د. محمد الهادي الطاهري

يخرج من مكتب البريد فرحا براتبه الشهري. ينزل السلم مسرعا. يشق الطريق دون التفات. برفع عينيه فجأة. ما أجمل هذه المرأة! لولا رائحة عطرها ما كان ينتبه إليها. يسير ورأسه إلى الوراء. يتابعها بعينين غائرتين وقلب فارغ وجيب لا شيء فيه سوى راتبه الهزيل وعلبة سجائر رديئة وقداحة صيتية الصنع. يستمر في السير...
جنودك صرعى من مسافة صفرنا ونارك صبت في نساء ورضٓع قتلت ألوف الأبرياء وتحسب يقتلهم تنجو ونجمك يسطع فجاءك قوم من خيار رجالنا يدوسون جندك بالنعال فتركع وها أنت تأتي للتفاوض صاغرا وتشرب الغسلين مرا وتجرع رويدك هذا بعض بأس رجالنا رايته رأيا فهل أنت تسمع يطل عليك أبو عبيدة شامخا بصوت يدوٓي في السماء...
بوراس رجل لا يعرف له الناس اسما غير هذه الكنية. هل كان وحده ذا رأس وبقية الناس بلا رؤوس حتّى يختصّ بهذه الكنية دونهم؟ طبعا هذا مستحيل، ولكنّ شكل رأسه الغريب هو الذي منحه هذا الامتياز. لقد كان رأسه أقرب ما يكون إلى مطرقة ضخمة، ولو نظرت فيه مليّا لوجدته مركبا من أربع قطع متلاصقة، قطعة مربّعة هي...
تشرين هذا واحة عنقود تمر أشقر في نخلة شمّاء في نهر عشق دافق في تربة سمراء. تشرين هذا شاعر، وثائر يطوف في الشوارع العتيقه يبعثر نظامها يكسّر زجاج واجهاتها يدمّر، يزمجر ويقلب الأشياء والأفكار والعوائد القديمه تشرين هذا شاعرُ المدينة الوحيد، وطفلها العنيد وعطرها، وفجرها السعيد تشرين ليس قصّة...
كل الذين أمامي أغراب. لا احد فيهم صديق أو رقيق. عيناي تجولان في كل اتجاه لعل صديقا أو رفيقا أو حتى واحدا ممن عرفته صدفة يمر أمامي. لا شيء في الصورة غير الأغراب. أحدهم استسمحني في الجلوس إلي. رفضت طلبه. رأيته يشمئز ثم رأيته ينسحب خاسئا. لابد أأنه يشتمني. هو حر. وأنا أيضا حر. الحربة مكفولة بموجب...
لم أنخرط في مسيرة تجوب شوارع المدينة منذ عشر سنوات على الأقل. واليوم فعلت. كان لابد أن أكون هناك استجابة لنداء المقاومة وأنصارها. مشيت نصف ساعة أو يزيد رأيت فيها وجوها قديمة من اصدقاء الماضي ووجوها أخرى لم أرها من قبل. هي وجوه فتيان وفتيات من طلاب الجامعات وتلاميذ المعاهد. بدت لي جميع الوجوه...
أيّ أفكار تدور في رأسك حين يلتحق جميع من درّستَ معهم سنوات بمعاهدهم مستبشرين باستئناف الدروس وأنت ممنوع لأنّك معفيّ من العمل بسبب مكيدة دبّرها لك البوليس السياسي وأحسن إخراجها بتواطؤ مع الإدارة والوزارة؟ عصفت برأسي أفكار غريبة. فكّرت وأنا في سيارة الأجرة أن أهجم على المدير الجهوي للتربية في...
في المقهى، في انتظار منتصف النهار، وما يترتب عليه من ازدحام مروري لا يليق بمدينة مثل مدينة الكاف، جلس قريبا مني ثلاثة شبان يافعين من تلامذة الثانوي. كانوا بلا هواتف تشغلهم. لا يعني ذلك أنهم من أبناء الفقراء فملامحهم كلهم تدل على أنهم من أبناء الطبقة الوسطى وكانوا يتحدثون بصوت مسموع وبعفوية وصدق...
دخل الفرندس مقهى فلورنسا. وهذا المقهى، دون غيره من مقاهي الشوارع الكبرى وسط العاصمة، لا يتّسع لأكثر من عشرين كرسيّ حول خمس طاولات خشبيّة عريضة. ولا يُسمح لرواد المقهى بتناول مشروباتهم وقوفا. وأغلب روّاده مثقّفون وأشباه مثقّفين وكان ذلك ظاهرا للعيان من هندامهم ووجوههم وطريقة حديثهم إلى بعضهم...
وممّا رواه الإشكيمو عن نفسه، بعد أن صار الناس يُنادونه الفرندس، أنّه خرج مساء يوم من أيام السبت يتسكّغ في شوارع العاصمة ولم يكن في جيبه من المال سوى نصف دينار واحتار في ما سيصرفه فاكتفى بسجائر معدودات وشيء من قلوب عبّاد الشمس المقليّة مضى يقضمها ويلفظ قشورها وهو يسير. ومن حظّه العاثر أنّه لفظ...
دخل الإشكيمو إذن المدرسة الخاصّة وأقام في المبيت الخاص التابع لها والتزم بأن لا يزور خاله في حيّ الزياتين إلاّ مرّة في الشهر. وكانت الثلاثون يوما تمرّ عليه ثقيلة، ثم صارت لا تعني شيئا فسرعان ما انخرط صاحبنا في شبكة علاقات أنسته الأخوال والأعمام وأنسته الأب والأمّ أيضا. قال: كنت أعتقد أنّ الهذبة...
هل كان استياء الهذبة ممّا أتاه الإشكيمو حين اعتذر للجماعة عمّا بدر منه علامة دالّة على ما قد يكون بينها وبين الإشكيمو ؟ سؤال سكن في رأس الإشكيمو حين بلغه الأمر، وظلّ يراجع تاريخ علاقته بها فلم يقف على شيء. فالهذبة لا تكاد تمرق من سياج التين الشوكي المحيط بمنزل أبيها من كل ناحية إلاّ قليلا. وإذا...
نشأ الإشكيمو نشأة صبيّ مطواع. درّبته أمّه على الخضوع لكلّ من هو أكبر منه. ودرّبه أبوه على الصمت والإصغاء فلا يتكلم إلاّ بمقدار ليقول نعم وحاضر وإن شاء الله ومعك حقّ وغيرها من العبارات الدالة على الانصياع للأوامر. ولم يجد المعلّمون صعوبة في التعامل معه سوى تدريبه على تعلّم الحساب وقواعد اللغة...
في ليلة من ليالي جويلية من سنة 1996، ولم يكن الحرّ ليلتها كحرّ هذه الليالي،استلقى الإشكيمو على ظهره أمام الحوش وتعلّقت عيناه الوقّادتان بنجوم السماء يعتزم عدّها. فجأة قفزت إلى رأسه فكرة عجيبة. قال في نفسه " لابدّ أن الهذبة بنت عمارة المدّب مستلقية هي ايضا أمام الحوش. ولابدّ أن أهلها كلّهم يعدّون...
في طريق العودة إلى الدار مساء يوم العيد توقفت لشراء علبة سجائر. قرأت على باب المتجر الصغير إعلانا فيه (للبيع قطعة أرض صالحة للبناء) دفعني الفضول فسألت صاحب المتجر، وكان شابا أنيقا، عن صاحب الإعلان فقال أبي وذاك رقم هاتفه ثم قال لا تكالمه اليوم فهو منشغل أو متعب ولا يرد على أحد. قلت ومتى يكون...

هذا الملف

نصوص
70
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى