محمد فيض خالد - ابن تفيده..

لم يكن الوحيد الذي تسمّى باسم أمه، ولم يكن غريبا مناداته متبوعا باسمها، يتطاير ذكرهما دون غضاضةٍ بين الأزقةِ والدُّروب ِوحتى على أفواهِ الأنفارِ في الحقولِ ، أكاد أجزم _كغيري_ من أنّه استمرئ هذه التسمية بمرورِ الوقت ، حتى وإن بدى حزينا واجما ، تزايل فمه ابتسامة جامدة لم تختل أبدا ، كان صغيرا يجري خلفَ أمه التي لا يعرف غيرها ، يمسك طرف جلبابها الأسود البالي ، يتعقّبها أمام الأفرانِ في البيوت تخبز ، ظنّ في مراتٍ كثيرة بأنّ كلام الناس فيهِ ؛ من ضروبِ الاضحاك والتفكّه ، تجوب خلفه حين لعبه تمسك طعامه تلاطفه حتى يأكل ، ثم يعود لرفاقهِ ، كبر قليلا فبدأ يشعر بوخزِ الكلام ، حينها كان احرص على أن يتلاشى حلقات السّمر ومجالس الكلام ساعة الأصائلِ، يهرّول في مشيتهِ تخفيه طيات الطّريق ، جاهدَ طويلا كي يرد عن خاطرهِ تلك الوساوس ، عبثا حاول ضبط ما اهتاج من عصابهِ ، يتضرّج وجهه بحمرةِ الخجلِ ، تلسعه نيران اليتم والفقر ، أمّا أمه فعلى النّقيضِ منه ، تجد سلواها فيما يحصل ، فهو الوحيد الذي عاشَ لها من جملةِ أبنائها ، الذين عصفت بهم الحصّبة، مات والده وهو قطعة لحم لا تزال تتلوى في خرقتها ، تركَ المرأة في زهرةِ الصِّبا، وضيئة الطّلعة ، تغوص في شبابها الرّيان ، نبت منذ أن وقع في حجرها، أغلقت قلبها تصدّ عن كُلّ هوى ، سدلت الستار عن ماضيها ، وإن كانت ذكرى زوجها الراحل ، مستقرة في طوايا ذاكرتها ، لا يمحيها كرّ الأيام .
يتجلى في نفسهِ ما يشعل جذوة الحماس فيها ، كيف يتخلص من ماضيهِ ، الذي يركض من وراءه كذئبٍ عقور ، يتأتى صوت يرنّ في أعماقهِ، ينثر بين يديهِ ذكرى الأيام ، يعايره بنبرةٍ ملؤها السخرية والتحدي ، يهمس في أذنيهِ عن قُربٍ ، في ضحكةٍ عالية ، تبعث صلصلة مخيفة ،قائلا : يا محمود يا ابو تفيده..
في هاتهِ الساعة ، يندفع على عمايةٍ نحو الحقولِ ، وقد انشبت الحيرة في قلبهِ أظفارها ، يبدو كمن يهرول تاركا مهد الفضيحة ، يدرج في أكفانِ أحلامه البعيدة ، حتى إذا ابتلعه الأفق الفسيح ، اطلق ضحكة مخبولة ملتاعة ، ثم يبكي حتى يشبع من البكاءِ، وهو آخذ في تردادِ اسم امه بصوتٍ مكلوم ، وصيحة مبحوحة تظفر بها الدموع ، دقائق وتهدأ ثورته ، ويذهب عن قلبهِ الروع ، يجهد نفسه في التردادِ، فتعود إليهِ ثقته من جديدٍ ، يبدو اسم أمه كالبلسمِ الذي يوضع على الجروحِ ، ثم يشيّع السّماءَ بعينيهِ ، وصُفرة الموت تلبّد ملامحه ، يعود صوته يتحشرج بينَ ضلوعهِ من جديدِ ، تتراقص حبات العرق فوق حاجبيهِ ، يقضى نهاره منعزلا قبل أن يعود ثانية مع شيخوخةِ الليلِ، تبادره أمه بالسؤالِ المعتاد في لوعةٍ اهتياجٍ: أين كنت ..؟ ، ونظرات حانية تبرد لها كبده الحارة .
يظلّ في صمتهِ، بعدها ينظر إليها في ترفّقٍ، وكأنّه منتعش بخمرةٍ لذيذةٍ تلهب دمه ، فيها طراوة وجاذبيةٍ ، على الرّغمِ مما يبدو عليها من اهمال ، فجأة يتهلّل وجهه ، ثم يشرع في تطييبِ خاطرها .
كبر صاحبنا وتبدّلت أحواله ، منحته الدنيا نصيبه من حظوظها الميسورة ، راجت تجارة الغلال التي بدأها ، ابتنى دار واسعة على مدخل القريةِ، غاصَ البيت بالبنين والبنات ، اشترى متجرا كبيرا بعاصمةِ الإقليم ، كتب على واجهتهِ " محلات الحاج محمود أبو تفيده وأولاده ".
يشيّع اليافطة بأريحيةٍ عجيبة، يمسّ طرف شاربهِ المدبب ، يفتح درج مكتبه الخشبي العتيق ، يتحسّس لفائف بألوانها المختلفة من أوراقِ العملة في نشوةٍ وارتياح ، يرمي بنظرةٍ ناحيةِ الشّارعِ، وذكرى باهتة تتأرجح قلقة على أمواجِ الزّمن ، ورحماتهِ تتنزّل على أمهِ الرّاحلة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى