محمد فيض خالد - دقة زار.. قصة قصيرة

هبطتُ من سيارةِ الُأجرة أسفلَ عمارةٍ حديثةِ البناء ،ِ لفتَ انتباهي مِن الوهلةِ الأولى ، امتلاء واجهتها بعشراتِ اليافطاتِ لأطباءٍ من مختلفِ التخصصاتِ اساتذة كبارًا وصغارًا ، تأملت للحَظاتٍ ألوانها البديعة المُتداخلة وأحجامها المُنوّعة، ثُم انفلتُ مُسرِعا داخلَ البهوِ المُتَسع، مدخلا مُرتَفِعا كُسِيت أرضيته بالرخامِ ، ورُصّت على جوانبه مقاعدَ فاخرة للاستراحةِ، لم يَخطُر ببالي أن استقلَ المِصعدَ ، فليسَ السبب كراهيتي هذا الاختراع ، ولكن لأنّ عيادة الطبيب بالدورِ الثاني .
دلفت العيادة ، وما إِن دفعت البَابَ الزجاجي ، حتى استقبلني تيار هواءٍ مُنعش ، لامست برودته الزائدة جِلدي الذي أحرقتهُ أشعة الشّمس في الشَّارعِ ، وبابتسامةٍ لطيفة رَحّبت بي الممرضةُ ، فتاةٌ في مُقتَبلِ عمرها الزَّاهر ، أكّدت بأن الدكتور شَارفَ على الوصول ، تَنَحيتُ بنفسي جانبًا بعيدًا عن صَخَبِ أحاديث النساء التي لا تفتر ، وما إن اتخذت جلستي فوقَ الكرسي الوثير ، حتى هدأت أنفاسي الوَجِلة ، ولانت أعصابي الثائرة ، ودَبّ الفتورُ فيها ، وتَرنّحَ كُلّ عضوٍ مني ، مُستَجِيبًا لنشوة ٍتَخلّلته من كُلِّ مكان .
تكاملت مظاهر الرّفاهية في الجِلسةِ والمكان ، هدوءٌ لا يقطعه صَخَبٌ ، وبرودة التكييف حاصرت حَرّ الصيف المتأزم، وأثاثٌ مريح ، لم أجِد بُدّا وأنا المُجهد إلا الاستسلام لهذا الإغراء .
ألقيتُ ببصري ناحية الزبائن ، فوجدتهم وقد َتلَهّى صغيرهم في هاتفهِ اللّوحي ،يُمرر يده عليهِ في جنون ، أمّا كبيرهم فانشغلَ بحديثٍ هامسٍ مع صاحبهِ ، ولعلّ هذا ما شجعني على أن أُلقي برأسي المُثقَل عَلّي أنعمُ بغفوةٍ قصيرة ، ولكن ما إِن اغلقت عينيّ للحظاتِ حتى امتلأ المكان من حولي بالصَّخبِ، أصواتٌ أعرِف أصحابها ، فتحت عينّي لم أجد شيئًا ، عُدتُ أدراجي سريعًا ، لأجدني بين أحضان ذكرى سنين طِوال مرت لا أحصي عددها .
رأيتني صَبيا صغيرا حافيَ القدمينِ كبقيةِ رِفاق الرِّيف ، اقفُ في منتصفِ الدّرب الضَيق الذي يقع فيه بيتنا ، امسكُ بينَ يديّ بعودٍ من القصبِ اقضمه ُسريعا سريعا ، وأُلقي بمصاصتهِ من حولي في فوضىٍ واستهتارِ، وبجوارِ مني احتشدَ جَمعٌ غفيرٌ من أهالي القرية ، أغلبهم نسوة اتشحنَ بالسَّوادِ ، والصّمت يُغرِق الوجوهَ الهزيلة ، كانت أنظارهم مُصوّبةٌ يَقطُر منها التَلَهُف ناحية الطريق العمومي الفاصل بين الدّروبِ ، لحظات مرت ليست بالطويلة ، قبل أن تسري في القومِ غمغمة تداخلت فيها الأصواتُ، كما تداخلت الأجسادُ التي هَبّت من مكانها، سَارعَ نَفرٌ من الرِّجالِ يستقبلوا جماعةً قادمةً فوقَ ظهورِ الحمير، تدل هيئتهم وزيهم الغريب ، ووجوههم المُكفهرة التي ترهقها قترة ، ولكنتهم أنّهم مِن جملةِ الأغرابِ .
كنتُ قد انتهيت لتوي مما شغلني ، في هاتهِ الفترةِ كانَ للصِّغار أمثالي فضولهم ، الذي يؤزهم أزا ، تماما كما يحوم الناموس القادم عَبرَ الحقولِ ، من حول المصباحِ عند المغربيةِ ، كي يُزاحِموا الكِبار بلا خَجلٍ أو خوف ، في أحيانٍ كتيرةٍ لم يكن للكِبارِ طاقة تَحِدّ من تطفلنا أو تزجرنا، أو أن تغلقَ دوننا أبوابًا دفعنا لاقتحامها ، لنطّلِعَ على ما يجري من خلفها .
هلّلت جارةً لنا كشفت ابتسامتها المتراخية عن أسنانها المتساقطة ، قالت بوجهٍ بشوش : الشِّفا من عنده ...
لحظات وارتبكَ المكانُ بعد أن بَدّلَ الضيوف ثيابهم بأخرى مختلفة ، أُشعِلت النيرانُ في مواقدِ الفَخَار التي امتلأت بكوالح الذرة المُشتعلة ، امتدت يد أحدهم ونثرت فوقها خليطا من البَخورِ ، دقائق وتَحلّقت سُحب الدُّخان متكاثفة بروائحها النفّاذة ، فُتِحَ باب غرفةٍ جانبية وجِيء بسيدةٍ في عقدها الثالث ، ممتقعة الوجه محمولة بين أيادي الرجال ، كانت نظراتها المنزعجة تنبئ عن أوجاعها المُبرحة ، جلست في صمتٍ ، لم يسلب المرض _على ما يبدو_ نضارة وجهها الذي أُبدِلَ بصفرةٍ مخيفة، لكنهُ عَقَدَ لسانها عن الكلام .
لم اشعر ساعتئذٍ إلا ويد ممتدة نحوي ، حملتني في غمضةِ عينٍ وألقت بي خارجَ الحجرة ، وأُغلِقَ الباب على عَجَلٍ، عندها فارَ الدّم في رأسي ، وزادت حميتي عندما بدأ الصّخب يتعالى من خَلفِ الأبوابِ ، وتناثرت أهازيج غير مفهومةٍ ، تلاها ضربات سريعة على الدفوفِ والمزاهرِ ، صراخٌ واستغاثات ، جاهدت كي افتح الباب لكني فشلت ، غير أنني اهتديت لحيلةٍ انتزعت بها مفتاح البابَ من مكانهِ ، عندما دفعته بعصاةٍ صغيرة ، لكن بقيت الرؤية مشوشة ، فالدُّخان المتُصَاعِد من المجامرِ اُغرِقَ المكانَ في لُجَتهِ ، وحَجَبَ عني ما يحدث ، لم تنقطع الحركة ولا الضجيج لتمام الساعة .
بعدها سكنت الحركة تماما وفُتِحَ الباب ، انصرفَ بعدها الأغرابُ كما جاؤوا ، بعد أن مدّ زوج المرأة يدهُ في جيب صديره الداخلي، وناولهم لفِافةً من النّقدِ .
انخرطت سيدة في عقدها الخامس من بين النسوةِ اللاتي جلسنَ تحتَ الجدار منذ الصّباحِ الباكِر ، رَمت ببصرها في الحجرةِ مخاطبةً العليلة التي غابت عن وعيها، قائلة في وجوم : ألف سلامة .. دقة الزار ربنا جعل فيها الشفا ..
وبعد مضي أسبوعٍ بالتمامِ ، تلهيت في ألعابِ الصِّغار عن مشهدِ الزار والمريضة ، لاستيقظ ذاتَ صباحٍ_كغيري_ في يومٍ شديد البرودة على صراخٍ وعويل ، لقد فارقت مريضة الزار الحياة .
وعِندَ هذا الحدِ توقفَ شريط الذكريات ، فقد نبهتني يدٌ رقيقةٌ طرقت على كتفي ، وصوتٌ أرق يخاطبني برفقٍ : دورك يا استاذ ..
دخلت غرفة الكشف وأنا مبهوت ، أتفحّص بعيني مُنبهِرا بمحتوياتها الطبية من أجهزةٍ ومعداتٍ حديثة ، أسرتني نظرات الطبيب وابتسامة تغمر وجههُ الصّبوح ، يَرفِلُ في ثيابهِ البِيض كملائكة النعيم ، عاجلتني ابتسامة ساخرة حاولت جهدي إخفائها ، وأنا أقارن بين مشهدين متناقضين مثّلا الماضي والحاضر .
قلتُ في نفسي وأنا أتمدّد على سريرِ الكشفِ تحت الجهاز ، إنْ كانَ للماضي سحرهُ وبريقه ،وحلاه الحاضر في الذاكرةِ ، إلا أنّنا بحاجةٍ لأن نَحيا حاضِرا ، يقهر الخُرافة ويهزمَ الجهل ..
.......................



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى