مؤمن سمير

على سريرنا الوحيد ينامُ أولادي وينامُ ظلي وأنا معهُ على الأرض . أحلامُ الأرض فَظَّةٌ و خشنةٌ : مَلاكٌ يُخرجُ مُديَةً ويطعنُ النظرةَ الأخيرةَ أو رقصةُ صقرٍ تطولُ وتطولُ حتى يشرقَ الذبحُ ... أما أحلامُ السريرِ فناعمةٌ و ليِّنة: جثةٌ تتهادى على الماء كأنها نغمةٌ أو قبرٌ تشُدُّهُ الزهورُ من...
كانت الروحُ تتمسَّحُ بظِلِّي و تقلِبُ في طريقها الذكرياتِ والضَوْءَ وخطوةَ الرجل القصير... الروحُ الضالةُ كلما تلهَثُ تدخل جسد القِطِّ الميتِ فتشتعل عيونُهُ ويُشْبِه سِكِّيناً ويقبعُ بانتظاري. أَهِلُّ وفي ذيلي القَتَلَةُ، يخبِزونَ لحمي وتُعَمِّدهم الأحشاءُ تحتَ ثيابي... أقولُ يا ظِلِّي أغثني ،...
أُغطِّي الكوبَ بكفي كي يتخلل الدخان أصابعي ومعه ضحكتكِ الأخيرة تطير بين زهور الغرفة وتنقش روحكِ على جِلْدي.. لكنَّ الكوبَ الماكر يحبس حريقَهُ بالداخل كأنكِ أنتِ كلما ضحكتِ ولوَّحْتِ لهم وأنا عالِقٌ في صدرِك كالمجذوبِ أو كالطائر الغريقْ..
كان الظِلُّ في اللوحةِ يصرخُ جوعاً والناسُ يمرون عليهِ ولا يلمسون الأنينَ الطافحَ في الحَوافِ وفي اللون المنسكبِ على ظهرِكِ وكنتُ أنا في زجاجتي أدفنُ صرخاتي في الرملِ وأرشُّ عليها من أريجكِ لتصيرَ أشجاراً ينام تحتها يقيني وطيوراً لخوفي الطائرِ وتوبةً نصوحاً لِطَيْفِكِ الأصفى من سورةِ النبع....
حتى وأنتِ تختلفينَ كل مرآةٍ وتزخرفينَ ثِقَلَكِ كل صبحٍ، أريدُكِ .. عيونكِ كأنها في النبعِ عيوني سفينتي طوفانِكْ طيرانُكِ في الذكرياتِ والحَفْر المجنون على الجدرانِ والأظافر التي تطولُ.. : كلهم أنا .. أما جِلْدي الذي يسقطُ مثل الرملِ بعد قفزةِ الذئبِ و قبل اكتمال القمر وعظامي التي تصير شموساً في...
عندما يختبئ الظِلُّ مني أُخرِجُ من جَيْبي سحابتي الخَوَّافةُ دوماً ... أحوطها بالصوفِ مرةً ومرةً بالطينِ ... آكلها وأرتديها ... أَمُطُّها لآخرها وأحرقُ حوافها ... أبدأُ العَرْضَ مبكراً وأُغمِضُ عَيْني ...
كلما تتوقُ نفسي لنفسي ألبسُ خِرقةً وأسقي الهواءَ بشحمي المتساقطِ ، أخرقُ سفناً وأحرُثُ البحرَ بين إصبعيْكِ ... وكلما يجتاحُني البريقُ أركضُ هارباً وأَفُضُّ برعشتي الصُرَّةَ النازلةَ فأجدُ مِسْكاً ثقيلاً أمسَحُ بهِ على ظلكِ الغافي ، فيُثْمر...
الصلصالُ يملأ البيت يغافلنا وينزوي تحت الظِلالِ يخلقُ أحزانَهُ و يضعُ ابتساماتٍ و جحوظاً ثم يصنعُ نَفَقاً للهروبِ... عزيمتهُ اللزجةُ يقُصُّها ويصير بحراً فتمتلئ الصلواتُ بالبشارةِ و بالقراصنةِ و بالصراخِ وكلما كبر أطفالي يعمدهم بالضوء و بالأظافرِ كيْلا يُحَيُّونَ الفرعون بلا حماس... الأطفال...
الأصدقاءُ البعيدونَ هناكَ .. لم يسمعوا صوتَ انسحابِ روحي عندما خَشَّ بحرٌ من النافذةِ وقال سأغرقهُ يعني سأغرقهُ خيالَهُ الأسوَدْ يؤذي بياضَ ذكرياتي .. لم يشاهدوا اكتمالَ النملِ في عصا النبي وحسرتهِ الفخيمةِ كلما طالت أظافري وصارت أقوى واقتربتُ من أن أخترق القمقمَ الأخيرَ وأتنفسُ بعمقٍ على الشاطئ...
ضَعُفَ حَدْسي مؤخراً، كنتُ أُحِسُّ بكِ على بُعْدِ بَلديْن وكنت أَشُمُّ ريحَ أبي فأتحسَّسُ عنقي. كانت الكلاب تطيرُ عندما يعضها ظلي، والأشباح تبيتُ في حضني وعيونها مفتوحة... لكني بعيدٌ هذه الأيام ،خاملٌ وبصيرتي منطفئة. الأولاد يعبرونَ النهرَ أمامي بلا دعاءٍ ولا حتى نظرة وأمي تنسى كل فجرٍ أن تصير...
منذ كنتُ طفلاً وأنا أتسلل للبيت المواجه لبيتنا وأُطَيِّرُ أعقاب السجائر فيهتز وأنا أضحك. بيتٌ غامضٌ وحزين وأرواح الذين جاسوا في ذكرياتهِ قلقةٌ وعيونها زائغة. حملتُ فتاتي وأنزلتها من فوق السورِ وأنا أُمَنِّي نفسي بقبلاتٍ تَرشُقُ في السماء لكني كلما قفزتُ وجدتُ طائراً ينقرُ المُتَبقِي من حبيبتي ،...
ظِلٌ ثقيل تقبَّلي أيتها الروح شكرنا و عرفاننا الصادق لكل مَنْ يموت في الجدران منذ الأزل ويعود يبتسم كل حين.. صورةٌ ثرثارة في الأراضي الشاسعة ، روحي تَبُصُّ ترسم سماواتٍ و مقاديرَ و صُدَفْ ثم تنكمشُ وتنكمشُ حتى يَصُرُّها القتيل تحتَ قلبهِ ويشبهُ صورتَهْ.. بلا يقين غادَرَتْنِي يدي بعد مصافحتِك...
فتحتُ عيني فوجدتُ في إصبعي ثقباً ، غائراً في اللحم خلف الأظافر . يبدو أنه ابن الليلة الموعودة التي مررتهُ فيها على صورتكِ: كانت ليلةً ليلاء ، أحرقتِ فيها ساقي وظلِّي وحولتِ الغرفةَ بحراً وحروباً خاضها القراصنةُ بمدافعهم القديمة . كانت كل قنبلة تَجُرُّ أختها حتى يصحو التنين الذي يجعلني أطأطئ رأسي...
وماذا ستلمسونَ مني إذن ؟ أخذتم خمس قِرَبٍ من الدماء دهنتم بها وجوهكم لما كنتم تزحفون خلفَ الحكايات الداكنة و عدة شرايين كي تربطوا الشيطان من ساقيْهِ كلما تمرد أو صرخ وعظاماً تضربون بها على وجه الميت علَّهُ يعودُ يركضُ في البرِّية.. ما الذي سيبقى إذن يا أخوتي؟ لساني الذي اعتاد على الرعشة حتى نشفَ...
يبدو أنني أصبحتُ أشبِهُ ذلك العجوز الذي لا يكترث لقصائد تمرُّ أمام عينيه ولا يقوم من جِلْسته حتى ، ليشُدَّها ويحبسها في كيسهِ القديم وكلما حلَّقَت أسراب الطائراتِ، دَبَّ الأرضَ بمللٍ ، لتصحو قبائلُ النملِ ، وتحملهُ على رأسها وتسير .... بالأمسِ أدهشتني الجميلةُ التي أوقفتني جنبَ الحائط و قالت...

هذا الملف

نصوص
75
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى