محمد فيض خالد

لم تكن مجَرد فتاة ريفية عادية ، ابنة لقرويٍ فقير ، امتهن صناعة الفَخَار ، يعيش وأبنائه مما يحصل بكدِّ يمينهِ، وعرق جبينهِ ، لا يملكُ من حطام دُنياه الخانقة ؛ غيرَ حمارهِ الهزيل ، وأسماله البالية المُلطّخة بالوحلِ ، يتلهّى عن أثقالِ الشّيخوخةِ والفقر بالأمانيّ ، أن يحفظَ الله صغاره ، فيجعل حظّهم...
لايمرّ عليّ يوم دون أن اُطالع شبحه الفضيّ المُنساب يترامى عن بُعدٍ ، تتلألأ قطرات ماءه العذب ،و تنساب أمواجه الرقيقة في صفاءٍ ورونق ، يسرّ الناظرين ، كُنتُ صغيرا اشاهد من فوق سطح بيتنا القديم خياله ، اتسائل في دخيلةِ نفسي مُقشعرِا في وجل: تُرى إلى أين يتدفق هذا السّيل العرمرم ؟! . ما أشدّ...
يُقسِمُ بأغلظِ الأيمان غير حانثٍ ، إنّه لا يستطيع المرور بينَ الأزقةِ ، بعد " المغربيةِ" من رائحةِ البخورِ ، الذي تتلاقى خيوطه فوق الرؤوس ، فتبدو كذيولِ الأفاعي ، جرّه شكٌ مظلم يتخبّط فيهِ لا يقوى على ردهِ ، يمسك برأسهِ الثائر بين كفيهِ، واليأس يضعضعه ، تثور في دمهِ حمى لا يجد دونها مَصرِفا ،...
ما إن تعلو شواشي عِيدان الذّرة ، فتتراقص شعرات كيزانها الشُّهب ، حتى تغوص القرية في لُججٍ من حَكايا أبناء المنّصر، وطُرف من مغامراتِ ثعالب الليل الذين لا يُعرف لهم ملة. أيام وتتراجع الشّمس بوجهها الأصفر الحزين ، أمام كتائب الظّلام المخيفة، حينها يغمر المكان سكونٌ قاتل ، فلا تبدو معه بارقة أمل...
لم يكن لأحدٍ في القريةِ ، أن يصدق هذا التحول المفاجئ الذي انتابه، فبعدِ حياةٍ قضاها في بحبوحةٍ من العربدةِ مُتسكِّعا ، أصبحَ " مرسي" بينَ عشيةٍ وضُحاها وليّا من الأولياءِ ، تتدلى مسبحتهِ الطويلة الكهرمان فوق كرشهِ ، وعلى شفتيه يتطاير غُبار الأذكار الملتهبة أينما سار، يغشى الدروب والأزقة في...
راحَ يطوي خطواته المُثقلة تحت قطراتِ الطّلِّ ، تعوّدَ الخروج في هاتهِ السّاعة المتأخرة من اللّيلِ ، يقضي ساعات طوال بجوارِ " الغفر" في الخُصِّ ، هناك على مشارفِ القريةِ ،حيثُ نوبات حراستهم، لا يعود من مكمنهِ ، إلا مع غَبشِ الفجرِ ، لا يَملّ من النّظرِ إلى البنادقِ المُعلّقة في جذعِ الصفصافةِ...
تعوّدت الدّروبِ سحنته ، كما ألِفت الأزقة خياله الباهِت، اتحد بذراتها حتى صارَ جزءا منها ، ترِن ضحكاته السّمجة ليل نهار ، تتخللها كنعيقِ البوم ، أينما سَارَ تُساوره الظّنون والرِّيب ، دائم الشكاية من تصَاريفِ الأيام ، فهي لا تعرف سواه فقرا ومسغبة، يلهث مطرودا خَلفَ عبق الشاي المطبوخ ، يتسمّع...
أمسكت بصورتهِ بين يديها ، وابتسامة فاترة تكسو وجهها المُشرب بحمرةٍ ، حدّقت حتى سطعت عيناها في دلالٍ وتصابي ، مرّ بذهنها خاطر أول يوم لزواجهما ، اسدلت جفنيها في استسلامٍ ، وغرقت في نشوةٍ طاغية ، بدت وكأنّما أوقدت في قلبها مصباحا مضيئا . تحرّكت صوب النافذةِ تخطرُ في مشيتها خاملة، فقد تجسّم في...
أمسكَ بيده ِ المرتعشة أرغفته الخمسة ، وسَارَ مُتكئا على الجدارِ الحجري القديم ،يتحسّسه بيدهِ بينَ الفينةِ والأخرى ، ظَهَرَ وكأنّما يسرّ إليهِ بشيءٍ ما في صدرهِ ،لاحَ لمن يراه على غيرِ عادتهِ في كُلّ صباحٍ ، جَعلَ يغمغم مُبتسما، توقفَ قليلا مدّ يده في جيبهِ مضطربا ؛ ليخرجَ منديله ويمسح...
لم يكن الوحيد الذي تسمّى باسم أمه، ولم يكن غريبا مناداته متبوعا باسمها، يتطاير ذكرهما دون غضاضةٍ بين الأزقةِ والدُّروب ِوحتى على أفواهِ الأنفارِ في الحقولِ ، أكاد أجزم _كغيري_ من أنّه استمرئ هذه التسمية بمرورِ الوقت ، حتى وإن بدى حزينا واجما ، تزايل فمه ابتسامة جامدة لم تختل أبدا ، كان صغيرا...
تدبّ في الدّربِ كعادتها ، تستقبل أشعة الشمس ، تعانق تباشير الصّباح ، كما تستقبل الحقول الخُضر والحيطان هذه الطقوس عند كُلّ اشراق . سألت أكثر من مرةٍ عجائز الدّرب : متى هبطت هذه المرأة إلى قريتنا ..؟ لكن ردودهم كانت ناقصة ، وإجاباتهم غير مقنعةٍ ، لا أحد يعرف لمجيئها موعدا ، سوى أنّهم...
تعودَ دفن آلامه بين ثنايا الظّلامِ المطبق على كُلّ شيء في القريةِ، أصبح الليل الرمادي الموحش صديقه الأعزّ ، يلتقيه في فتورٍ حين يلقي بلا رحمة ، بظلالهِ فوق الحقولِ المحتضنة الأفق الأسود الممدد بلا نهاية ، ساعتئذٍ تزداد المخاوف في القلوبِ ، وتنعكس أشباحه الموغلة في الرهبةِ ، لتخيم على...
ما إن مررت بالقربِ من جدارهِ العتيق ، حتى طالعتني رائحة غريبة ، اثقلت أنفي المُجهد ببرودةِ الصّباح القادم من مياهِ بحر يوسف، تعوّدت كغيري من صبيانِ المكان ، النّظر من الكوةِ المنخفضة ، حين يشرق القماش الحريري الأخضر ، الملتف حول القبرِ المهول ، لكن هذه المرة بدى مختلفا عن المرّاتِ السّابقة ،...
نظر إلى شبحهِ المتضائل أمام المرآة في خيلاءٍ ، عدّل هندامه ، مدّ يده نحو عمامتهِ المكورة فوق رأسهِ الدقيق المدبب ، مسحَ طرفها بكفهِ، ثم رمى خياله بابتسامةٍ صفراء ذابلة ، تشبه لون سحنتهِ ، كان نور الصّبح المتكاسل قد تسلّل في الأفقِ؛ يكشف عن قبحِ البيوت الفقيرة ، ويظهر مأساتها التي ما إن تنتهي حتى...
هذا يومي الأول في المدرسةِ ، تراءى أمامي للوهلةِ الأولى ، داخلتني منه رهبة وإكبار وشكوك لا حدّ لها، يتطاير صوته الجهوري المُزعج ، لا يملّ من اعطاءِ التعليمات بصرامةٍ وغطرسةٍ : قف في الصّفِ .. من يُشاكس اطرده فورا ولا كتب له. تُقرّر هيئته في نفسي المخاوفَ بل وتنميها طوال الوقت ، حتى ابتسامته التي...

هذا الملف

نصوص
113
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى