لم تكن مجَرد فتاة ريفية عادية ، ابنة لقرويٍ فقير ، امتهن صناعة الفَخَار ، يعيش وأبنائه مما يحصل بكدِّ يمينهِ، وعرق جبينهِ ، لا يملكُ من حطام دُنياه الخانقة ؛ غيرَ حمارهِ الهزيل ، وأسماله البالية المُلطّخة بالوحلِ ، يتلهّى عن أثقالِ الشّيخوخةِ والفقر بالأمانيّ ، أن يحفظَ الله صغاره ، فيجعل حظّهم...
لايمرّ عليّ يوم دون أن اُطالع شبحه الفضيّ المُنساب يترامى عن بُعدٍ ، تتلألأ قطرات ماءه العذب ،و تنساب أمواجه الرقيقة في صفاءٍ ورونق ، يسرّ الناظرين ، كُنتُ صغيرا اشاهد من فوق سطح بيتنا القديم خياله ، اتسائل في دخيلةِ نفسي مُقشعرِا في وجل: تُرى إلى أين يتدفق هذا السّيل العرمرم ؟! .
ما أشدّ...
يُقسِمُ بأغلظِ الأيمان غير حانثٍ ، إنّه لا يستطيع المرور بينَ الأزقةِ ، بعد " المغربيةِ" من رائحةِ البخورِ ، الذي تتلاقى خيوطه فوق الرؤوس ، فتبدو كذيولِ الأفاعي ، جرّه شكٌ مظلم يتخبّط فيهِ لا يقوى على ردهِ ، يمسك برأسهِ الثائر بين كفيهِ، واليأس يضعضعه ، تثور في دمهِ حمى لا يجد دونها مَصرِفا ،...
ما إن تعلو شواشي عِيدان الذّرة ، فتتراقص شعرات كيزانها الشُّهب ، حتى تغوص القرية في لُججٍ من حَكايا أبناء المنّصر، وطُرف من مغامراتِ ثعالب الليل الذين لا يُعرف لهم ملة.
أيام وتتراجع الشّمس بوجهها الأصفر الحزين ، أمام كتائب الظّلام المخيفة، حينها يغمر المكان سكونٌ قاتل ، فلا تبدو معه بارقة أمل...
لم يكن لأحدٍ في القريةِ ، أن يصدق هذا التحول المفاجئ الذي انتابه، فبعدِ حياةٍ قضاها في بحبوحةٍ من العربدةِ مُتسكِّعا ، أصبحَ " مرسي" بينَ عشيةٍ وضُحاها وليّا من الأولياءِ ، تتدلى مسبحتهِ الطويلة الكهرمان فوق كرشهِ ، وعلى شفتيه يتطاير غُبار الأذكار الملتهبة أينما سار، يغشى الدروب والأزقة في...
راحَ يطوي خطواته المُثقلة تحت قطراتِ الطّلِّ ، تعوّدَ الخروج في هاتهِ السّاعة المتأخرة من اللّيلِ ، يقضي ساعات طوال بجوارِ " الغفر" في الخُصِّ ، هناك على مشارفِ القريةِ ،حيثُ نوبات حراستهم، لا يعود من مكمنهِ ، إلا مع غَبشِ الفجرِ ، لا يَملّ من النّظرِ إلى البنادقِ المُعلّقة في جذعِ الصفصافةِ...
أمسكت بصورتهِ بين يديها ، وابتسامة فاترة تكسو وجهها المُشرب بحمرةٍ ، حدّقت حتى سطعت عيناها في دلالٍ وتصابي ، مرّ بذهنها خاطر أول يوم لزواجهما ، اسدلت جفنيها في استسلامٍ ، وغرقت في نشوةٍ طاغية ، بدت وكأنّما أوقدت في قلبها مصباحا مضيئا .
تحرّكت صوب النافذةِ تخطرُ في مشيتها خاملة، فقد تجسّم في...
لم يكن الوحيد الذي تسمّى باسم أمه، ولم يكن غريبا مناداته متبوعا باسمها، يتطاير ذكرهما دون غضاضةٍ بين الأزقةِ والدُّروب ِوحتى على أفواهِ الأنفارِ في الحقولِ ، أكاد أجزم _كغيري_ من أنّه استمرئ هذه التسمية بمرورِ الوقت ، حتى وإن بدى حزينا واجما ، تزايل فمه ابتسامة جامدة لم تختل أبدا ، كان صغيرا...
تدبّ في الدّربِ كعادتها ، تستقبل أشعة الشمس ، تعانق تباشير الصّباح ، كما تستقبل الحقول الخُضر والحيطان هذه الطقوس عند كُلّ اشراق .
سألت أكثر من مرةٍ عجائز الدّرب : متى هبطت هذه المرأة إلى قريتنا ..؟
لكن ردودهم كانت ناقصة ، وإجاباتهم غير مقنعةٍ ، لا أحد يعرف لمجيئها موعدا ، سوى أنّهم...
تعودَ دفن آلامه بين ثنايا الظّلامِ المطبق على كُلّ شيء في القريةِ، أصبح الليل الرمادي الموحش صديقه الأعزّ ، يلتقيه في فتورٍ حين يلقي بلا رحمة ، بظلالهِ فوق الحقولِ المحتضنة الأفق الأسود الممدد بلا نهاية ، ساعتئذٍ تزداد المخاوف في القلوبِ ، وتنعكس أشباحه الموغلة في الرهبةِ ، لتخيم على...
ما إن مررت بالقربِ من جدارهِ العتيق ، حتى طالعتني رائحة غريبة ، اثقلت أنفي المُجهد ببرودةِ الصّباح القادم من مياهِ بحر يوسف، تعوّدت كغيري من صبيانِ المكان ، النّظر من الكوةِ المنخفضة ، حين يشرق القماش الحريري الأخضر ، الملتف حول القبرِ المهول ، لكن هذه المرة بدى مختلفا عن المرّاتِ السّابقة ،...
نظر إلى شبحهِ المتضائل أمام المرآة في خيلاءٍ ، عدّل هندامه ، مدّ يده نحو عمامتهِ المكورة فوق رأسهِ الدقيق المدبب ، مسحَ طرفها بكفهِ، ثم رمى خياله بابتسامةٍ صفراء ذابلة ، تشبه لون سحنتهِ ، كان نور الصّبح المتكاسل قد تسلّل في الأفقِ؛ يكشف عن قبحِ البيوت الفقيرة ، ويظهر مأساتها التي ما إن تنتهي حتى...
هذا يومي الأول في المدرسةِ ، تراءى أمامي للوهلةِ الأولى ، داخلتني منه رهبة وإكبار وشكوك لا حدّ لها، يتطاير صوته الجهوري المُزعج ، لا يملّ من اعطاءِ التعليمات بصرامةٍ وغطرسةٍ : قف في الصّفِ .. من يُشاكس اطرده فورا ولا كتب له.
تُقرّر هيئته في نفسي المخاوفَ بل وتنميها طوال الوقت ، حتى ابتسامته التي...