محمد فيض خالد - أصبوحة.. قصة قصيرة

أمسكَ بيده ِ المرتعشة أرغفته الخمسة ، وسَارَ مُتكئا على الجدارِ الحجري القديم ،يتحسّسه بيدهِ بينَ الفينةِ والأخرى ، ظَهَرَ وكأنّما يسرّ إليهِ بشيءٍ ما في صدرهِ ،لاحَ لمن يراه على غيرِ عادتهِ في كُلّ صباحٍ ، جَعلَ يغمغم مُبتسما، توقفَ قليلا مدّ يده في جيبهِ مضطربا ؛ ليخرجَ منديله ويمسح جبينه المندّى ، وقد دبّ بقلبه دبيب الخوف ، بعدها اطلقَ من صدرهِ زفرة طويلة حارة ، كادت تحرق حجاب قلبه ، التفت بحذرٍ يمنةً ويسرة قبل أن يمدّ عصاه متمايلا ، ثم دَلَفَ في الزُّقاقِ المعتم الضَّيق ، عن بعدٍ هَبّت عليهِ روائح الصّباح التي يألفها ، هذه "أم علي" بائعة الفول على بعدِ خطواتٍ منه ، لا أحد يضاهيها صنعة.
ألقى إليها التحية في توددٍ ، ردّتها عليهِ في عُجَالةٍ ، وهي منهمكة تغرف حبات الفول من قدرها العتيق ،
أشّرت إليهِ في صمتٍ بيدها ؛ ليمسكَ بكيس بلاستيكيٍ شفاف ،
انفرجت أساريره وهو يمدّ يده قابضا عليهِ ، سريعا شَرَع في هرسِ حباته الغلاظ السّاخنة منتشيا ، تناقله بين يديهِ في خفةٍ مألوفة، وابتسامةٍ ذابلة لا زالت تتأرجحُ فوقَ شفتيهِ السُّود، عَادَ أدراجه من حيث أتى ، يتأبّط أرغفته منهمكا في كيسِ الفول ..
قدرا تعثّرت قدمه في حفرةٍ صغيرةٍ ، فجأة هاجَ ساكنه واضطربت أعصابه ، اشَاحَ بوجههِ المُكفهر عاليا، عابسا يستغفر ، عن بعدٍ طالعته سيدة عجوز، في زاويةٍ من نافذةٍ مشرعة ، على الفورِ زمّت شفتيها في تلهفٍ عليهِ .
سالت نفسه حسرات ، شعر وكأنّ يدا تخنق كبرياءه خنقا ، سريعا تذكّر زوجته الراحلة ، التي ماتت وتركته فريسة يتعثّر في ذكراها مرة ، وفي أحجارِ الحارة وحفرها الكئيبة مرة ، زادَ انفعاله ، واتضحَ اهتياجه ، وكأنّما يُوبّخ فعلتها.
ران عليه الصّمت من جديدٍ ، وأنفاسه وكأنّما صهرتها نيران الألم ، جعلٍ يتمّتم ببضعِ كلماتٍ غير مفهومة ،
استدارت على وقع همسه فتاة شابة ، سقى الشباب عودها، وتلألأ جمالها بِشرا ، راحت تُقلِّب في وجههِ عينيها الحالمتين ، بادرته في تحننٍ ، قائلة : هل تريد شيئا يا عم إبراهيم ..؟
طالعها في إهمالٍ ، قائلا : لا يا بنتي ... لا أحد يستحق أن تضحي لأجلهِ ..
لجّمت إجابته لسانها ، واحمرّ وجهها خجلا ، فتسّمرت في مكانها مرتابة، لم تنطق ببنت شفه ، قالت متعجبة، في سِرها:
ماذا يقصد بمقالتهِ تلك ؟
مشى لبضعِ خطواتٍ يئنُّ من نكباتِ العيش وضربات الأيام ، ثم انعطفَ يمينا بمحازاةِ مقام سيدي الأسمر ، ليبتلعه الدّرب المُظلم ، ويغيبُ عن الأنظارِ ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى