطر بعد أن سلم الطفل لإحدى السيدات .. يختفي ثم يعود حاملا سيدة بدينة بكامل ملابسها.. ويضعها في مكان قريب، يهرع آخرون ويفعلون مثل مافعل .. تصيح سيدة مسنّة بارك الله فيك ، متعك بالصحة والعافية ..أكثر رجال الحي لا يزالون في أعمالهم
رغبة متقدة تأججت في داخله لمعرفة شخصية هذا الرجل البطل المتواري رأسه خلف غطاء صوفيّ ثقيل .. فجأة أنزاح غطاءُ الرأس .. واجهه الوجه المغضن ..ياه .. ياه .. إنه الشيخ ذو الجسم الهزيل الملتف بالمعطف الذي كان يرتدي مثله في صقيع أوروبا ... صرخ أهذا معقول؟! دار حول نفسه في الحجرة ..صرخ من جديد ماذا ...ما هذا ..أهذا معقول .. زاغت نظراته وشعر برجفة شديدة وألم في ركبتيه .. لم يعد قادرا على الوقوف .. تحامل على نفسه وعاد إلى الشرفة ارتمى على مقعده الوثير بجوار الأوراق والمراجع والبحث الذي كتبه وأعقاب السجائر وفنجان القهوة الفارغ .. يداه ترتجفان بعصبية وبرودة لم يكن يشعر بها من قبل... تساقطت بعض أوراق البحث من فوق المنضدة .. اتجهت يده المرتجفة إلى حيث الأوراق .. تجمعها كلها .. رنا إليها بألم وسخرية ثم حوّلها إلى مزقٍ صغيرة . وزفر بأسى وهو يسند مؤخرة رأسه على مسند المقعد
استرجع نظرات والدته له صباح أمس قبل أن يغادر منزل العائلة لم تكن هذه النظرات جديدة عليه .. قال لها
- ماذا يا حاجة ؟ ماذا تريد عيناك أن تقولا
- أنت تدري يادكتور لقد ملّ لساني من الحديث
ضحك وربت على كتفها قائلا
- الوقت لم يحن بعد
- كيف ذلك يابني ؟ لقد حققت كل طموحاتك العلمية و بلغت الأربعين. ماذا تنتظر ؟ أريد أن أفرح بك يا بني قبل أن ..
قاطعها مبتسما
- لا تقلقي يا أمي سيتحقق كل شىء في موعده بإذن الله
رمقته طويلا وبدا عليها أنها كبحت في نفسها الرغبة في استمرار الحديث .. قال وعلى شفتيه ابتسامة مداعبة
- اطمئنى يا حاجة على حسن سلوك ابنك
رمقته بحنو وقالت
- حفظك الله ياولدي وهداك
----------
غادر فراشه وتحرك في الشقة الباردة فتح - شيش الشرفة الكبيرة .. بدا الزجاج غائما .. ياه .. رياح شديدة متربة وجو قاتم دنت أصابعه من مزلاج الزجاج ثم تراجع .عاد إلى الغرفة تحمل البرد ستة أعوام عاشها في صقيع أوروبا مستكملا دراسته العليا.. كنتُ أسكن منفردا كحالي الآن وأخذت مناعة من نزلات البرد .. بل كنتُ أسير تحت المطر متلذذا متدثرا بمعطف ثقيل ذي غطاء للرأس واقٍ من المطر .. لكن لم يكن يرى في أوروبا مثل هذه الريح المتربة الصفراء .. الريح الصفراء تصبغ أحاسيسه بالقتام والكآبة . هكذا كان منذ صغره .. اتجه إلى المطبخ أعدّ بعض الشطائر وكوبا من الشاي .. تناول فطوره بجانب سريره وهو يتفحص بعض الأوراق والكتب الملقاة على منضدة قريبة .. لم يعد هناك وقت يجب أن أنتهي من هذا البحث خلال ساعات قليلة قبل أن يحين موعد اللقاء المهم في المساء إنها فرصة يجب ألا أضيعها فالوزير نفسه اختارني لأشارك ببحث في هذا المؤتمر .. فقد قال لي : إنه اطّلع علي مؤلفاتي وتابع نشاطي العلمي والثقافي لذا رشحني للمشاركة ببحث في هذا المؤتمر المهم .. رمق العنوان الذي كان قد خطّه على ورقة كبيرة .. ثم جال بعينيه في السطور التالية لهذا العنوان ... جميل هذا الاستهلال يتفق مع الموضوع تماما .. لكن يجب أن يكون البحث جديدا وغير تقليدي.
أنا دكتور في علم الاجتماع وسيحضر المؤتمر علماء متخصصون وشخصيات مرموقة .. إنه لا يكتب جيدا إلا إذا كان مزاجه رائقا .. لكن يجب ان يغالب مشاعره الآن .. نهض وأعد فنجان قهوة حمله حيث بهو الشرفة الكبيرة .. وضعه على منضدة صغيرة وحرك بجواره كرسيا خيزرانيا كبيرا عليه وسادة وثيرة .. أزاح ستار زجاج الشرفة وظل الزجاج مغلقا .. لكن يجب الانتصار على الحالة المزاجية السيئة ومواجهة الريح الصفراء .. حمل بعض المراجع والأوراق ووضعها أمامه .. أشعل سيجارة ورشف من فنجان القهوة واطّلع على ما كتبه من قبل .. كتب صفحات عديدة وامتلأت المطفأة بأعقاب السجائر وشعر بالدخان يملأ المكان .. همّ بفتح زجاج الشرفة قليلا .. فوجئ بأمطار غزيرة .. هتف مبتسما .. هذا أفضل من العواصف الترابية المقبضة .. الريح العاصفة تلقي الآن بكرات ثلجية ترشق الزجاج ... رعدت السماء وبرقت .. همس لابد من استكمال البحث .. نظر بإمعان فيما كتبه .. حسنا فعلت يا دكتور سمير .. إنه بحث متفرد . فنجان قهوة آخر وتختتم هذا البحث . قام فشاهد بشرفة مقابلة رجلا مُسنا يطل من خلف الزجاج متدثرا بمعطف صوفي ثقيل ذكَره بالمعطف الذي كان يرتديه في صقيع أوروبا .. قبل أن يجلس شاهد الشيخ المُسِن على عينيه نظارة سميكة يجول بها في الطريق وفيما حوله .. ترى هل ضجر من وحدته داخل الشقة فأراد أن يتسلى . بمتابعة حالة الطقس وتأثيرها على الناس والطريق وهو داخل حصن شرفته وزجاجها الموصد .. ياه ..ما هذا إن هذا الرجل ليس غريبا عليه إنه قابله منذ شهور قليلة في إحدى الندوات الثقافية .. أجل أجل .. كان هذا الرجل يتابعه باهتمام وهو يلقي محاضرته في الندوة التي أعدتها مديرية الشؤون الاجتماعية .. ثم ناقشه في بعض أفكاره التي طرحها .. يتذكر الآن أن هذا الشيخ الهزيل استوقفه بعد المحاضرة وأراد أن يستكمل معه النقاش لكنه اعتذر له بضيق وقته .. يذكر الآن ان هذا الرجل قال له بكلمات عارضة لم يبال بها وقتها : إننا جيران يا دكتور ..هه . أيسكن هذا الرجل أمامه مباشرة .. لكن هاهو عاد ليتوارى داخل الشقة .. هل لاحظه الرجل حينما كان بالشرفة وتجاهله .. ألا يعيش معه أحد ؟ تذكّر الان أن هذا الرجل قال له في الندوة الثقافية التي شاهده فيها من خلال مداخلة نقاشية - إن ولديه هاجرا إلى أوروبا وزوجته توفيت غير أنه لا يفضل الإقامة في دور المسنين لانعدام المشاعر الإنسانية الحقيقية هناك . ولأسباب أخرى أبداها لا يتذكرها الآن بالتفصيل .. آه .كان موضوع الندوة دور المسنين .. مالها وما عليها .. مسكين هذا الرجل .. لكنه يبدو مستريحا من الناحية المادية .. ياه ..سيأخذني هذا الشيخ فيما هو أهم .. لأكمل البحث قبل أن يمر الوقت في تأملات لن تجديني ...كتب سطورا كثيرة ..وتأمل ما كتب .. - تمام التمام - أجل هكذا يجب أن يكون البحث وأكون قد وفّيت موضوع التكافل الاجتماعي حقه من خلال رؤية جديدة ومنهج حديث وأفكار غير مستهلكة .. استراحة قصيرة .ثم أراجع البحث وأنسقه .. رجع بمقعده للخلف ..انتبه إلى أن الرعد لم ينته بعد وأن الأمطار سيول ثم سمع صوت ارتطام شديد وأصوات استغاثة ..
أعوذ بالله .ما هذا ؟
نهض نظر من وراء الزجاج ازداد عصف الريح غبار شديد ودخان يحجبان الرؤية .. فتح زجاج النافذة بعد تردد سمع عويلا يصدر من أكثر من اتجاه بُهت .. ترامت إلى أذنيه أصوات متشابكة .فهم منها أن منزلا قد سقط .. أىّ منزل ؟ سمع أصواتاً نسائية تصرخ ..النجدة انقذوهم .. ازداد ارتباكه سرى إليه الهلع .. مسكنه لم يزل قائما .فتح زجاج الشرفة الكبيرة وأطل برأسه شاهد بعض الأشباح تهرول نحو نحو .. نحو المنزل المتهدم. طارت عيناه نحو منزل الشيخ المسن .الشرفة لا تزال قائمة .. والمنزل أيضا .ثقب بعينيه الضباب والغبار .أين الشيخ المسن .. مسكين ربما دفعه الهلع إلى الاحتماء بالشقة من الداخل . أو ربما ترك مسكنه هلعا ..
ازدادت الأصوات المستغيثة وأحاطت به ، صادرة من أطفال ونسوة .. هرع إلى الهاتف .. وعاد مسرعا ليطل من النافذة ..صاح قائلا لبعض الأطفال والنساء
- اطمئنوا ..أمر بسيط لقد اتصلتُ اتصلتُ بالإنقاذ اتصلت بفرق النجدة
لم يعبأ أحد بقوله . بل أحس بنظرات غاضبة قد صُوّبت إليه . وجد نفسه يتحرك داخل شقته ثم يعود من جديد متجها صوب الشرفة .. كان ستار الغبار والضباب والدخان قد شفّ قليلا .شاهد أشباحا تندفع نحو المنزل الذي تهدم وأخرى تندفع من بين الركام ..شد انتباهه من يخرج من بين الأنقاض حاملا طفلا يعدو به برشاقة ونشاط بعيدا عن الخطر ..المسافة بينهما أصبحت تسمح بأن يرى الدماء على وجه الطفل وجسده وبأن يرى صدر من يحمل الطفل وكأنه ضمادة فوق جسد الطفل الجريح ..ترى هل هو والده ؟ الله معه .. يهرع الرجل مرة ثانية إلي موضع الخطر بعد أن سلم الطفل لإحدى السيدات .. يختفي ثم يعود حاملا سيدة بدينة بكامل ملابسها.. ويضعها في مكان قريب، يهرع آخرون ويفعلون مثل مافعل .. تصيح سيدة مسنّة بارك الله فيك ، متعك بالصحة والعافية ..أكثر رجال الحي لا يزالون في أعمالهم
رغبة متقدة تأججت في داخله لمعرفة شخصية هذا الرجل البطل المتواري رأسه خلف غطاء صوفيّ ثقيل .. فجأة أنزاح غطاءُ الرأس .. واجهه الوجه المغضن ..ياه .. ياه .. إنه الشيخ ذو الجسم الهزيل الملتف بالمعطف الذي كان يرتدي مثله في صقيع أوروبا ... صرخ أهذا معقول؟! دار حول نفسه في الحجرة ..صرخ من جديد ماذا ...ما هذا ..أهذا معقول .. زاغت نظراته وشعر برجفة شديدة وألم في ركبتيه .. لم يعد قادرا على الوقوف .. تحامل على نفسه وعاد إلى الشرفة ارتمى على مقعده الوثير بجوار الأوراق والمراجع والبحث الذي كتبه وأعقاب السجائر وفنجان القهوة الفارغ .. يداه ترتجفان بعصبية وبرودة لم يكن يشعر بها من قبل... تساقطت بعض أوراق البحث من فوق المنضدة .. اتجهت يده المرتجفة إلى حيث الأوراق .. تجمعها كلها .. رنا إليها بألم وسخرية ثم حوّلها إلى مزقٍ صغيرة . وزفر بأسى وهو يسند مؤخرة رأسه على مسند المقعد