عبد الحميد الغرباوي - الكذاب.. قصة قصيرة

(. Lorsqu’il n’y eut plus d’espoir, il décida d’en inventer)

" لم يرث ذلك عن والده، ورثه عن جده..."
علق أحد من أصدقاء والدك و أردف بثقة العارف:
"الجينات، أحيانا، تشرد بعيدا فتنسى مهمتها... أو أنها تختار من ترتاح له فتمنحه الأمانة...
ويبدو جليا أنها لم تبال بالوالد، و منحت الابن بأريحية ما كان سببا في شهرة جده...
الجينات هي المسئولة عن الطبعة المبدئية من حياتك، فهي تساعدك في تحديد كل شيء بدءا من لون بشرتك وشعرك وحتى مدى حساسيتك تجاه الأمراض أو مقاومتك لها .
أنت تحمل بداخلك شعبا من العمال.. ما بين 50 ألف و 100 ألف عامل وراثي ، وترتبط شخصيتك بالمعلومات المسجلة في هذه الجينات الوراثية.
وأنت ترث نصف عواملك الوراثية الموجودة في النواة من والدتك والنصف الآخر من والدك منذ الالتحام العظيم للبويضة بالحيوان..."
غريب ما أرى...
" ماذا؟.."
الأرملة الجارة تتحدث إلى الخضار مشرقة الوجه...لم تعد كئيبة، تغيرت كثيرا، صارت مرحة... أنت تعرفها... وتعرف معاناتها مع وحدتها... أكيد وراء هذا التحول المفاجئ سر...
"بكل تأكيد..لا حظّ لها مع الرجال...ولارجل حظيت منه، في يوم ما، ولو تعاطفا، بعبارة تشعرها بأنوثتها... سمعتها توشوش شاكية للجارة زوجة الجزار... "
ممن ورثت قوة السمع أيضا؟...
"من والدتي"
" تفعلها الجينات..."
"كل ما كانت تحلم به أن يقول لها رجل همسا،.. خفية: أنتِ جذابة، مثيرة،..كم أتمناك..أشتهيك..."
هل قلتها لها ؟
" أسمعتها ذلك مرات..."
همْس فيه قليل من الفجور...
" لكنه يزرع الأمل في سيدة كئيبة... "...
كلام مُخادع... كذبتَ عليها...
" أفضل من عدم قول أي شيء والدفع بها إلى حافة اليأس... حافة الجنون.. انظر إليها كيف صارت الآن...تواجه الواقع بشخصية قوية...
ماذا نخسر بقولنا كلاما جميلا يزرع الأمل في اليائسين؟..."
جدك كان شخصية بارزة... طاف العالم و هو قابع في بيته...
" كان يقول لزوجته: أبلغي كل من يسأل عني، أيا كان، أنني لست هنا..أنني سافرت في الصباح الباكر..وكانت جدتي المسكينة تستفسره في تواطؤ: و إذا سألني أحدهم عن وجهة سفرك..فيجيبها في انفعال وتوتر: رُدي بالنفي، قولي " لا أدري، ولا تضيفي شيئا.." ثم يعتكف في غرفته يتنقل بين القنوات، يتجول في عواصم العالم، متابعا الأحداث الجارية ومسجلا في ذاكرته تحولات المناخ فيها...
يغيب عن الساحة و المقهى لأسابيع، ثم يستيقظ في صباح محدد سلفا، ليجد جدتي قد هيأت له رطل ماء ساخن. يستحم ثم يحلق لحيته، ويتعطر، ويرتدي ملابس يكون اشتراها لذاك الغرض قبل سفرته المزعومة بأيام، يقتنيها بعناية من سوق الخردة، وينتعل حذاء يكون في الغالب غريب الشكل لا شبيه له، يشتريه من عند بائع أحذية مستعملة، مستوردة من الخارج. الحذاء وحده كان يكلفه كثيرا، لكن ذلك يستوجب تحمل التكلفة من أجل الكذبة كي تكون محبوكة بإتقان لا يوجد في نسيجها و لو ثقب متناه في الصغر يتسرب منه ظن من الظنون أو شك من الشكوك...
ثم يظهر فجأة...يقبل على رواد المقهى مبتسما، مبديا شيئا من التعب على محياه، وبعد السلام والتحيات والعناق، يمنحه الأصدقاء مقعدا في وسطهم وتبدأ الأسئلة تتقاطر عليه من كل جانب، عن أهوال الجو والطائرة في أعالي الفضاء، وعن المضيفات الجميلات، ثم عن العاصمة التي زارها وعن مغامراته في حاناتها و شوارعها... وهو يجيب بكل ثقة. لا يبدو عليه أدنى اضطراب، لأنه يتقن ضبط خيوط نسيج كذبته..باريس، لندن، كوبنهاجن، القاهرة، وصولا إلى بجين وطوكيو... كل عواصم العالم زارها... وما لم يزرها عبر القنوات، يبحث عنها في أعداد من مجلات قديمة أو يتابع أخبارها عبر الأثير، ويضيف إليها من خياله... وعندما لا يسافر، يواصل توظيف الكذب في أعمال إنسانية، فذات مساء، ومع اقتراب عيد الأضحى، وقفت على مجلسه مع الأصدقاء في المقهى سيدة تصطحب معها طفلين تطلب معونة لوجه الله كي يُعيِّد طفلاها. ألحت في الطلب وهم يخوضون في تحليل مشاكل ألمت بفريقهم المفضل في كرة القدم، لم يعيروها أدنى اهتمام، لكنه هو وبشكل تلقائي، أشار عليها أن تسرع إلى الحاج "المسكي" فهو يوزع أكباشا على المحتاجين.
التفت كل الأصدقاء إليه فيما كانت المرأة تسرع إلى العنوان الذي أشار إليه.. كانت نظراتهم تستفسره في الأمر..
" مالكم تنظرون فيّ هكذا...أولا أرحتكم منها ومن توسلاتها الملحة... ثانيا لو فكرنا في التصدق عليها فبالله عليكم كم كان سيعطيها كل واحد منكم؟... ثالثا ذاك "المسكي" الذي حج أكثر من أربع مرات، شحيح والأفضل أن تذهب إليه لتصدع رأسه بتوسلاتها، هو يملك من المال ما يكفي ليشتري لعشر أسر كبش العيد..
وصادفت كذبته حقيقة أن الحاج " المسكي" كان في تلك الأيام يوزع أكباش العيد على المحتاجين شكرا لله على نجاته من حادثة سير كانت ستودي بحياته...
مثل هذه الكذبات كانت تنتهي في الغالب بنتائج سعيدة، عالج بها مرضى، وزرع بها الثقة في أنفس مترددة...حتى إنه صار يملك رؤية فلسفية في الكذب يلخصها في عبارة: "إذا ما انعدم الأمل فالأفضل لنا أن نخترعه."
هاهي ذي مقبلة...
" أسراتي تلك الجريدة، أخفي خلفها وجهي..."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية (روبن وليامس ـ من وحي أفلام

ع ، ه
الكاتب عبد الحميد الغرباوي / المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى