محمد فيض خالد

ما إن يؤذَّن للصّلاةِ ؛ حتى يتعكّر مِزاج الأفندي ، بعد أن شرعَ في إدارةِ يد " طولمبة" المياه التي تتوسط بيته العامر ، يُحرِك يدها في عصبيةٍ زائدة ، وقد احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه ، يظلّ في برطمتهِ لدقائقٍ ، حتى بعد انتهاءِ الأذانِ.. يقبض كفه على حفنةٍ من الماء ، ينثرها فوقَ وجههِ...
تُشرِّقُ الشّمس في كُلّ صباحٍ على القريةِ ، وما أكثرَ إشراقها ، لا شيء يتغيّر تحتَ قبةِ السّماء ، في هاتهِ السّاعة ينهض القوم من مخادعِ أحلامهم الوردية، على عصا الخولي ، يدكّ ألواح أبوابهم القديمة التي شاخت ، بعدما رتعت من أثداءِ الفقرِ قرونَ طوال. يجوب الدّروبَ ، وينعطف في الأزقةِ ، فوقَ حمارهِ...
معشوق الفلاح ، طعامه الرّخيص ، ووجبته السّهلة ، اطلق عليهِ أبناء الطّين والشّقاء " المقسوم " و" رزقه الموجود " ، إنّها ثمرة " الباذنجان " أو " أبو سمرة" كما ألِف البسطاء تدليله . الباذنجان في الرِّيفِ محبة لا تنتهي ، لا يترك الفلاحُ أكله في البيتِ او الحقلِ ، يتعقّبه ايّنما ذهب ، ألفة غريبة...
ما إن يؤذَّن للصّلاةِ ؛ حتى يتعكّر مِزاج الأفندي ، بعد أن شرعَ في إدارةِ يد " طولمبة" المياه التي تتوسط بيته العامر ، يُحرِك يدها في عصبيةٍ زائدة ، وقد احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه ، يظلّ في برطمتهِ لدقائقٍ ، حتى بعد انتهاءِ الأذانِ.. يقبض كفه على حفنةٍ من الماءِ ، وفي عفويةٍ ينثرها فوقَ وجههِ...
ترمقه عيون الصّبايا ، ونساء القرية بإعجابٍ وزهو ، يقف شامخا في ثيابهِ المغبرة بالدقيقِ ، لا يخلو مكانه من تزاحمِ الجميلات ، اللاتي رأين في لطفهِ وحلاوةِ منطقهِ، وعذب حديثه، ودماثةِ خلقهِ ، وشبابه الفتي الغضّ ؛ ما يستحق الحضور خصيصا . عرف طريق الطاحونة صغيرا ، يعمل مع والدهِ المعلم "حسانين" ،...
لا زالت برودةِ الصّباح جاثمة فوقَ مساحات الحقول الشاسعة ، وطلائعها تفترش تراب الجسور ، تُخالِطُ ما اهتز على المصارفِ والترع ، تتراقصُ قطرات الندى ، فتتخايل كقطعِ الزجاجِ محتضنة أوراق الشّجر ، متشبثة بشجيراتِ القطن المصفرة ، معتلية لوزاتها البيض ، وتيجانها المنتفشة في منظرٍ بهيج ، إنّه أوان...
ما إن تشقّق الأرض عن شجيراتِ القُطن ، فتخرج ضاحكة للوجودِ تداعب وجه التربة ، يبزغ نجمه ، يُصبح مقصود الفلاحين ، حتى وإن كرِهوه، يجري اسمه على كُلّ لسانٍ ، فهو مورّد الأجرية من عمالِ "اللطعة" ، ورث المهنة عن أبيهِ ، الذي خدمَ الدوائرِ عُمرا. ظلّ على فقرهِ المتقع ، فكفّه المخروم لا يسعفه ،...
عالم الأرواح عالمٌ غريب، يضجّ بما يُثيرُ العقول ، ويُحفِّز الخيال ، ويبعثُ على الدهشةِ ، يفق عنده المرء مدهوشا محتارا ، لا يمكنه أن يجزم برأيٍ البتّة ، يطيش العقل الذي لا يقنع بهذا المتّّسعِ الفضفاض أمامه ، يسرح ويجول في مشاهداتٍ الجزم بماهيتها ضربٌ من الجنونِ . وفي الرِّيف ، وفي أيامهِ الخوالي...
تراه وقد تربّعَ فوقَ عربته الكارو ، مهتز ّ الكِرش، يهشّ حماره العفي ، يُلهبُ ظهره بسوطهِ الجلد الطويل، تتدافع كلماته الحماسية ، تتواصل من فمهِ بنغمةٍ رديئة غير مهومةٍ، يُحذِّر الصّغار من التعلق بها ، يهزّ رأسه الكبير ، يرمي بنظرهِ بين الحينِ والآخر للوراءِ؛ يطمئن على بضاعتهِ ، صُرر القماش الخام...
ظللتُ أرقبُ القوافلَ العائدةَ من هذا الطريق عُمرا ليسَ باليسيرِ، حتى بعد أن كبرت ، أرى في وجوهِ الرِّفاقِ الذين سلكوا هذا الدّرب ، الجَسارة والإقدام ، وفي قلوبهم القوةَ والحزم اللذان حُرِم منهما كثير من أبناءِ جيلي وأنا منهم ، لم يكن لنا من نصيبٍ ، لنخوض غمار التجربة ، ظلّ النّاس في قريتنا...
أخيرا قطع المسافة التي تفصل ما بين قريته والطريق العمومي على خير ، وصلَ قريته مهبط رأسه ، أخذ نفسا عميقا بعد أن أطلّ بوجههِ من النافذةِ الأنيقة ، توقفَ بسيارتهِ الفارهة التي اشتراها مُؤخراًعلى مشارفِ القرية ... مدّ يده وأمسكَ قطعةً من القماشِ المُعطّر ، مررها فوق جبهتهِ التي تلألأت فوقها حبات...
ترمقه العيون بإجلالٍ في نومتهِ أمام عتبةِ الدّار، لا يجرؤ على إثارته أحدًا مهما كان ، لاتمتد نحوه الأيدي بسوءٍ حتى وإن كان البادي بالعدوانِ ، يمخّطر يجوب الشّوارع ، أو مُندسّا بين الأزقةِ الضيّقة ، يحكّ جسمه المكتنز باللّحمِ بالحوائطِ ، وصلصةً عالية تصدر من شعرهِ الطّويل المبروم ، الذي تعلّق...
ألفت الدّروبِ خطوات حماره العالي السّريع ، لا يرى إلا رديفا لابنه الوحيد ، يتفلّت مُسرِعا كالسّهمِ بوجهه العابس الذي داعبت التّجاعيد حمرته ، وشاربه الفضي بحوافهِ المدببة ، وجلبابهِ الأزرق الذي بهت ما بين كتفيهِ العراض ، يُلقي تحايا الصّباح في عجلٍ ، على النّساءِ الجالسات أمام الأعتابِ صباح مساء...
أنا الدرويش لا أهوى سوى اللهِ وليس لي في... - الحلاج - Al Hallaj ... مدد.. مدد على طول المدد.. مكتوب على بابك الفرج يا عمي يا شيخ العرب.. نظرة ومددين المدد. هذه العبارات كفيلةٌ بإخراجِ نساء القرية من بيوتهن المتواضعة في غمضةِ عينٍ، تهرع الواحدة كالمسحورةِ، فتدسّ يدها في صدرها، وتُخرج من طيّاتِ...
تسير الأمور في القرية الصّغيرة على نمطٍ واحد لا يتغيّر، ما إن يتنفّس الصّباح، تُسارِع ظُلمة اللّيل بالانحسارِ من فوقِ الحقولِ، تتراخى قبضتها التي فرضتها على البيوتِ طوال المسّاءِ، رويدا رويدا تُطارِد فلولها المُشتّتة جنود الشّمس المتوهجة من جهةِ المشرق، وعلى تكاسلٍ تدبّ الحياة في كُلّ شيءٍ،...

هذا الملف

نصوص
106
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى