دخلت من الباب في حركة سريعة، حيث وثبت الدرجتين، وقد بدت على وجهي لمحة استفسار واضحة، رفع الرجل بصره نحوي، فتوقفت اندفاعتي وقد بترت عبارة السلام عليكم في صدى خفيف تردد بعيداً وغاب، وبدت الحيرة جلية مما دفع به إلى أن يرد التحية ببطء ووضوح، ويضيف كلمة (تفضلي)، فتحت فمي وأغلقته مرة، ثم قلت في عبارة سريعة بكلمات متلاحقة:
– عفواً، اعتدت ابتياع اللحم من هنا، ولكن يبدو أن العامل غير موجودة!!
ابتسم في حزن خفيف:
– إن كنت تقصدين علي فهو لم يعد يعمل هنا.
قلت مباشرة:
– ترك المحل، أم ترك البلاد؟!
أجاب:
– كلا، للأسف تعرض لحادث، و…
صمت للحظة، قلت خلالها:
– مريض في المستشفى؟!
هز رأسه بدون ابتسام:
– بل أعطاك عمره!
مباشرة خرج الصوت من حلقي مرددة:
– يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي، ولكن!!
قال متحيراً:
– لماذا يا سيدتي، هناك شيء آلمك؟! أم ماذا؟؟
اتكأت بمرفقي على حافة المنضدة الزجاجية، وقد تجلّى أمامي أنواع اللحم التي جهزها العامل الجديد لبيع ذلك اليوم، وقلت في بطء:
– المسألة إنني له عندي في عهدتي مال لم أستطع دفعه قبل شهر، وكان عليّ أن أعود بعد ذلك اليوم بأسبوع، إلا أن ظرفاً ملحاً عاقني، وكما ترى، فإن هذا الأمر يجب أن يسوى بمعرفة صاحب المحل.
هتف العامل:
– إن شئت الدفع الآن لا بأس، وإن شئت الانتظار حتى يأتي صاحب المحل لا بأس أيضاً!
خمنت في سرعة، وقلت في سري، إن وثقت في أمانته استمرار تعامل في المستقبل، وسألقي الاهتمام ذاته بل وأكثر، لذلك أخرجت السبعين دينار التي يجب أن أدفعها، وسلمتها له، أخذها، عدها ثم وضعها في جيب قميصه البادي من تحت معطف العمل الأبيض، وقبل أن أنطق، تساءل إن كنت أرغب في ابتياع شيء من اللحم، قلت بلى، وأخذت ما رغبت وخرجت، وأنا أفكر في الذي حدث وقدران أسى غريب على نفسي، إذا تذكرت المرة الأولى التي دخلت فيها هذا المحل قبل أكثر من سنة، وكيف تضايق الفقيد المسمى علي عندما رفضت أن آخذ اللحم المفروم مسبقاً مصرة على أن اختار أنا القطعة التي أريد، على أن يفرمها لي، وقلت له في خضم النقاش:
– أنا لست بمستعدة لأن يغشني بائع آخر!
تساءل في حيرة وانزعاج:
– ماذا تقصدين بكلمة بائع؟!
ولأنه ليس ليبياً فقد فهمت فوراً سبب انزعاجه، وأكدت له أن ما دار في خلده لا علاقة له بما أردت، وإن ما أريده حقاً هو أن أعامل بنظافة وصدق وثقة، فالغش مرفوض من جانبي ومن جانبه بغض النظر عن الذي يجري حولنا للآخرين.
وهكذا انتبهت إلى عظم الخسارة التي منيت بها إن لم يكن العامل الجديد عند حسن الظن، ورجوت خيراً، حيث اتجهت صوب المحل المعهود فوجدت صاحبه فيه، ومباشرة أدركت جودة معدن الذي سلمت له النقود، إذ بادرني الرجل في عبارات متلاحقة:
– لقد سلمني كريم النقود كلها، كنت أعرف بأنك سوف تأتين يوماً وتدفعين ما عليك، لكن خيراً، ماذا حصل؟!
وشرحت له في عبارات مقتضبة ما شغلني في الفترة التي تلت، ثم قلت في وضوح:
– أيمكنني أن أتعامل مع كريم بذات الأسلوب!؟
قال فاتحاً فاهه في ترحيب جلي:
– طبعاً، طبعاً، طبعاً.
وفهمت سر ترحيب صاحب محل الجزارة، ذلك أنني التي أهتم بشراء احتياجات بيتي وبيوت القريبات بما فيها بيت حماتي، وبيت أمي، ولذلك فالمال الذي أدفعه شهرياً مسألة تحث على الترحيب الحار بالأسلوب الذي كنت قد خططت له مع علي، لكنني هذه المرة كنت أدير في رأسي فكرة غريبة باعثة على التوتر، ورانت في أعماقي ابتسامة خفيفة ظلت مجرد ابتسامة في الأعماق، أما وجهي فقد ظل في جماده وجديته، وخرجت بالرزمة الكبيرة، أخذت السيارة وقد شدني وجه بسيط هو وجه كريم، فالشاب الصغير مثير للاهتمام حقاً، بل إنه باعث على التخطيط لمسألة شديدة السرية، وشديدة الخطورة، قبعت خلف المقود وفكرت في الأوقات التي يتواجد فيها كريم في المحل، إذ أنه يغطي مكاناً آخر يعمل فيه ليعد (المرقاز) (1)، ويجهز الرؤوس والأكرع، وفي الغد حضرت وجدته بمفرده بطبيعة الحال، فصاحب الجزارة غير متواجد، ودخلت خطوة واحدة لأتأكد من خلو المكان من رجل آخر أو امرأة أو طفل، وهب كريم هاشاً مرحباً بي، لقد تذكرني فوراً وهذا ما يسر لي المهمة، قلت مباشرة:
– نهارك سعيد يا كريم، أريد من هذا وهذا وذاك!
وسرعان ما التفت إلى عمله، صرت أتملاه، وفكرت جميع صاحباتي لديهن أصدقاء ولوحدي خشيت السلوك، لكن المبادرة هذه المرة جعلتني أكثر شجاعة، وتقدمت خطوة أخرى، وسألته بصورة تلقائية وفقط لملء الوقت حتى ينهي العمل الذي كلفته به:
– أين تقيم يا كريم، طبعاً أسرتك معك!!
هز رأسه نفياً، وهو منهك في سلخ قطعة اللحم الكبيرة من عرق كبير كريه المنظر مبعداً إياه، وأجاب في ذات اللحظة:
– بل أنام في آخر المحل، وراء الثلاجة، إذ ليس لدي أسرة.
سألته في حيرة بادية:
– من أين تدخل وتخرج وقت قفل المحل؟!
هنا كف عن العمل الذي يقوم به، إذ أخرج العرق الكبير المزرق، وخطا خطوتين خارج الباب بعد أن ألقى به في كيس القمامة، وأشار شارحاً:
– من هنا يوجد باب صغير جداً، ملحق بالمحل، استخدمه في دخولي وخروجي.
قلت:
– آه.
ولم أزد، بل تابعت تقطيعه الذي أوشك على الانتهاء منه، ومضيت أراقب عملية الفرم التي بدت دهراً، لكن لا بأس، ذلك أنني صرت بعيدة بذهني عن المحل وعن اللحم وعن كريم وعن كل شيء، وصرت فقط أتوق للعودة إلى بيتي كي أرتب أموري، وأهيئ نفسي للمغامرة المنتظرة، وانتبهت إلى صوته العميق يضع الأكياس على المنضدة الزجاجية، ويمسح يديه المدماتين، يقول في وضوح:
– عفواً سيدتي الكريمة، أنهيت المطلوب.
ودفعت القيمة التي ذكرها، دون مراجعة، وهما كان الفرق إن كان هناك فرق فأنا لا أريد أن يشعر بالإهانة أوجهها إليه، ذلك أنني أريد وفي شدة أن أصبح صديقة حقيقية، تجمعنا ثقة كبيرة متبادلة.
وعلى هذا عدت إلى البيت والشيء الوحيد الذي أخرني هو مروري على بيت أمي لأسلمها ما طلبت، وعندما ألحت في بقائي لشرب كوب من الشاي لم أستمع إليها، بل أصررت على الذهاب وفوراً، ووصلت هناك حيث لم أجد أحداً، وكنت أعرف ذلك، فزوجي يبيت ليلته مع زوجته التالية التي تزوجها قبل شهرين، تحت إلحاحي، ليصير أباً، وكنت أدرك أن العيب فيه، لكنني لم أشأ أن أصدم غروره كرجل، فلم أبين لأحد هذه الحقيقة حتى هو، خصوصاً وأن أمه باتت شديدة القسوة وتريد له أبناء من صلبه، ولأنها لم تسئ إليّ بشيء إلا أنني أحسست بالرغبة في مساعدة الجميع، جميع الأطراف، فعملت ما بوسعي كي يسعدوا.
ولذلك دخلت مباشرة إلى الحمام فاغتسلت ونمت قليلاً، وعندما استفقت كان الوقت قد صار متأخراً نسبياً، فتعطرت وارتديت ثوباً مكشوفاً، وضعت فوقه جبتي الحريرية السوداء، وغطيت شعري الأسود الثقيل الكثيف بإشارب حريري كبير ذي شراريب ثقيلة ذات رتابة متناسقة عندما أخطو على الأرض بالكعب العالي الدقيق، وهكذا خرجت صوب الوجهة التي وضعتها نصب عيني، وسرعان ما لفني هدوء الشارع الذي يقع فيه المحل الذي أقصده، وأبطأت السيارة، ثم خفضت الضوء تماماً حتى لا يراني أحد، ثم انتظرت برهة فانتبهت لدقات قلبي العنيفة وهي تجابه المستقبل، وخلتني أوشك على مقابلة حبيبي للمرة الأولى، واستعذت من الشيطان، وقد تتالت الصور العديدة تعلمني بالذي يحدث اعتماداً على ما كان يحدث، وصرت متوترة بشكل كبير، لذلك كمنت في مكاني في السيارة أنتظر حتى أهدأ، وما إن حصل ذلك، حتى خرجت إلى قرب المحل، ومددت يدي فنقرت نقرتين متتاليتين، وتوقفت أنتظر الذي سيحصل، وهذا ما تلا لقد سمعت صوته يسأل في نبرة حائرة، عمن الطارق، ولم أرد، خشيت أن يكون معه رجل أو امرأة في الداخل، فعاد يسأل مرة أخرى، وعندما لم أرد، جاء إلى سمعي صوت صليل قفل الباب وقد أدار المفتاح، دورة ثم دورة ثم انفتح الباب الصغير كله، ووقف كريم على عتبته، وقد بانت الدهشة على ملامحه البسيطة الشابة، ونبس في حيرة:
– سيدة، سيدتي، ما الأمر؟!
وقفت برهة في مكاني، ثم انتبه لنفسه وأفسح الباب الصغير مضيفاً:
– تفضلي سيدتي، لكن أنا لوحدي، و…
ولم أسمع بقية كلامه، لأنه تناهى إلى أذني آيات من القرآن الكريم كان كريم ينصت إليها، وأكمل:
– أرجوك سيدتي، أكرر أنا لوحدي!!
_________________________
طرابلس الغرب- الجمعة 28 مارس 1997
– عفواً، اعتدت ابتياع اللحم من هنا، ولكن يبدو أن العامل غير موجودة!!
ابتسم في حزن خفيف:
– إن كنت تقصدين علي فهو لم يعد يعمل هنا.
قلت مباشرة:
– ترك المحل، أم ترك البلاد؟!
أجاب:
– كلا، للأسف تعرض لحادث، و…
صمت للحظة، قلت خلالها:
– مريض في المستشفى؟!
هز رأسه بدون ابتسام:
– بل أعطاك عمره!
مباشرة خرج الصوت من حلقي مرددة:
– يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي، ولكن!!
قال متحيراً:
– لماذا يا سيدتي، هناك شيء آلمك؟! أم ماذا؟؟
اتكأت بمرفقي على حافة المنضدة الزجاجية، وقد تجلّى أمامي أنواع اللحم التي جهزها العامل الجديد لبيع ذلك اليوم، وقلت في بطء:
– المسألة إنني له عندي في عهدتي مال لم أستطع دفعه قبل شهر، وكان عليّ أن أعود بعد ذلك اليوم بأسبوع، إلا أن ظرفاً ملحاً عاقني، وكما ترى، فإن هذا الأمر يجب أن يسوى بمعرفة صاحب المحل.
هتف العامل:
– إن شئت الدفع الآن لا بأس، وإن شئت الانتظار حتى يأتي صاحب المحل لا بأس أيضاً!
خمنت في سرعة، وقلت في سري، إن وثقت في أمانته استمرار تعامل في المستقبل، وسألقي الاهتمام ذاته بل وأكثر، لذلك أخرجت السبعين دينار التي يجب أن أدفعها، وسلمتها له، أخذها، عدها ثم وضعها في جيب قميصه البادي من تحت معطف العمل الأبيض، وقبل أن أنطق، تساءل إن كنت أرغب في ابتياع شيء من اللحم، قلت بلى، وأخذت ما رغبت وخرجت، وأنا أفكر في الذي حدث وقدران أسى غريب على نفسي، إذا تذكرت المرة الأولى التي دخلت فيها هذا المحل قبل أكثر من سنة، وكيف تضايق الفقيد المسمى علي عندما رفضت أن آخذ اللحم المفروم مسبقاً مصرة على أن اختار أنا القطعة التي أريد، على أن يفرمها لي، وقلت له في خضم النقاش:
– أنا لست بمستعدة لأن يغشني بائع آخر!
تساءل في حيرة وانزعاج:
– ماذا تقصدين بكلمة بائع؟!
ولأنه ليس ليبياً فقد فهمت فوراً سبب انزعاجه، وأكدت له أن ما دار في خلده لا علاقة له بما أردت، وإن ما أريده حقاً هو أن أعامل بنظافة وصدق وثقة، فالغش مرفوض من جانبي ومن جانبه بغض النظر عن الذي يجري حولنا للآخرين.
وهكذا انتبهت إلى عظم الخسارة التي منيت بها إن لم يكن العامل الجديد عند حسن الظن، ورجوت خيراً، حيث اتجهت صوب المحل المعهود فوجدت صاحبه فيه، ومباشرة أدركت جودة معدن الذي سلمت له النقود، إذ بادرني الرجل في عبارات متلاحقة:
– لقد سلمني كريم النقود كلها، كنت أعرف بأنك سوف تأتين يوماً وتدفعين ما عليك، لكن خيراً، ماذا حصل؟!
وشرحت له في عبارات مقتضبة ما شغلني في الفترة التي تلت، ثم قلت في وضوح:
– أيمكنني أن أتعامل مع كريم بذات الأسلوب!؟
قال فاتحاً فاهه في ترحيب جلي:
– طبعاً، طبعاً، طبعاً.
وفهمت سر ترحيب صاحب محل الجزارة، ذلك أنني التي أهتم بشراء احتياجات بيتي وبيوت القريبات بما فيها بيت حماتي، وبيت أمي، ولذلك فالمال الذي أدفعه شهرياً مسألة تحث على الترحيب الحار بالأسلوب الذي كنت قد خططت له مع علي، لكنني هذه المرة كنت أدير في رأسي فكرة غريبة باعثة على التوتر، ورانت في أعماقي ابتسامة خفيفة ظلت مجرد ابتسامة في الأعماق، أما وجهي فقد ظل في جماده وجديته، وخرجت بالرزمة الكبيرة، أخذت السيارة وقد شدني وجه بسيط هو وجه كريم، فالشاب الصغير مثير للاهتمام حقاً، بل إنه باعث على التخطيط لمسألة شديدة السرية، وشديدة الخطورة، قبعت خلف المقود وفكرت في الأوقات التي يتواجد فيها كريم في المحل، إذ أنه يغطي مكاناً آخر يعمل فيه ليعد (المرقاز) (1)، ويجهز الرؤوس والأكرع، وفي الغد حضرت وجدته بمفرده بطبيعة الحال، فصاحب الجزارة غير متواجد، ودخلت خطوة واحدة لأتأكد من خلو المكان من رجل آخر أو امرأة أو طفل، وهب كريم هاشاً مرحباً بي، لقد تذكرني فوراً وهذا ما يسر لي المهمة، قلت مباشرة:
– نهارك سعيد يا كريم، أريد من هذا وهذا وذاك!
وسرعان ما التفت إلى عمله، صرت أتملاه، وفكرت جميع صاحباتي لديهن أصدقاء ولوحدي خشيت السلوك، لكن المبادرة هذه المرة جعلتني أكثر شجاعة، وتقدمت خطوة أخرى، وسألته بصورة تلقائية وفقط لملء الوقت حتى ينهي العمل الذي كلفته به:
– أين تقيم يا كريم، طبعاً أسرتك معك!!
هز رأسه نفياً، وهو منهك في سلخ قطعة اللحم الكبيرة من عرق كبير كريه المنظر مبعداً إياه، وأجاب في ذات اللحظة:
– بل أنام في آخر المحل، وراء الثلاجة، إذ ليس لدي أسرة.
سألته في حيرة بادية:
– من أين تدخل وتخرج وقت قفل المحل؟!
هنا كف عن العمل الذي يقوم به، إذ أخرج العرق الكبير المزرق، وخطا خطوتين خارج الباب بعد أن ألقى به في كيس القمامة، وأشار شارحاً:
– من هنا يوجد باب صغير جداً، ملحق بالمحل، استخدمه في دخولي وخروجي.
قلت:
– آه.
ولم أزد، بل تابعت تقطيعه الذي أوشك على الانتهاء منه، ومضيت أراقب عملية الفرم التي بدت دهراً، لكن لا بأس، ذلك أنني صرت بعيدة بذهني عن المحل وعن اللحم وعن كريم وعن كل شيء، وصرت فقط أتوق للعودة إلى بيتي كي أرتب أموري، وأهيئ نفسي للمغامرة المنتظرة، وانتبهت إلى صوته العميق يضع الأكياس على المنضدة الزجاجية، ويمسح يديه المدماتين، يقول في وضوح:
– عفواً سيدتي الكريمة، أنهيت المطلوب.
ودفعت القيمة التي ذكرها، دون مراجعة، وهما كان الفرق إن كان هناك فرق فأنا لا أريد أن يشعر بالإهانة أوجهها إليه، ذلك أنني أريد وفي شدة أن أصبح صديقة حقيقية، تجمعنا ثقة كبيرة متبادلة.
وعلى هذا عدت إلى البيت والشيء الوحيد الذي أخرني هو مروري على بيت أمي لأسلمها ما طلبت، وعندما ألحت في بقائي لشرب كوب من الشاي لم أستمع إليها، بل أصررت على الذهاب وفوراً، ووصلت هناك حيث لم أجد أحداً، وكنت أعرف ذلك، فزوجي يبيت ليلته مع زوجته التالية التي تزوجها قبل شهرين، تحت إلحاحي، ليصير أباً، وكنت أدرك أن العيب فيه، لكنني لم أشأ أن أصدم غروره كرجل، فلم أبين لأحد هذه الحقيقة حتى هو، خصوصاً وأن أمه باتت شديدة القسوة وتريد له أبناء من صلبه، ولأنها لم تسئ إليّ بشيء إلا أنني أحسست بالرغبة في مساعدة الجميع، جميع الأطراف، فعملت ما بوسعي كي يسعدوا.
ولذلك دخلت مباشرة إلى الحمام فاغتسلت ونمت قليلاً، وعندما استفقت كان الوقت قد صار متأخراً نسبياً، فتعطرت وارتديت ثوباً مكشوفاً، وضعت فوقه جبتي الحريرية السوداء، وغطيت شعري الأسود الثقيل الكثيف بإشارب حريري كبير ذي شراريب ثقيلة ذات رتابة متناسقة عندما أخطو على الأرض بالكعب العالي الدقيق، وهكذا خرجت صوب الوجهة التي وضعتها نصب عيني، وسرعان ما لفني هدوء الشارع الذي يقع فيه المحل الذي أقصده، وأبطأت السيارة، ثم خفضت الضوء تماماً حتى لا يراني أحد، ثم انتظرت برهة فانتبهت لدقات قلبي العنيفة وهي تجابه المستقبل، وخلتني أوشك على مقابلة حبيبي للمرة الأولى، واستعذت من الشيطان، وقد تتالت الصور العديدة تعلمني بالذي يحدث اعتماداً على ما كان يحدث، وصرت متوترة بشكل كبير، لذلك كمنت في مكاني في السيارة أنتظر حتى أهدأ، وما إن حصل ذلك، حتى خرجت إلى قرب المحل، ومددت يدي فنقرت نقرتين متتاليتين، وتوقفت أنتظر الذي سيحصل، وهذا ما تلا لقد سمعت صوته يسأل في نبرة حائرة، عمن الطارق، ولم أرد، خشيت أن يكون معه رجل أو امرأة في الداخل، فعاد يسأل مرة أخرى، وعندما لم أرد، جاء إلى سمعي صوت صليل قفل الباب وقد أدار المفتاح، دورة ثم دورة ثم انفتح الباب الصغير كله، ووقف كريم على عتبته، وقد بانت الدهشة على ملامحه البسيطة الشابة، ونبس في حيرة:
– سيدة، سيدتي، ما الأمر؟!
وقفت برهة في مكاني، ثم انتبه لنفسه وأفسح الباب الصغير مضيفاً:
– تفضلي سيدتي، لكن أنا لوحدي، و…
ولم أسمع بقية كلامه، لأنه تناهى إلى أذني آيات من القرآن الكريم كان كريم ينصت إليها، وأكمل:
– أرجوك سيدتي، أكرر أنا لوحدي!!
_________________________
طرابلس الغرب- الجمعة 28 مارس 1997