نصوص بقلم نقوس المهدي

كنتُ ذا ميلٍ فطريٍّ لتعنيف ذاتي وإجبارها على كَتْم ما تحبُّ، لا رغبةً في جعلها تُماثِلُ غيرَها من حيوات قاسيات فحسب، بل لمعاقبتها يوميًّا على عجزها أن تحظى بانفرادٍ يحمي آلامَها الشبيهة بأرضٍ تجمَّدَ صلبُها، فما عادت تعكس سوى كتمانٍ لا يزيده العملُ إلا فوضًى وأذى! نعم، جرَتْ فيَّ الأذيَّة،...
صفق الأستاذ فاتح عبد الجبار باب شبه الغرفة خلفه خارجاً، آمِلاً أن المشي قليلاً في هذه الساعة المبكرة من الصباح، قبل الذهاب إلى المدرسة، سيطرد الصداع الدبُّوسي الذي ينخر صدغيه. هذا هو يومه الثالث هنا، بعيداً عن مدينته بمئات الكيلومترات، في بلدة صغيرة تشرَّبت، من الريف والمدينة على حدٍّ سواء، كل...
"أرسِلي ذكرياتك بالبريد، إذا كنت تودين المرور بأقانيم مطارحاتنا الغرامية التي كنَّا نزاولها متشابكين فوق الحائط." قرأ هذه الكلمات تحت صورة معلَّقة على الجدار، قبل أن يوقد شمعة عوضًا عن مصباح الغرفة. نظر إلى الزوايا التي بقيت متشحة بانعدام الوضوح. فكَّر باستبدال مصابيح الساحة التي يقطنها منذ...
يقول أدوار عازوري: " أن الفن لا زمن له، إلاَّ أن لكل زمن ذوقه ومقاييسه الجمالية*" فإذا كان الرسم يمثل حالة إشباع لرغبة ما تحقق عملاً فنياً يثير تنويعات تخاصرت ألوانها بمساق تدويرها، حتى تجعلنا نتواضع بإخلاص بين إلهام الرسام، وصلاحية أسلوب التعبير، الذي يجنح إلى تحقيق النجاح، وبين تصاعد الوعي في...
أَفَقْتُ مُسْتَغرِبًا انزِعَاجَ أُمِّي وَحَوْقَلَتَهَا... نَظَرْتُ إلى عَقارِبِ السّاعَةِ، فَأَدْرَكْتُ السَّبَبَ . كانَ نَومي عَمِيقًا؛ لِأنّي قَضَيْتُ مُعْظَمَ سَاعَاتِ اللّيْلِ مُقَلِّبًا صَفَحاتٍ كَثيرَةً؛ سَأُمْتَحَنُ فيها اليَوْمَ الامْتِحانَ النِّهائِيَّ لِلمَرْحَلَةِ...
- مات ياكوف! قال ذلك أحد الأصحاب المتحلِّقين حول سرير الميت. جَزَعٌ وحيرة بادية. وراح المتحلِّقون يتبادلون نظرات غاضبة بأعين جاحظة. أطْبَقَ صمتٌ مخيف على الجميع، وملأتْ المكانَ رهبةٌ وغربة. إلى أن قَطَعَها صاحبٌ ثانٍ قائلاً: - ما كان له أن يموت قبل أن يخبرنا ماذا فعل بكلِّ ثروته...
تضع المدينة أنشوطتها الغليظة حول عنقي. كل ما في المدينة يسهم في منع النسمة من الانسراب إلى صدري. شوارعها المكتظة، أرصفتها الضيقة، الفضاء المشحون بزعيق السيارات، الموسيقى الصاخبة، أصوات البشر، أيديهم الخاوية الممدودة من أجل رغيف، حناجرهم المتورمة، وعيونهم الطافحة بدموع متحجرة. أهرب من موقع...
باردٌ، كدمشق في يومها الأخير. أرى: يبلعُ الرملُّ الماءَ ولا يشبع. أرى: أركض نحو أختي، التي ماتت قبل أن تلدها أمِّي، كي أمنحها سرِّي. أنا ابن آخر قطرات من شتاء، كالضجيج أتصاعد، حكاية بخار منفيٍّ من إبريق جدِّي. وجدِّي، رأس لطربوش أحمر، وقمباز لسجادة صلاة تحت مئذنة. كان شكل جدِّي مئذنة...
بصيص الضوء لا يدخل إلى حجرته سوى صباحات الجمعة، حيث تفتح زوجة ابنه نوافذ الحجرات كلها، بما في ذلك الحجرة الجوانية التي تشبه القبو. هي حجرة صغيرة للغاية، متواضعة الأثاث، تطل على حجرة واسعة ليس فيها أحد. لا حس ولا خبر. بالكاد، حين يصيخ الجد السمع، يستمع إلى تلفزيون الأحفاد وهو يوش على قنوات لا...
في الواقع، الإنسان الذي يريد أن يشاهد على نحو صحيح مجد الله على الأرض، لا بدَّ له أن يشاهد ذلك المجد في الوحدة. بالنَّسبة لي على الأقل، الحضرة - ليست حضور الحياة الإنسانية فقط، بل حضور الحياة في أيِّ شكل آخر غير تلك الأشياء الخضراء التي تنمو على الدَّنس وهي صامتة - هي وصمة عار على المنظر...
بعد أن نجحت إلى الصف العاشر بدأ هاجس بزوغ ذقني ينتابني، فهي لم تبزغ حتى الآن في حين كان زملائي يتفننون بحلاقة ذقونهم، وكنت منذ طفولتي أحسد الابن الأصغر لصديق والدي لأنه كان يلبس شورتاً يبرز الشعر الكثيف في سيقانه وأنا بلا شعر في سيقاني.. وكنت معقداً من ساقي الرفيعتين النحيلتين، لذلك كنت أرتدي...
قال أبو العباس في كتابه ” أغلى الأنفاس في أخبار وأحوال الناس“: سافرنا، أنا والْخَليفة هارون الرشيد، إلى مكةَ الْمُكرّمة لنحُجَّ معا. وكنت ألازمه كظلِّه، لا أفارقه في حَلِّه وتَرْحالِه، إلا ليلا عندما يريد أن يَخْلُد للنوم!..وكان لايثق إلا في شخصي، ولايُفْشي سِرا كبيرا أوصغيرا إلا لِهذا العبد...
تطاولتْ ظلالُنا تطاولاً مرئياً أمكنني تتبُّعه بالعين المجردة، مثل تتبُّع حركة عقرب الثواني. لم تتطاول فحسب، وإنما تضخَّمت متعملقة أيضاً، فغطَّت مساحات واسعة من رمال الصحراء المتصلة بالأفق شرقاً، بينما هي ساكنة في مكانها! من جهة الغرب، نهض مدفنٌ عظيم، ملأ بدوره الأفق، وحال دون رؤية أي مشهد سواه...
من ورم خبيث، أتلف العين، وبعدها الدماغ، ماتت "هنو"، أضحت أختها "حادّة" وحيدة، تَجْرِشُ الحسرة كل يوم، رهينة الصمت والوحشة. الأقارب؟! بعد مراسيم الدفن أثارت نِعالهم غبار المقبرة.. بدَّدته الرياح وتفرقوا كيما يستأنفوا انجذابهم إلى الكدح فالهلاك. كوخها التابوتيّ هذا الصباح رَفَّهَهُ البياض،...
يداي خرقاوان إلى حدٍّ لا يطاق، وهذا يحزُّ في نفسي. لو كانت لي يدان ماهرتان لتغيَّر قدري. فالأيدي التي تقوم بعمل نافع تغوص في أعماق الكينونة وتفجِّر منها نبعاً من الخير والسلام. ولكن هيهات! لم أرَ أبي قط، ولم أسعَ قط إلى رؤيته. تزوجتْ أمي كرَّة أخرى ولم يكن لي من العمر أكثر من سنتين. ربَّاني زوج...
أعلى