محمد فيض خالد - البحارة.. قصة قصيرة

لا زالت برودةِ الصّباح جاثمة فوقَ مساحات الحقول الشاسعة ، وطلائعها تفترش تراب الجسور ، تُخالِطُ ما اهتز على المصارفِ والترع ، تتراقصُ قطرات الندى ، فتتخايل كقطعِ الزجاجِ محتضنة أوراق الشّجر ، متشبثة بشجيراتِ القطن المصفرة ، معتلية لوزاتها البيض ، وتيجانها المنتفشة في منظرٍ بهيج ، إنّه أوان الجني ، تمتلئ الحقول وتفيض السكك بالفلاحين من الفجرِ وحتى المغيب .
سريعا سريعا تهبُّ الحرارة تلفح وجوه رواد الحقول الذين انغمسوا في الكدِّ ، اعتادوا هذا الوهج ، يأتيهم في نفسِ الموعدِ من كُلّ عامٍ ، ولكن نشوة المحصول تنسيهم الشّقاء ، وتُغالِب في نفوسهم نوازع التّعب ، فعمّا قريب تعمر الجيوب بالنقدِ ، ترمي بطرفك ساعة الظهيرة فوق الفضاءِ الشّاسع المُتدفق ، تصادفك خيوط الوهج من فوقِ الحقولِ متصلة ، تغازلُ وجوه الأنفار الكادحة، تغبُّ في عرقها المتفلت يغرق كُلّ شيء ، لا تكسر فيهم حتى نظراتهم السّريعة الموزعة فوق شواشي شجيرات القطن ؛ يلتقطوا لوزاتها من فوق تيجانها ، لا تنقطع أهازيجهم الحلوة تتهادى منسابة في لحنٍ شجي ، بين عيدانِ القطن المنثنية ، ما إن تخبو حتى تعود تتلألأ ثانيةً من جديدٍ .
ومن خلفهم الخولي ، يلقي كلماته الحماسية أحيانا ، والموبخة أحيانا أخرى ، ومراتٍ تمتد عصاته الرخوة تلدغ الأجساد البالية في شقاءِ الهجيرِ ، وبين الحينِ والحينِ يشبُّ صوت يردد في تحدي : اللوزة فين ... والتانية فين ... هكذا حتى يصل في عدهِ للسابعةِ ، ومن خلفه يجمع الأنفار لوزاتهم بنهمٍ وتنافس ٍ ، مرددين في كورالٍ. بديع عبارة واحدة لا تتغير " أهيه" ، وفي الأخير ِ ينطق الملقن في فرحٍ عبارات صارخة : وكبوشك الزين..؟! ، عندها تتعالى الأصوات التي يعمل أصحابها في شغفٍ ، بعد أن جالت سريعا فوق شجيرات القطن ، تلتقط كُلّ ابيضٍ عليها ، وأياديهم مرفوعة لأعلى ، تقبض لوزاتها بعد انتهاء العدِّ... أهوه..ثم تدس القطن في حجورها المنتفخة .
ليعود سريعا العدّ من جديدٍ ، ويبدأ النّظم المرتب الجميل ، يتردد ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية .
وقف " جابر الحرش" تحت النخلةِ، رفعَ بلاص الماء ؛ يطفئ مع رشفاتهِ السريعة ، سخونة الجو وناره المشتعلة ، لم يقم ظهره منذ الصّباحِ ، يضرب عيدان القطن خلف الأنفار ِ ، لابدّ من إخلاءِ الأرض سريعا من حطبها، وتجهيزها للمحصول التالي ..
رمى بطرفهِ وهو يمسح بكمهِ قطرات العرق المنسابة فوقَ أنفهِ الطويل ، ألقى ببصرهِ ناحية الجِسرِ الكبير ، فجأة تغيّرت ملامحه واكفهر وجهه ، وتعكر صفو مزاجه ، تابع عن بُعدٍ غبرة الطريق ، ومرر عينه في دوائرها التي تكونت خلف ركوبة سريعة تعدو تجاهه ، هرشَ في رأسهِ مستغفرا ربه من طوارقِ الإنس ِ والجان ، عاود نظره في تحفزٍ لمرات ، وقد احكم قبضته حول هراوةِ القدوم الحاد ، وتكشيره تتمدد فوقَ قسماتِ وجههِ الأسمر ، تقدّم في القنايةِ رجل في ثيابهِ النظيفة ، فوق حمارٍ عفي مطهم ، يتأرجح في صلفٍ يهتز جسده في خيلاء وغرور ، اصبح الآن بمحازاتهِ تماما ، أوقف ركوبته السريعة ، قفز عن حمارهِ وألقى عليهِ السلام غير مكترث ٍ لرد، نزل عن بردعتهِ يجر بلغة بني من الجلدِ الطبيعي ، وعينيه تتابع الأنفار الذين غابوا وسط الخطوط ، وبينَ شجيرات القطن وتيجانها البيض ، قال وهو يزحف ناحية الظلِّ في ثقةٍ : الرّية الأخيرة كانت عدل القطن السنة دي ... المية كتيرة والمحصول السنه دي غير كل سنه .. تعيش للعودة .
مشى صاحبنا من سكاتٍ ناحيةِ الجوال ، ملأ حِجره الواسع قطنا ، وتقدّم من زائرهِ ، ثم افرغه في فتحتهِ وهو ينفر غيظا ، لم ينطق بحرفٍ واحد ، مكتفيا بنظراتهِ المحمومة التي تلقي بشرر ٍ تجاه صاحبهِ المستفز .
رمى الجوال فوق حمارهِ ، وفي حركةٍ سريعة هبّ مُعتليا ظهره العالي ، ودون كلامٍ عادَ من حيث أتى ، ظلّ يتابعه في حنقٍ وغيظ ، وهو يردد : الميه كتيره .. مش كدا .. انت فاكرها مية ابوك ... حار ونار .
هكذا تعوّد فلاحي الناحية مضايقات موظفي " الري" مع كُلّ محصولٍ ، يسمونهم" البحار" لا يُعرف السبب حتى الآن ، كما لا يعرف الناس لهم موطنا قدموا منه كبقيةِ الناس ، يأتوا على غيرِ موعدٍ ليحصلوا على نصيبهم من غلةِ الأرض ، مستغلين وظيفتهم التي تمكنهم من احكام القبضة على مياه المصارف والترع ، ليس أمام هؤلاء المساكين إلا الاستسلام لسخفهم ، عادَ يُضرب ُ عيدان الحطب يُبرطم بكلامٍ غير مفهوم ، ومن حولهِ تناثرت نداءات الأنفار وتبعثرت غناوي الجني الصّاخبة ، ومن آنٍ لآخر يرفع رأسه ناحيةِ الطريق ، مستغفرا الله مستعيذا من شرِّ القادمين .


11

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى