محمد فيض خالد

عسل يا جوافيه..... بهذا النّداء المقتضب يسيل لعاب من استقروا خلف الأبواب ، يمرّ صاحبه يقطع بصوتهِ صمت المكان ، بوجههِ الأخرس المُشرب بحمرتهِ ، يسير الهوينة بجوارِ حمارهِ العالي ، الذي يتبدى شامخا في اعتدالٍ ، يوزع نظراته على المارةِ في كبرياءٍ غير معهودٍ لحمار مثله ، يلوح لمن يخاله ، كمن زادَ...
عاشَ النّاس في كنفهِ سنين لا يُعرف عددها، يلتمسوا من بركتهِ، ويستجدوا عونه و مدده، هناك يرقد الشيخ حسين في ضريحه الطاهر ، تحتضنه الحقول الشاسعة الممتدة ، في فضاءاتها السندسية ، تتماوجُ في ابتسامٍ ، بين ماء بحر يوسف وترعة سري، تشيعه عيون الفقراء عن بعدٍ بنظراتِ الاكبار والتوقير، و مع مطلعِ كُلّ...
ما تكاد بنات الشّمس تلتصق بالجدرانِ ، وتفيضُ الحياة في جنباتِ الزقاق ، حتى ينساب صوت راديو الأفندي العتيق ، تتماوج أنغامه ، وتجلجل موسيقاه في صخبٍ لا يُقاوم ، وفي داخلِ البيتِ ينشط الأفندي يستقبل في همةٍ ؛ بوادر النّهار الجديد بحيويتهِ المعهودة ، وكأنّ الحياة اهتاجته ، فشرعَ يعافرها كشابٍ في...
هبطتُ من سيارةِ الُأجرة أسفلَ عمارةٍ حديثةِ البناء ،ِ لفتَ انتباهي مِن الوهلةِ الأولى ، امتلاء واجهتها بعشراتِ اليافطاتِ لأطباءٍ من مختلفِ التخصصاتِ اساتذة كبارًا وصغارًا ، تأملت للحَظاتٍ ألوانها البديعة المُتداخلة وأحجامها المُنوّعة، ثُم انفلتُ مُسرِعا داخلَ البهوِ المُتَسع، مدخلا...
واشرقت الأرض بنورِ ربها ، واقبل ضياء الصّبح الفضي ، منبثقا من الأفقِ الرّحب، تتلألأ حباته في وهجٍ دافئ ، بدت الشمس تطوي برودةِ الليل في جوفها اللافح. وبعد اشتياقٍ ؛ انسابت الحركة في البيوتِ مدفوعة بمشاعرِ ، تغمر أصحابها الجُدد ، وهم يستقبلون يومهم الجديد، وعلى دفعاتٍ تتقادم أصوات الدّواب...
ظلّ لشهورٍ يُمنيّ نفسه بما هو آتٍ ، أيامًا قلائل تفصله عن صبوةِ نفسهِ، لقد اكتظت دروب القرية واغرقت أزقتها بالبيارقِ والرّاياتِ السّود والحُمر والخُضر ، والخلق في هيامٍ يتواثبون من حولها في تمايلٍ ونشوة ، وأعينهم تفيضُ بالفرحِ والحبور ، وفي نفسٍ واخد يُرددون : اللهم صلّ عليه.. استفزه الشوق فجأة...
لايزال صدى صوت الأفندي يتردد في أذنيّ ، وقد تربّع فوق كرسيهِ الخيزران القديم ، يهرش كعب قدمهِ فرِحا نشوانا ، وهو يحكي لي حكايته المُعادة لعشراتِ المرّاتِ ، والتي استجلى منها حكمتهِ المشحونة بالتوريةِ : ماتَ العليل وماء اللّفت له دواء ، يغيب الأفندي في ضحكتهِ التي تناثرت نهنهتها فيما يُشبه البكاء...
ما إن يؤذَّن للصّلاةِ ؛ حتى يتعكّر مِزاج الأفندي ، بعد أن شرعَ في إدارةِ يد " طولمبة" المياه التي تتوسط بيته العامر ، يُحرِك يدها في عصبيةٍ زائدة ، وقد احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه ، يظلّ في برطمتهِ لدقائقٍ ، حتى بعد انتهاءِ الأذانِ.. يقبض كفه على حفنةٍ من الماء ، ينثرها فوقَ وجههِ...
تُشرِّقُ الشّمس في كُلّ صباحٍ على القريةِ ، وما أكثرَ إشراقها ، لا شيء يتغيّر تحتَ قبةِ السّماء ، في هاتهِ السّاعة ينهض القوم من مخادعِ أحلامهم الوردية، على عصا الخولي ، يدكّ ألواح أبوابهم القديمة التي شاخت ، بعدما رتعت من أثداءِ الفقرِ قرونَ طوال. يجوب الدّروبَ ، وينعطف في الأزقةِ ، فوقَ حمارهِ...
معشوق الفلاح ، طعامه الرّخيص ، ووجبته السّهلة ، اطلق عليهِ أبناء الطّين والشّقاء " المقسوم " و" رزقه الموجود " ، إنّها ثمرة " الباذنجان " أو " أبو سمرة" كما ألِف البسطاء تدليله . الباذنجان في الرِّيفِ محبة لا تنتهي ، لا يترك الفلاحُ أكله في البيتِ او الحقلِ ، يتعقّبه ايّنما ذهب ، ألفة غريبة...
ما إن يؤذَّن للصّلاةِ ؛ حتى يتعكّر مِزاج الأفندي ، بعد أن شرعَ في إدارةِ يد " طولمبة" المياه التي تتوسط بيته العامر ، يُحرِك يدها في عصبيةٍ زائدة ، وقد احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه ، يظلّ في برطمتهِ لدقائقٍ ، حتى بعد انتهاءِ الأذانِ.. يقبض كفه على حفنةٍ من الماءِ ، وفي عفويةٍ ينثرها فوقَ وجههِ...
ترمقه عيون الصّبايا ، ونساء القرية بإعجابٍ وزهو ، يقف شامخا في ثيابهِ المغبرة بالدقيقِ ، لا يخلو مكانه من تزاحمِ الجميلات ، اللاتي رأين في لطفهِ وحلاوةِ منطقهِ، وعذب حديثه، ودماثةِ خلقهِ ، وشبابه الفتي الغضّ ؛ ما يستحق الحضور خصيصا . عرف طريق الطاحونة صغيرا ، يعمل مع والدهِ المعلم "حسانين" ،...
لا زالت برودةِ الصّباح جاثمة فوقَ مساحات الحقول الشاسعة ، وطلائعها تفترش تراب الجسور ، تُخالِطُ ما اهتز على المصارفِ والترع ، تتراقصُ قطرات الندى ، فتتخايل كقطعِ الزجاجِ محتضنة أوراق الشّجر ، متشبثة بشجيراتِ القطن المصفرة ، معتلية لوزاتها البيض ، وتيجانها المنتفشة في منظرٍ بهيج ، إنّه أوان...
ما إن تشقّق الأرض عن شجيراتِ القُطن ، فتخرج ضاحكة للوجودِ تداعب وجه التربة ، يبزغ نجمه ، يُصبح مقصود الفلاحين ، حتى وإن كرِهوه، يجري اسمه على كُلّ لسانٍ ، فهو مورّد الأجرية من عمالِ "اللطعة" ، ورث المهنة عن أبيهِ ، الذي خدمَ الدوائرِ عُمرا. ظلّ على فقرهِ المتقع ، فكفّه المخروم لا يسعفه ،...
عالم الأرواح عالمٌ غريب، يضجّ بما يُثيرُ العقول ، ويُحفِّز الخيال ، ويبعثُ على الدهشةِ ، يفق عنده المرء مدهوشا محتارا ، لا يمكنه أن يجزم برأيٍ البتّة ، يطيش العقل الذي لا يقنع بهذا المتّّسعِ الفضفاض أمامه ، يسرح ويجول في مشاهداتٍ الجزم بماهيتها ضربٌ من الجنونِ . وفي الرِّيف ، وفي أيامهِ الخوالي...

هذا الملف

نصوص
113
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى