نصوص بقلم نقوس المهدي

هكذا كان يجب أن تطلَّ من باب الغرفة، وتتجه سريعًا نحو بطئكَ القادم – ليس لأنك محاصَر بقليل من الحكايات، أو لأنك تريد أن يكون لعينيكَ مشهدٌ آخر يعج بأطياف لذيذة. قررتَ أن تكون هناك فقط، على ذلك المقعد بالضبط، حيث يمكن لكَ أن تتلف نهاركَ كلَّه بدمعة واحدة دون أن يشعر بكَ أحد. ولأنك أجبن من أن...
في منتصف كلِّ ليلة... أتراشق مع احتضاراتٍ كثيرة لأشياء عبرتْ في اليوم الفائت. واليوم، في تعبيراتنا، هو الوقت المتاح لتراكُمات أكثر وأكثر. لا يهم الآن ما نُراكِم. ما يهم هو أن اليوم قد اختُصِر بمحض معجزة حضارية إلى اختراع! عددتُ طَرَقاتِ الحذاء على وجه الرصيف أربعمائة طرقة وخمسة عشر ينبوعًا...
في قصص الأحلام ، تخلق الجنِّيات دروباً ضائعة تنهبها أقدام العشَّاق... صوت الدراجات... وكسل الأغنام قبل المغيب... في دروب بعيدة قد نصادف الكون مختالاً إلهيّ المحيّا، يعلن ولادة واقعة كونية غريبة كرائحة الطين المتيبِّس، أشمُّها نسرينا عاصفة بلذة الريح العنيدة تمارس الصلاة فوق مذبح الربّ كلما...
ابتدأت ساعته الجدارية دقاتها محفِّزة كل خلاياه المتبلِّدة. تحولت دقاتها إلى حركة تمتصها كل الأشياء التي تبعثرت حوله لتعيد استفزازه من جديد. تنحّت أمام عمائه جدران الغرفة واحداً تلو الآخر. استطاع أن يرى أسراب الليل تتراخى على كل منزل تخايل له من نافذته، مطفئة الأبصار الكسولة عن الحركة والضجيج...
توقف أزيز حفّارته فجأة بعد نصف ساعة مجهدة من الوقوف أمام كرسيّه القديم، وقد جلس عليه رجل مترهل الهيئة فاتحا فمه بعجز وتوسّل، وعينان تغبّان جرعات من ألم صامت، تدمعان فلا يأبه لهما الطبيب، بل يزيد من سرعة حفّارته تلك، لعلها تأكل صوت صمته المزعج حقاً؟! توقف ونزع قطع القطن المصطبغة باحمرار قانٍ من...
هكذا تعوَّدت: أترك بابي مفتوحًا. في النهار وفي الليل، في الصيف وفي الشتاء، وعلى مدار العهود والأيام، أتركه مفتوحًا، وأعيش، وأنام، وأصحو، ولا أخاف شيئًا. ذات يوم، وبابي مفتوح، وأنا أتنعَّم بدفء منزلي ودفء نفسي، وأسبح في نور منزلي ونور نفسي، سمعتُ صوت امرأة، حزينًا وحنونًا، يأتي من ظلام الهواء...
في الصباح حكيت لزميلي عن الموضوع ، ابتسم ..قلت " لثقتي فيك " ، قال الامر بسيط ..وكثيراً ما يحدث ...قلت : "لكنه يؤرقني".. قال : لاتهتم .. ضحكنا.. ناديت على الفراش طلبت منه كوب شاي وبسرعة .. أمرني زميلي بأحضار بند ورق سألته لماذا؟ بصق وطلب قلماً..أعطيته... رسم دائرة واسعة مفرغة.. وقال: " ساحة...
-1- كففت منذ زمن طويل عن زيارة الحلّاق، ربما منذ رحيل المرحوم البصرّي الرائع سليم.. أنا بصرّي كذلك لكني لست رائع ولن أكون.. رحم الله البصري سليم. كان آخر عهدي بالحلاقة والحلاقّ في سبعينيات القرن الفائت، كان حلاقا لطيفا للغاية وصديقٌ صدوق، طيب الذكر صاحب حلاقة "الجزائر" في محلة "خمس ميل" شمال...
قبل ثلاثة أعوام، صيفًا، ظهرت رسالة في صندوقي البريديّ. وَصَلت في مغلّف مستطيل الشكل أبيض، وكانت موجّهة إلى شخص لم يكن اسمه مألوفًا لديّ: روبرت م. مورغان من سياتيل، واشنطن. دُمغ وجه الرسالة بأختام بريدية عديدة: غير قابل للتسليم، لا يمكن إرساله، يعاد إلى الكاتب. شُطب اسم السيّد مورغان بقلم حبر،...
جذبتني “أ” من يدي وأخذتني إلى خلف ساحة المدرسة القصيّة، وقالت لي من دون أن تتلعثم: “تعال نلعب عروس وعريس”. كانت سنواتي الحادية عشرة كفيلةً بأن تجعلني أفهم ما تعنيه جملة “عريس وعروس”، إلا أنني لم أحرّك ساكنًا. فقد صدمتني صراحتها ومباشرتها وأعتقد أنني تفاجأتُ وقتها من معرفتها بحيلة “العروس...
سأبدأ من أعلى رقبتك. سأحتضنك من الخلف وأقبّل رقبتك ببطء كأننا ننتظر المطر في الصيف. يداي تمرّان بخفة وهدوء على منتصف صدرك بين النهديْن. أحبّ يديك وأنت تمسّدين بهما شعر رأسي. سألتصق بك أكثر. ستشعرين بحرّ جسدي الذي يحاول أن يلوي نفسه وفق تقعرات ظهرك وعجيزتك الحلوة. الشهوة حارّة، كأننا خارجان...
طازا من الفرن: نزلت قبل نحو 20 دقيقة من القطار في محطة “مركز حيفا”. عند باب المقطورة تجمّع قوم كثيرون ومعهم شُنط كبيرة، أغلب الظنّ أنّهم في طريقهم إلى المطار. كانت إحدى النساء الكَهَلات تقف على الرصيف عند مدخل باب المقطورة وترطن بالعبريّة: لا أستطيع رفع هذه الحقيبة! وبحركة شهامة غير اعتياديّة...
تهادتِ الحافلةُ الحافلةُ بالركّاب وهي تتوقفُ عند المحطة القادمة، من دون أن يعرفَ كيف سيدخل كلُّ هذا الجمع الواقفِ عند المحطة، إلى هذه الحافلةِ الحافلةِ بالركابِ. أزاح رأسه صوبَ الشباك، ونظر صوب الجمع الواقف عند المحطة القادمة وتساءل عما إذا كان السائق سيتوقف وسيفتح البابَ لهم، رغم الاكتظاظ...
كنتُ على الزِّئبقِ صورةَ رجلٍ ، يتَزَيّا بالعينينِ الثاقِبَتينِ... ولم أرَ نَفْسي! لا أعلمُ! لكنّي مثل هواءٍ يدخلُ في كلِّ الغُرفِ، وبين الأشجارِ، وأبحثُ عن صورةِ شخصٍ ضاعَ قديمًا منّي. وبحثتُ لعلّي ألقاهُ هنا، أو بين الغيمِ، وفوقَ البَرْقِ، وتحتَ البحرِ، وفي النّرجسةِ الذهبيّةِ، ثمّ سمعتُ...
أكتبُ لأمَزَّقَ ! مثل الخالقِ أُحيي وأُمِيت. قد يحملُ أحدٌ أوراقي للنارِ، تمامًا، مثل نهايةِ كلِّ روائيٍ، مَثّالٍ، رسّامٍ، زِريابٍ، قَصّاصٍ، ساحِرْ... وحتى لو ظلَّ قليلٌ من مِزَقِ الصفحاتِ، سيلقيها العاملُ في جوفِ الحاويةِ، كما نحنُ الآن بقلبِ الأوساخِ... فأين الجَنّةُ كي أودِعَها...
أعلى