د. أحمد جمعه

أن تعشق فتاة من دولة أخرى على الحدود، مثلا أن تقول لها: أحبّكِ من مصر، فترد: أحبّكَ من فلسطين، وليس بينك وبينها سوى مسافة بندقية، أن تعشق فتاة على الحدود، يصبح الوطن وردة تذبل والأسلاك الشائكة على الحدود شوكًا، وأنت نحلة، تجمع رحيق الهجرة، لتفضي به إليها في المساء -بينما تلوّحان لبعضيكما من خلف...
ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻣﻲ ﺗﻤﻀﻎ ﺍﻟﻌﻠﻜﺔ ﻻ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺤﺒﻬﺎ ﻭﻻ ﻟﺘﻐﻴﺮ ﺭﺍﺋﺤﺔ ﻓﻤﻬﺎ ﻭﻻ ﻟﺘﺸﻨﻖ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺇﻧﻤﺎ ﻟﺘﻠﺼﻘﻬﺎ ﺑﺒﻨﻄﺎﻝ ﺃﺑﻲ ﻓﻼ ﻳﻐﺎﺩﺭ ﺍﻟﺒﻴﺖ. ﻭﻛﺎﻥ ﺃﺑﻲ ﺩﺍﺋﻢ ﺍﻟﺨﻨﺎﻕ ﻣﻌﻬﺎ. ﻣﺬ ﻏﺎﺑﺖ ﺃﻣﻲ ﻭﺃﺑﻲ ﻻ ﻳﻐﺎﺩﺭ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻳﺠﻤﻊ ﺑﻨﺎﻃﻴﻠﻪ ﻳﻨﺰﻉ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﻌﻠﻜﺔ ﺍﻟﻨﺎﺷﻔﺔ ﻭﻳﻤﻀﻐﻬﺎ ﻟﻴﻐﻴﺮ ﺭﺍﺋﺤﺔ ﻓﻤﻪ ﺍﻟﺠﺎﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﻼﺕ ﻟﻴﺸﻨﻖ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻟﻴﺤﺲ ﺭﻳﻖ ﺃﻣﻲ ﻓﻲ ﻓﻤﻪ ﻭﻫﻮ ﻳﺼﺮﺥ: ﻛﻢ ﺍﺷﺘﻘﺖ...
حتى لو حمل لصدري بندقيته/ رماني بوردة جرحت وجهي بأشواكها/ مزّق احترامي وألقى بي في غيابات الإهانة/ أورثني اليأس والهرب اللامفر منه سوى الموت، يبقى وطني الأجمل مثل شمسٍ تجلدني بأشعتها وأحمل نورها في قلبي. رديء كل العالم في عيني حين يبكي وطني، وطني الذي لا يتقوّى إلا بي عليَّ، لكنه مثير للشفقة...
قلبي الشاسع لا يتسع سوى لامرأة واحدة تزججه بالحب وتنفض ما علق بستائره من غبار النساء تكنسه من الحزن تغسل جدرانه بدفء عينيها وتطهي له نبضها ليدق ثم تجلس في صمامه ذي الشرفتين تقرأ للنبضات قبل نومها كتابا بينما تحتسي اشتياقي وتدخن دمي امرأة تخيط في فراغها من أوردتي قبعة يعتمرها قلبها من نبضي وشاحًا...
حين أموت.. تبرعوا بقلبي لعصفور اعتزل التغريد مذ تنكر للشجرة أبناؤها فؤوسا، تبرعوا برئتي لشجرة لم تتنفس التغريد مذ صارت الريح لا تأتي للعصافير إلا بالمطر، تبرعوا بعينيَّ لشاعرٍ عميت عيون قلبه مذ لم تر حبيبته قصيدته تلك التي تغزَّل فيها بعينيها، تبرعوا بيدي للريح التي قطع الجفاء يدها مُذ حجبن...
جلس إلى جواري متعبًا، حكى لي عن الجميلات اللاتي اصطحبهن كما يحلو له في رحلة الأبد وعن الشباب الوسيمين الذين كسر لهم قلوبهم حين أخذ منهم -عنوة- حبيباتهم، حكى لي عن الطفلات البريئات اللاتي اغتصب طفولتهن وختم على عيونهن بدموع اليتم، وعن الأمهات اللاتي لم يتجاوزن الثلاثين وقد قام بركل أرحامهن حين...
أحب هؤلاء النسوة اللاتي لا يكتبن الشعر، لكنهن متذوقات بارعات للجمال ويعرفن الفن ذلك الذي لا يجهد أنوثتهن لكنه يجعل منهن دريات، أحبهن بذكائهن الصادق والذي لم يستنفد في كتابات مستهلكة أفكارها لكنهن يعرفن الشعر من آخر سطر، يعرفنه كما يعرفن الأسماك التي تسبح في دموع الفرح حاملة ألوان الأحبة، أحبهن...
قالوا بأنها ماتت، لكن نظراتها على وجهي لا زالت تعيد ترميم ملامحي ويدها في شعري تجني القطن وتخيط لليل الأقمار، لا زالت خطواتها تعدو في عظامي وأنفاسها تتسارع في رئتي وريقها يبلل مسمعي بصوت ابتلاعه، لا زالت ملامحها تعلّم عينيّ نطق الرؤية وحجرها يسحبني من يد النوم لمدينة الأحلام، لماذا قالوا بأنها...
بعد أن تهدم برجا صدرها لم يعد يأوي إليه حمام يده، صارت تربي تحت أنقاضهما المواويل والرسائل القديمة وبعض اللمسات الآتية من بعيد الذكريات، تغسل كل يوم صدرياتها المصلوبة في الدولاب بالنظرات ويائسة تلمها من على أحبال الدموع وتلوذ بأيام خوال. ولمّا قشّر الحنين صدأ قلبه عاد يبني كلّ ليلة على صدرها...
ربما عاما أو عامين.. ويكبر سنّكِ: الوقت بطيء جدًا أنوثتك عبء ثقيل عليكِ والليلة الواحدة على السرير تكلفكِ شهرًا من ألم المفاصل، الأبناء أنانيون لدرجة يصعب معها التصديق بأنهم من بطنكِ، العمل حمل إضافي لكن لا مفر منه لسد احتياجات البيت، البيت الذي يصبح ضائقا به عمركِ وقلبكِ بينما تقدُم إليكِ من...
غبي من يظن أنه.. أوقع بامرأة؛ كل ما فعلته أنت.. كان فخها الموارب الذي نصبته لك؛ لتقع فيه بملء عقلك الغبي. لسن ناقصات عقل يا عزيزي؛ إنهن ملكن الجزء العامل من عقولنا وتركن لنا كامل الظن بعقولنا المكتملة، نعم، مكتملة العطل. تقودنا شهواتنا المعلنة خلف كلامنا الخفي للوقوع في شَرك شهواتهن الخفية...
عليكِ أن تقنعي الجندي أن القبلة أشد فتكًا من القنبلة وأن رصاصة الحب حين تمر للقلب أصوب من رصاص البنادق. عليكِ أن تقنعيه أن رائحة الورد على قميصكِ الأحمر أزكى من رائحة الدم وأن قيادة السرير نحو طفلٍ يشبهه أسرع حلٍ لتسوية الحرب. عليكِ أن تقنعيه أن آهة النشوة لا تكافئها مليون آهة لأرملة أو مصاب وأن...
عملتُ فيما مضى حطابا أحطب أشجار الحزن المتكاثفة والمتشابكة في عينّي أمّي وأحرقها في مواقد البسمات، عملت أيضًا حمّالا وقفت كثيرًا بمحطات التعب أحمل حقائب أبي أبي الذي لم يترك الشقاء في جسده موضع قُبلة واحدة كنت أحمل حقائبه لنُزل الراحة، عملت حينًا خبازا أعجن شيب أبي وأمي بالقبلات وأخبزه بيدي...
الفتاة الوحيدة.. التي لم تجد يوما من تسند إليه حزنها إلا حزنها، ولم تجد من يجفف لها دموعها إلا أصابع ملح دموعها، ولم تحلم بأكثر من يد تربت على كتفها وذراع تلف ظهرها البارد فكانت اليد.. وكانت الذراع لظلّها.. الفتاة الوحيدة .. التي تقاسم أحزانها أحزانها وتبوح لعتمتها بانطفاء قلبها وتؤنس وحشتها...
لم تلدني أمّي كما تلدُ الأمّهات؛ كانت تحشّ البرسيم من حقلنا الذي تركه أبي جافًا تبكي فيه المناجل والتحق بصفوف الجند. كانت تحش البرسيمَ.. لتطعِم بقرتنا الجاف ضِرعها حزنًا على الساقية المريضة وخلفها رضيعها يخور كانت تحش البرسيم.. قبل أن يشيخ على جسد الحقل. فجأةً طلقت فجاءت جاراتنا الملطخات...

هذا الملف

نصوص
87
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى