إسراء أبو زيد - فتاة أبو الحجّاج..

إنّه اليوم الرابع لي بالجنوب

كانتِ المرّة الأولى لي التي أزُورُ فيها مسجد أبو الحجّاج, رغم أنّها ليسَتْ أَوَّلَ زيارةٍ لي لمدينة الأقصر… وبعدَ أنْ أَخَذْتُ جَوْلتي في المسجد, نفدَ شحنُ كاميرتي الديجتال، لم يكن أمامي سوى أنْ أَقِفَ بإحدى شُرفات المسجد المَفتوحة، وكان وقتُ أذانِ العشاء، أَتَأمَّلُ مَعبدَ الأقصر من فوق المسجد, كم يُبْهِرُني هذا المكان وَيُلْهِمُني كثيرًا وأَخَذْتُ أُفَكِّرُ…

إلى أنْ قاطَعَ تَفْكيرِي صوتُ فتاةٍ تَسْأَلُنِي وَبدونِ أيِّ مُقَدِّمات: هل أنتِ مُتَزَوِّجة؟؟

الْتَفَتُّ إليها أَتَأَمَّلُ جمالَ وَجْهِها وملابَسها الفَضْفاضةَ السوداءَ الواسعةَ قائلةً لها بكلِّ بَساطة وكانَ لديَّ فُضُولٌ بِفَتْحِ حِوارٍ مَعها، فهي تَبْدُو صغيرةً على الزواج: لماذا تُفَكِّرُ به؟ ولِماذا هي هنا أصلًا؟؟ هل تَتَمَنّى زوجًا مثلًا؟

أَجَبْتُها: لا أنا غيرُ مُتَزَوِّجَة. وأنتِ؟؟

رَدَّتْ بِلَهْجَتِها الصّعِيديّة: أنا لا اتْجَوِّزْتْ ولا اتَّعَلَّمْتْ .

عَرَضْتُ عليها أنْ نَجْلِسَ, فالهواءُ كانَ مُنْعِشًا وَكُنْتُ في حالةٍ يُرْثى لها, كانَ يومًا طويلًا مُرْهِقًا .

وبالفعلِ جَلَسْنا وَأَخَذْتُ نَفَسًا عميقًا لِأَسْتَعِيدَ نشاطي وذاكرتي وَقُوَّتِي لِأَسْأَلَها: ولِماذا لمْ تَتَعَلَّمِي؟

أَجابَتْ: أنا لم أَتَعَلّمْ وكذلكَ أخواتي لم تَتَعَلَّمْنَ.

لم أَتَعَجَّبْ، إنّها طبيعةُ أهلِ الصعيد بأيِّ حال ولكنْ سَأَلْتُها احْتِياطيًّا قد يكونُ لديها وِجْهَةُ نَظَرٍ أخرى أو شيءٌ جديد تقوله: لِماذا؟؟

هَزَّتْ كَتِفَها بِلا مُبالاة وَكَأَنَّ سُؤالي سَخيفٌ قائِلةً: كده. وَبادَرَتْنِي بسؤالٍ آخرَ: أنتِ مِن مصر؟

أَجَبْتُها: نعم من مصر.

تَقْتَرِبُ مِنِّي أكثر فَرِحَةً وَتَلْمَعُ عُيُونُها وَتَسْأَلُنِي: ومصر مثل الأقصر؟

أُخْبِرُها مُداعِبَةً إيّاها: لا طبعًا الأقصر أحسن .

تَغْضَبُ وَتَبْتَعِدُ عنِّي قائلةً: لا تَكْذِبِي, أختي هَرَبَتْ وَذَهَبَتْ لِمصر, أكيد مصر أحسن .

بكلِّ دَهْشَةٍ: هل هَرَبَتْ حقيقةً؟؟ لماذا؟؟

يُقاطِعُ حَديثَنا صوتٌ خَشِنٌ عَصَبِيٌّ قَوِيٌّ: إنْتِ يا بِتْ… بِتِعْمِلِي إيه عندِك؟

تَخافُ الفتاةُ وَتَقْتَرِبُ منِّي أكثر مُمْسِكَةً يَدِي لِأُجِيبَ بالنِّيابَةِ عنها: معايا يا حجّ لا تخف .

الأبُ بِلَهْجَتِهِ الصّعِيديّة: لَتُهْرُبْ هي الأخرى.

أَخْبَرْتُهُ: لا تَخَفْ أنا موجودة, ولنْ أَدَعَها تَذْهَبُ إلى أَيِّ مكان، لا تَخَفْ.

هَدَأَ الرجل وَجَلَسَ على مَقْرُبَةٍ مِنّا يَنْظُرُ إلينا لِفترةٍ، لمْ تَتَحَدَّثِ الفتاةُ خلالها, يا لَه مِن رجلٍ مِسكين, إلى أنْ اطْمَئَنَّ وَدَخَلَ غرفةَ الضريح يُكْمِلُ عِبادتَه الخاصّة أو تَوَسُّلَه، رُبّما يَطْلُبُ مِن أبو الحجّاج أنْ يَرى ابْنَتَهُ مَرّةً أخرى…

وَتَعُودُ تَسْأَلُنِي الفتاةُ مرّةً أخرى: وَأَنتِ لماذا لم تَتَزَوَّجي إلى الآن؟

أَخْبَرْتُها: بِبَساطَة إننّي لم أُقَرِّرِ الزواج بعد.

سَرَحَتْ بِخَيالها قائلةً: أَدْرَكْتِ لِماذا أَوَدُّ أنْا الأخرى الذّهاب إلى مِصر؛ كي أُقَرِّرَ أنا أيضًا وأكونَ صاحبةَ قرار .

انْتَبَهْتُ أنّي لم أُسْأَلْها عن عُمْرها فَسَأَلْتُها: كم عُمْرُكِ يا فتاة؟

أَجابَتْ وَكَأَنَّها سيِّدةٌ عجوز: (14) سَنَةً وَلم أَتَزَوَّجْ إلى الآن .

ابْتَسَمْتُ لَها وَأَخْبَرْتُها قائلةً: سَتَتَزَوَّجِينَ لا تَقْلَقِي .

تَخْرُجُ أُمُّها مِن الضريح سيِّدَةً بَئيسَةً هزيلةً سَمراءَ بِجِلبابٍ أسودَ تَشُدُّها مِن يَدي بِقُوَّةٍ لِتَدْخُلَ مَعها إلى الضريح بدونِ أيِّ كلام أو سلام… نَظَرْتُ إلى الفتاةِ وهي مَجْرُورَةٌ مِن يَدِها مُسْتَسْلِمَةٌ بِضَعْفٍ ولا إرادة منِّي أو مِنها، تَتَوَسَّلُ إليَّ بِعَيْنَيْها… وَكَأَنَّها تَرْجُو مِنِّي أنْ آخُذَها معي .

ولكنْ ما بِاليَدِ حِيلةٌ, لعلَّ الحيلةَ عند أبو الحجّاج .

أَكْمَلْتُ تَأَمُّلِي للمكان وَتَذَكَّرْتُ أنِّي لم أَسْأَلِ الفتاةَ عنِ اسْمِها حتّى, رُبَّما الموقف لم يَسْتَدْعِ سُؤالها ورُبّما أيضًا ما عَرَفْتُهُ عَنْها يَكْفِي, سَعِيدَةٌ جِدًّا بِهُرُوبِ الفتاةِ أُخْتِها، تَبْدُو فتاةً قويَّةً وَلَكِنَّهُا آثِمَةٌ بأيِّ حال .

ولكنْ ما الإثْمُ الأكبر؟ ألّا تَتَعَلَّمَ أو تَتَزَوَّجَ رغمًا عنها وهي صغيرةٌ أم تَهْرُب؟؟ …لاأَدْرِي في الصَّعيدِ الحياةُ رُبَّما تَخْتَلِفُ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى