موقف محرج 4

أنا، كما يعرفني الكثير منكم، مولع بالتدخين. ولا أكاد أترك السيجارة إلا عند النوم. وكيفما كان حالي كانت السيجارة بين يدي. لذلك كانت عدتي الوحيدة في رحلتي إلى لندن عشر علب من السجائر التونسية بحساب علبة لكل يوم. هكذا خططت، ولكن النظرية شيء والممارسة شيء آخر. إذ أتيت على العلب العشر في أقل من خمسة أيام رغم القيود الكثيرة في لندن على المدخنين. حتى الشوارع يستحي المرء من التدخين فيها من فرط نظافتها. لذلك كان اول ما أبحث عنه في كل شارع أعبره تلك الحاويات فأقف إلى جانب هذه الحاوية أو تلك بضعة دقائق أنفث دخانا في الهواء ورمادا في جوف الحاوية والعابرون منهم من يرمقني باستياء ومنهم من لا ينتبه إلي ومنهم من أثرته وشجعته بفعلتي الغريبة فيقف إلى جانبي ويدخن بشراهة مثلي أو أزيد مني بكثير. قال أحدهم وهو يقف إلى الحاوية على يميني: فكرة جيدة، لم أنتبه إليها البتة فشكرا على هذه البدعة. قلت مازحا: ندخن تلبية لرغباتنا الشخصية ونقف قرب الحاوية احتراما لنظافة الشارع. قال مبتسما : فلسفة من فلسفات الحقوق. وافترقنا. عند حاوية أخرى وقفت إلى جانبي سيدة لم أدر إن كانت شقراء أو سمراء. فتشت في حقيبتها برهة ثم سألتني: سيجارة من فضلك. ناولتها واحدة من سجائري التونسية. أمسكتها بلطف وطلبت قداحة. ساعدتها في إشعال السيجارة بضغطة مني على مفتاح القداحة. قالت وهي تمتص السيجارة: هذا لطف منك يا سيدي. لم أعش هذا المشهد منذ سنوات. لم أشجعها على الاستمرار في رواية قصتها واكتفيت بأن قلت: وداعا سيدتي. استمتعي بطعم السيجارة التونسية. سمعتها تقول متعجبة: تونيزين ! سمعت بهذه الكلمة. ماذا تعني؟ قلت: نسبة إلى بلد أسمه تونس. قالت وأين يقع؟ قلت: في شمال إفريقيا. قالت: تعني ميدل إيست ؟ قلت: تقريبا. صمتت قليلا وهي تقلب السيجارة بين أناملها: لا أكاد أعرف عن ميدل إيست شيئا سوى جوريزاليم. سمعت عنها في حفلة زواجي الثاني. كان والد زوجي يقول،: وصلت من جوريزاليم منذ ساعة. قلت مازحا: شكرا للرب الذي منحك فرصة ثانية لتسمعي بهذه المدينة التي نسميها القدس. قالت متعجبة: مدينة واحدة باسمين اثنين ! قلت نعم، وما الغريب في ذلك وأنتم تقولون عن عاصمتكم لندن ويسميها الفرنسيون لندرة. واستمر الحوار على هذه الوتيرة حتى نهبت مني خمس سجائر في أقل من نصف ساعة. وافترقنا. كانت تبتعد وهي تردد بأعلى صوتها: تونيزين، جوريزاليم. باي مستر. أما أنا فاكتفيت بتفقد علبة السجائر التي خرجت بها منذ ساعة فإذا هي خاوية لم يبق منها غير خمس سجائر أو أقل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى