ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان رجل تاجر اسمه مسرور وكان ذلك الرجل من أحسن أهل زمانه كثير المال مرفه الحال ولكنه كان يحب النزهة في الرياض والبساتين ويتلهى بهوى النساء الملاح فاتفق إنه كان نائماً في ليلة من الليالي فرأى في نومه أنه في روضة من أحسن الرياض وفيها أربع طيور من جملتهما حمامة بيضاء مثل الفضة المجلية فأعجبته تلك الحمامة وصار في قلبه منها وجد عظيم وبعد ذلك رأى أنه نزل عليه طائر عظيم خطف تلك الحمامة من يده فعظم ذلك عليه، ثم بعد ذلك انتبه من نومه فلم يجد الحمامة فصار يعالج أشواقه إلى الصباح فقال في نفسه لا بد أن أروح اليوم إلى من يفسر لي هذه المنام.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور التاجر لما انتبه من نومه صار يعالج أشواقه إلى الصباح وقال لا بد أن أروح اليوم إلى من يفسر لي هذا المنام، فقام يمشي إلى أن بعد عن منزله فلم يجد من يفسر له هذا المنام، ثم بعد ذلك طلب الرجوع إلى منزله فبينما هو في الطريق إذا خطر بباله أن يمر على دار من دور التجار وكانت تلك الدار لبعض الأغنياء فلما وصل إليها وإذا به يسمع بها صوت أنين من كبد حزين وهو ينشد هذه الأبيات:
نسيم الصبا هبت لنا من رسومها = معطرة يشفي العليل شميمهـا
وقفت بأطـلال دوارس سـائلاً = وليس يجيب الدمع إلا رميمها
فقلت نسيم الريح بالله خـبـري = هل الدار هذي قد يعود نعيمها
وأحظى بظبي مال بي لين قده = وأجفانه الوسنا ضناني سقيمها
فلما سمع مسرور ذلك الصوت نظر في داخل البيت فرأى روضة من أحسن الرياض في باطنها ستر من ديباج أحمر مكلل بالدر والجوهر وعليه من وراء الستر أربع جوار بينهن صبية دون الخماسية وفوق الرباعية كأنها البدر المنير والقمر المستدير بعينين كحيلتين وحاجبين مقرنين وفم كأنه خاتم سليمان وشفتين وأسنان كالدر والمرجان وهي تسلب العقول بحسنها وجمالها وقدها واعتدالها فلما رآها مسرور دخل الدار وبالغ في الدخول حتى وصل إلى الستر فرفعت رأسها إليه ونظرته فعند ذلك سلم عليها فردت عليه السلام بعذوبة الكلام. فلما نظرها وتأملها طاش عقله وذهب قلبه ونظر إلى الروضة وكانت من الياسمين المنثور والبنفسج والورد والنارنج وجميع ما يكون فيها من المشموم وقد توشحت جميع الأشجار بالأثمار وفي تلك الروضة طيور من قمري وحمام وبلبل ويمام وكل طير يغرد بصوته والصبية تتمايل في حسنها وجمالها وقدها واعتدالها يفتتن بها كل من رآها ثم قالت أيها الرجل ما الذي أقدمك على دار غير دارك وعلى جوار غير جوارك من غير إجازة أصحابها، فقال لها: يا سيدتي رأيت هذه الروضة فأعجبني حسن اخضرارها وفيح أزهارها وترنم أطيارها فدخلتها لأتفرج فيها ساعة من الزمان وأروح إلى حال سبيلي، فقالت له حباً وكرامة. فلما سمع مسرور التاجر كلامها ونظر إلى ظرفها ورشاقة قدها تحير من حسنها وجمالها ومن لطافة الروضة والطير، فطار عقله من ذلك وصار متحيراً في أمره وأنشد هذه الأبيات:
قمري تبدي في بديع محاسـن = بين الربا والرواح والريحـان
والآس والنسرين ثم بنفـسـج = فاحت روائحه من الأغصـان
يا روضة كملت بحسن صفاتها = وحوت جميع الزهر والأفنان
فالبدر يجلي تحت ظل غصونها = والطير تنشد أطيب الألحـان
قمريها وهزارها ويمـامـهـا = وكذا البلابل هيجت أشجانـي
وقف الغرام بمهجتي متحـيراً = في حسنها كتحير السـكـران
فلما سمعت زين المواصف شعر مسرور نظرت إليه نظرة أعقبتها ألف حسرة وسلبت بها عقله ولبه وأجابته عن شعره بهذه الأبيات:
لا ترتجى وصل التي علقتهـا = وأقطع مطامعك التي أماتهـا
وذر الذي ترجوه أنك لم تطق = صد التي في الغانيات عشقتها
تجنى على العشاق الحاظي ولم = تعظم على مقالة قد قلتـهـا
فلما سمع مسرور كلامها تجلد وكتم أمرها في سره وتنكر وقال في نفسه ما للبلية إلا الصبر ثم داموا على ذلك إلى أن هجم الليل، فأمرت بحضور المائدة فحضرت بين أيديهما، وفيها من سائر الألوان من السماني وأفراخ الحمام ولحوم الضأن فأكلا حتى اكتفيا، ثم أمرت برفع الموائد فرفعت وحضرت آلات الغسل فغسلا أيديهما، ثم أمرت بوضع الشمعدانات فوضعت وجعل فيها شمع الكافور، ثم بعد ذلك قالت زين المواصف والله أن صدري ضيق في هذه الليلة لأني محمومة، فقال لها مسرور شرح الله صدرك وكشف غمك، فقالت يا مسرور أنا معودة بلعب الشطرنج فهل تعرف فيه شيئاً؟ قال أنا عارف به. فقدمته بين أيديهما، وإذا هو من الآبنوس مقطع بالعاج له رقعة مرقوقة بالذهب الوهاج وحجارته من درٍ وياقوت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنها لما أمرت بإحضار الشطرنج أحضروه بين أيديهما فلما رآه مسرور حار فكره فالتفتت إليه زين المواصف وقالت له: هل تريد الحمر أم البيض؟ فقال: يا سيدة الملاح وزين الصباح خذي أنت الحمر لأنهم ملاح ولمثلك أملح ودعي لي الحجارة البيض. فقالت: رضيت بذلك. فأخذت الحمر وصفتها مقابل البيض ومدت يديها إلى القطع تنقل في الميدان فنظر إلى أناملها، فرآها كأنها من عجين، فاندهش مسرور من حسن أناملها ولطف شمائلها فالتفتت إليه وقالت: يا مسرور لا تندهش وأصبر وأثبت، فقال لها يا ذات الحسن الذي فضح الأقمار إذا نظرك المحب كيف يكون له اصطبار.
فبينما هو كذلك وإذا هي تقول له: الشاه مات فغلبته عند ذلك وعلمت زين المواصف أنه بحبها مجنون، فقالت له يا مسرور لا ألعب معك إلا برهن معلوم وقدر مفهوم. فقال لها: سمعاً وطاعةً. فقالت له أحلف لي وأحلف لك أن كلا منا لا يغدر صاحبه. فحلفا معاً على ذلك فقالت له: يا مسرور إن غلبتك أخذت منك عشرة دنانير، وأن غلبتني فأعمل معي ما تريد فظن أنه يغلبها. فقال لها: يا سيدتي لا تخشي في يمينك فإني أراك أقوى مني في اللعب. فقالت له: رضيت بذلك وصار يلعبان ويتسابقان بالبيادق، وألحقهم بالإفراز وصفتهم وقرتهم بالرخاخ وسمحت النفس بتقديم الأفراس، وكان على رأس زين المواصف وشاح من الديباج الأزرق فرفعته عن رأسها وشمرت عن معصم كأنه عمود من نور ومرت بكفها على القطع الحمر وقالت له خذ حذرك فاندهش مسرور وطار عقله وذهب لبه ونظر إلى رشاقتها ومعانيها فاحتار وأخذه الأنبهار، فمد يده إلى البيض فراحت إلى الحمر، فقالت: يا مسرور أين عقلك الحمر لي والبيض لك، فقال لها: إن من ينظر إليك يشرد عقله.
فلما نظرت زين المواصف إلى حاله أخذت منه البيض وأعطته الحمر فلعب بها فغلبته ولم يزل يلعب معها وهي تغلبه ويدفع لها في كل مرة عشرة دنانير، فلما عرفت زين المواصف أنه مشغول بهواها قالت له: يا مسرور ما بقيت تنال مرادك إلا إذا كنت تغلبني كما هو شرطك ولا بقيت ألعب معك في كل مرة إلا بمائة دينار. فقال لها حباً وكرامة، فصارت تلاعبه وتغلبه وتكرر ذلك وهو في كل مرة يدفع لها المائة دينار، وداما إلى الصباح وهو لم يغلبها أبدا فنهض قائماً على أقدامه فقالت له ما الذي تريد يا مسرور قال لها: أمضي إلى منزلي وآتي بمالي لعلي أنل منك آمالي، فقالت له: أفعل ما تريد مما بدا لك فمضى إلى منزله وأتاها بالمال جميعه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور لما مضى إلى منزله وأتى لها بالمال جميعه صار يلعب معها وهي تغلبه ولم يقدر أن يغلبها دوراً واحداً، ولم يزالا كذلك ثلاثة أيامٍ حتى أخذت منه جميع ماله، فلما نفد ماله قالت له: يا مسرور ما الذي تريد؟ قال ألاعبك على دكان العطارة قالت له كم يساوي تلك الدكان؟ قال خمسمائة دينار فنلعب بها خمسة أشواط فغلبته، ثم لعب معها بها على الجواري والعقارات والبساتين والعمارات فأخذت منه ذلك كله وجميع ما يملكه، وبعد ذلك التفتت إليه وقالت له: هل بقي معك شيء من المال تلعب به.
فقال لها: وحق من أوقعني معك في شرك المحبة ما بقيت يدي تملك شيء من المال وغيره لا قليلاً ولا كثيراً. فقالت له: كل شيء يكون أوله رضاً لا يكون آخره ندامة، فإن كنت ندمت فخذ مالك واذهب عنا إلى حال سبيلك وأنا أجعلك في حل من قبلي، قال مسرور وحق من قضى علينا بهذه الأمور لو أردت أخذ روحي لكانت قليلة في رضاك، فما عشق قلبي أحداً سواك فقالت: يا مسرور حينئذ اذهب وأحضر القاضي والشهود واكتب لي جميع الأملاك والعقارات.
فقال: حباً وكرامة ثم نهض قائماً في الوقت والساعة وأتى بالقاضي والشهود وأحضرهم عندها، فلما رآها القاضي طار عقله وذهب لبه وتبلبل خاطره من حسن أناملها وقال: يا سيدتي لا أكتب الحجة إلا بشروط أن تشتري العقارات والجواري والأملاك وتصير كلها تحت تصرفك وفي حيازتك. فقالت: قد اتفقنا على ذلك، فاكتب لي حجة بأن ملك مسرور وجواريه وما تملكه يده ينقل إلى ملك زين المواصف بثمن جملته كذا وكذا، فكتب القاضي ووضع الشهود خطوطهم على ذلك، وأخذت الحجة زين المواصف.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما أخذت الحجة من القاضي مشتملة على أن جميع ما كان ملكاً لمسرور صار ملكاً لها قالت له: يا مسرور اذهب إلى حال سبيلك فالتفتت جاريتها هبوب وقالت له أنشد شيئاً من الأشعار، فأنشد في شأن لعب الشطرنج هذه الأبيات:
أشكر الزمان وما قد حل بي وجرى = واشتكي الخسر والشطرنج والنظرا
في حب جـاريةٍ غـيداء نـاعـمةٍ = ما مثلها في الورى أنثى ولا ذكـرا
قد فرقت لي سهاماً من لواحظـهـا = وقدمت لي جيوشاً تغلب البـشـرا
حمراً وبيضاً وفرسانـاً مـصـادمةٍ = فبادرتني وقالت لي خـذ الـحـذرا
وأهملتني إذا مـرت أنـامـلـهـا = في جنح ليلٍ بهيمٍ يشبه الـشـعـرا
لم أستطع لخلاص البيض أنقلـهـا = والوجد صير مني الدمع منهـمـرا
بيادق ورخـوخ مـع فـــرازنة = كرت فأدبر جيش البيض منكسـرا
خيرتـنـي بـين الـعـسـكـرين = فاخترت تلك الجيوش البيض مقتمرا
وقلت لهم هذه الجيوش البيض تصلـح = لي هم المراد وأما أنت فالـحـمـرا
ولاعبتني على رهـنٍ رضـيت بـه = ولم أكن عن رضاها أبلغ الـوطـرا
يا لهف قلبي ويا شوقي ويا حـزنـي = على وصال فتاة تشبـه الـقـمـرا
ما القلب في حرقٍ كـلا ولا أسـف = على عقاري ولكن يألف الـنـظـرا
وصرت حيران مبهوتاً علـى وجـل = أعاتب الدهر فيما تـم لـي وجـرى
قالت فما لك مبهوتاً فقـلـت لـهـا = هل شارب الخمر يصحو عندما سكرا
أنسية سلبت عقلـي بـقـامـتـهـا = أن لان منها فؤاد يشبه الـحـجـرا
أطبعت نفسي وقلت اليوم أملـكـهـا = على الرهان ولا خوفـاً ولا حـذرا
لا زال يطمع قلبي في تواصـلـهـا = حتى بقيت على الحالين مفـتـقـرا
هل يرجع الصب عن عشقٍ أضر به = ولو غدا في بحار الوجد مـنـحـدرا
فأصبح العـبـد لا مـال بـقـلـبـه = أسير شوقي ووجد ما قضى وطـرا
فلما سمعت زين المواصف هذه الأبيات تعجبت من فصاحة لسانه وقالت له: يا مسرور دع عنك هذا الجنون وارجع إلى عقلك وأمض إلى حال سبيلك فقد أفنيت مالك وعقارك في لعب الشطرنج ولم تحصل غرضك وليس لك جهة من الجهات توصلك إليه، فالتفتت مسرور إلى زين المواصف وقال لها يا سيدتي اطلبي أي شيءٍ ولك كل ما تطلبينه فإني أجيء به إليك وأحضره بين يديك. فقالت: يا مسرور ما بقي معك شيء من المال فقال لها: يا منتهى الآمال إذا لم يكن عندي شيء من المال تساعدني الرجال فقالت له: هل الذي يعطي يصير مستطيعاً؟ فقال لها: إن لي أقارب وأصحاباً ومهما طلبته يعطوني إياه.
فقالت له أريد منك أربع نوافج من المسك الأذفر وأربع أواق من الغالية وأربعة أرطال من العنبر وأربعة آلاف دينار وأربع مائة حلة من الديباج الملوكي المزركش فإن كنت يا مسرور تأتي بذلك الأمر أبحث لك الوصال. فقال: هذا علي هين يا مخجلة الأقمار، ثم أن مسرور خرج من عندها ليأتيها بالذي طلبته منه، فأرسلت خلفه هبوب الجارية حتى تنظر قدره عند الناس الذي ذكرهم لها، فبينما هو يمشي في شوارع المدينة إذ لاحت منه التفاتة فرأى هبوب على بعد فوقف إلى أن لحقته.
فقال لها: يا هبوب إلى أين أنت ذاهبة؟ فقالت له أن سيدتي أرسلتني خلفك من أجل كذا وكذا. وأخبرته بما قالته لها زين المواصف من أوله إلى آخره. فقال لها: والله يا هبوب أن يدي لا تملك شيئاً من المال. قالت له: فلأي شيء وعدتها؟ فقال: كم من وعد لا يفي به صاحبه والمطل بالحب لا بد منه. فلما سمعت هبوب ذلك منه قالت له يا مسرور طب نفساً وقر عيناً والله لأكونن سبباً في اتصالك بها ثم أنها تركته ومشت وما زالت ماشية إلى أن وصلت إلى سيدتها فبكت بكاءً شديداً وقالت لها: يا سيدتي والله أنه رجل كبير المقدار ومحترم عند الناس.
فقالت لها سيدتها: لا حيلة في قضاء الله تعالى أن هذا الرجل ما وجد عندنا قلباً رحيماً لأننا أخذنا ماله ولم يجد عندنا مودة ولا شفقة في الوصال وأن وصلنه إلى مراده أخاف أن يشيع الأمر فقالت لها هبوب: يا سيدتي ما سهل علينا حاله وأخذ ماله ولكن ما عندك إلا أنا وجاريتك سكوب فمن يقدر أن يتكلم منا فيك ونحن جواريك فعند ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض فقال لها الجواري يا سيدتي الرأي عندنا أن ترسلي خلفه وتنعمي عليه ولا تدعيه يسأل أحداً من اللئام فما أمر السؤال فقبلت كلام الجواري ودعت بدواةٍ وقرطاساً وكتبت هذه الأبيات:
دنا الوصل يا مسرور فأبشر بلا مطل = إذا أسود جنح الليل فاتأت بالفـعـل
ولا تسأل الأنذال في المال يا فـتـى = فقد كنت في سكرٍ وقد رد لي عقلي
فما لك مردودٌ عـلـيك جـمـيعـه = وزدتك يا مسرور من فوقه وصلـي
لأنـك ذو صـبـرٍ وفـيك حـلاوةً = على جور محبوبٍ جفاك بلا عـدل
فبادر لتحظى بالمنى ولـك الـهـنـا = ولا تعط أهمالاً فيدري بنا أهـلـي
هلم إلينا مسرعـاً غـير مـبـطـئ = وكل من ثمار الوصل في غيبة البعل
ثم أنها طوت الكتاب وأعطته لجاريتها هبوب ومضت إلى مسرور فوجدته يبكي وينشد قول الشاعر:
وهب على قلبي نسيم من الـجـوى = ففتت الأكباد من فـرط لـوعـتـي
لقد زاد وجـدي بـعـد أحـبـتـي = وفاضت جفوني في تزايد عبـرتـي
وعندي من الأوهام مـا أن أبـح بـه = لصنم الحصى والصخر لانت بسرعة
ألا ليت شعري هل أرى ما يسرنـي = وأحظى بما أرجوه من نيل بغـيتـي
وتطوى ليالي الصد من بعد نشرهـا = وأبرأ مما دخل القلب حلت صبوتـي
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسروراً لما زاد به الهيام صار ينشد الأشعار وهو في غاية الشوق فبينما هو يترنم بتلك الأبيات ويرددها إذ سمعته هبوب فطرقت عليه الباب فقام وفتح لها فدخلت وناولته الكتاب فأخذه وقرأه وقال لها يا هبوب ما وراءك من أخبار سيدتك؟ فقالت له يا سيدي أن في هذا الكتاب ما يغني عن رد الجواب وأنت من ذي الألباب ففرح مسرور فرحاً شديداً وأنشد هذين البيتين:
ورد الكتاب فسرنا مضمـونة = وردت أني في الفؤاد أصونه
وازددت شوقاً عندما قبلتـه = فكأنما در الهوى مكنـونـه
ثم أنه كتب كتاباً لها وأعطاه لهبوب فأخذته وأتت به إلى زين المواصف فلما وصلت إليها به صارت تشرح لها محاسنه وتذكر أوصافه وكرمه وصارت مساعدة له على جمع شمله فقالت لها زين المواصف: يا هبوب أنه أبطأ عن الوصول إلينا، فقالت لها هبوب: إنه سيأتي سريعاً فلم تستتم كلامها وإذا به قد أقبل وطرق الباب ففتحت له وأخذته وأجلسته عند سيدتها زين المواصف فسلمت عليه ورجعت به وأجلسته إلى جانبها ثم قالت لجاريتها هبوب: هات له بدلة من أحسن ما يكون فقامت هبوب وأتت ببدلةٍ مذهبةٍ فأخذتها وأفرغتها عليه وأفرغت على سيدتها بدلة أيضاً من أفخر الملابس ووضعت على رأسها سبيكة من اللؤلؤ الرطب وربطت على السبيكة عصابة من الديباج مكللة بالدر والجوهر واليواقيت وأرخت من تحت العصبة سالفتين ووضعت في كل سالفة ياقوتة حمراء مرقومة بالذهب الوهاج وأرخت شعرها كأنه الليل الداج وتبخرت بالعود وتعطرت بالمسك والعنبر فقالت لها جاريتها هبوب: الله يحفظك من العين فصارت تمشي وتتبختر في خطواتها وتنعطف فأنشدت الجارية من بديع شعرها هذه الأبيات:
خجلت غصون البان من خطواتها = وسطت على العشاق من لحظاتها
قمر تبدي في غياهب شعـرهـا = كالشمس تشرق في دجى وفراتها
طوبى لمن باتت تتيه بحسـنـهـا = ويموت فيها حالفاً بـحـياتـهـا
فشكرتها زين المواصف، ثم أنها أقبلت على مسرور وهي كالبدر المشهور فلما رآها مسرور نهض قائماً على قدميه وقال: إن صدق قلبي فما هي إنسية وإنما هي من عرائس الجنة، ثم أنها دعت بالمائدة فحضرت ثم أنهم أكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ورفعت سفرة الطعام وقدموا سفرة المدام ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس وملأ الكأس مسرور وقال: يا من أنا عبدها وهي سيدتي فقالت: يا مسرور كل من تمسك بدينه وأكل خبزنا وملحنا وجب حقه علينا فخل عنك هذه الأمور وأنا أرد عليك أملاكك وجميع ما أخذنا منك، فقال: يا سيدتي أنت في حل مما تذكرينه وأن كنت غدرت في اليمين الذي بيني وبينك فأنا أروح وأصير مسلماً، فقالت جاريتها هبوب: يا سيدتي أنت صغيرة السن وتعرفين كثيراً وأنا استشفع عندك بالله العظيم، فإن لم تطيعيني وتجبري خاطري لا أنام عندك في الدار، فقالت لها: يا هبوب لا يكون إلا ما تريدينه، قومي جددي لنا مجلساً فنهضت الجارية هبوب وجددت مجلساً وزينته وعطرته بأحسن العطر كما تحب وتختار وجهزت الطعام وأحضرت المدام ودار بينهم الكأس والطاس طابت لهم الأنفاس، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما أمرت جاريتها هبوب بتجديد مجلس الأنس قامت وجددت الطعام والمدام ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس فقالت زين المواصف: يا مسرور قد آن أوان اللقاء والتداني فإن كنت لحبنا تعاني فأنشيء لنا شعر بديع المعاني، فأنشد مسرور هذه القصيدة:
أسرت وفي قلبي لهيبٌ تضرما = بحبل وصالٍ في الفراق تصرما
وحب فتاةٍ كان قـلـبـي حـبـهـا = وقد سلبت عقلي بخـدٍ تـنـعـمـا
لها الحاجب المقرون والطرف أحور = وثغرٍ يحاكي البرق حين تبـسـمـا
لها من سنين العمر عشـر وأربـع = ودمعي حكى في حب هاتيك عندما
فعانيهـا مـا بـين نـهـرٍ وروضةٍ = بوجه يفوق البدر في أفق السـمـا
وقفت لها شبـه الأسـير مـهـابةً = وقلت سلام الله يا ساكن الحـمـى
فردت سلامي عـنـد ذلـك رغـبة = بلطف حديث مثل در تـنـظـمـا
وحين رأت قولي لديها تحـقـقـت = مرامي وصار القلب منها مصممـا
وقالت أما هـذا الـكـلام جـهـالة = فقلت لها كفي عن الصب ألـومـا
فإن تقبليني اليوم فالخـطـب هـين = فمثلك معشوقاً ومثلـى مـتـيمـا
فلما رأت مني المرام تـبـسـمـت = وقالت ورب خالق الأرض والسمـا
يهودية أقسـى الـنـهـود ديتـهـا = وما أنت إلا للنصـارى مـلازمـا
فكيف ترى وصلي ولست بملـتـي = فإن تبع هذا الفعل تصبـح نـادمـا
وتلعب بالدينين هل حل في الهـوى = ويصبح مثلي بالمـلام مـكـلـمـا
وتهوى به الأديان في كـل وجـهةٍ = وتبقى على ديني ودينك محـرمـا
وتحلف بالإنجيل قـولاً مـحـقـقـاً = لتحفظ سري في هواك وتكـتـمـا
وأحلف بالـتـوراة إيمـان صـادقٍ = بأني على العهد الذي قد تـقـدمـا
حلفت على ديني وشرعي ومذهبـي = وحلفتها مثلي يمينـاً مـعـظـمـا
وقلت لها ما الاسم يا غاية المـنـى = فقالت أنا زين المواصف في الحما
فناديت يا زين المواصـف أنـنـي = بحبك مشغوف الـفـؤاد مـتـيمـا
وعاينت من تحت اللثام جمـالـهـا = فصرت كئيب القلب والحال مغرما
فما زلت تحت الستر أخضع شاكـياً = كثير غرام في الفؤاد تـحـكـمـا
فلما رأت حالي وفـرط تـولـهـي = أمالت لي وجهاً ضاحكاً متبسـمـا
وهبت لنا ريح الـوصـال وعـرت = نوافج عطر المسك جيداً ومعصمـا
وقد عبقت منها الأماكـن كـلـهـا = وقبلت من فيها رحيقاً ومبـسـمـا
ومالت كغصن البان تحـت غـلائل = وحللت وصلا كان قبل مـحـرمـا
وبتنا بجمع الشمل والشمل جـامـع = بضم ولثم وارتشاف من الـلـمـى
وما زينة الدنيا سوى مـن تـحـبـه = يكون قريباً منك كي تتـحـكـمـا
فلما تجلى الصبح قامـت وودعـت = بوجه جميل فائق قمـر الـسـمـا
وقد أنشدت عند الوداع ودمـعـهـا = على الخد منثوراً وبعضها منظمـا
فلم أنس عهد الله ما عشت في الورى = وحسن الليالي واليمين المعـظـمـا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسروراً لما أنشد القصيدة المذكورة وسمعتها زين المواصف طربت، وقالت له: يا مسرور ما أحسن معانيك ولا عاش من يعاديك، ثم دخلت المقصورة ودعت بمسرور فدخل عندها واحتضنها وعانقها وقبلها وبلغ منها ما ظن أنه محال وفرح بما نال من طيب الوصال، فعند ذلك قالت زين المواصف له: يا مسرور أن مالك حرام علينا حلال لك لأننا قد صرنا أحباباً، ثم أنها ردت إليه كل ما أخذته من الأموال وقالت له: يا مسرور هل لك من روضة نأتي إليها ونتفرج عليها؟ قال: نعم لي روضة ليس لها نظير.
ثم مضى إلى منزله وأمر جواريه أن يصنعن طعاماً فاخراً وأن يهيئن مجلساً حسناً وصحبة عظيمة، ثم أنه دعاها إلى منزله فحضرت هي وجواريها فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس وخلا كل حبيب بحبيبه فقالت: يا مسرور خطر ببالي شعر رقيق أريد أن أقوله على العود فقال لها: قوليه، فأخذت العود بيدها وأصلحت شأنه وحركت أوتاره وحسنت النغمات وأنشدت تقول هذه الأبيات:
قد مال بي طربٌ من الأوتـار = وصفا الصبوح لنا لدى الأسحار
والحب يكشف عن فؤادٍ متـيم = فبدا الهوى بهتك الأسـتـار
مع خمرة رقت بحسن صفاتها = كالشمس تجلى في يد الأقمار
في ليلةٍ جاءت لنا بسرورهـا = تمحو بصفو شائب الأكـدار
فلما فرغت من شعرها قالت: يا مسرور أنشدنا شيئاً من أشعارك ومتعنا بفواكه أثمارك فأنشد هذين البيتين:
طربنا على بـدرٍ يدير مـدامةً = ونغمة عود في رياض مقامنا
وغنت قماريها ومالت غصونها = سخيراً وفي أنحائها غاية المنى
فلما فرغ من شعره قالت له زين المواصف: أنشد لنا شعر فيما رقع لنا أن كنت مشغولاً بحبنا، فقال حباً وكرامة وأنشد هذه القصيدة:
قف واستمع ما جرى لي = في حب هذا الغزالـي
ريم رمانـي بـنـبـل = ولحظه قـد غـزالـي
فتنت عـشـقـاً وأنـي = في الحب ضاق احتيالي
هويت ذات دلالٍ = محجوبة بالـنـصـال
أبصرتها وسـط روضٍ = وقدهـا ذو اعـتـدال
سلمت قالـت سـلامـاً = لما صنعت لمـقـالـي
سألت ما الاسم قـالـت = اسمي وفاق جمـالـي
سميت زين المواصـف = فقلت رقي لـحـالـي
فإن عـنـدي غـرامـاً = هيهات صب مثـالـي
قالت فإن كنت تـهـوى = وطامعاً في وصـالـي
أريد مـالاً جـــزيلاً = يفـوق كـل نــوال
أريد مـنـك ثـيابــاً = من الحرير الغـوالـي
وربع قنطـار مـسـكٍ = برسم لـيل وصـالـي
ولـؤلـؤ وعـقـيقــاً = من النفيس الـغـالـي
وفـضة ونـضـــارا = من الحلي الحـوالـي
أظهرت صبراً جمـيلاً = على عظيم اشتغـالـي
فأنعمت لـي بـوصـلٍ = فيا لـه مـن وصـال
أن لامني الغير فـيهـا = أقـول يا لـلـرجـال
لهـا شـعـور طـوالٍ = والوزن وزن اللـيالـي
وخـدهـا فــيه وردٌ = مثل اللظى في اشتعال
وجفنـهـا فـيه سـيفٌ = ولحظها كالمـنـبـال
وثغرهـا فـيه خـمـرٌ = وريقـهـا كـالـزلال
كأنـه عــقـــد درٍ = حوى نظـام الـلآلـي
وجيدهـا جـيد ظـبـي = ملـيحة فـي كـمـال
وصـدرهـا كـرخـامٍ = ونهدهـا كـالـقـلال
وبطنـهـا فـيه طـي = معطر بـالـغـوالـي
وتـحـت ذلـك شـيءٌ = له انتـهـت آمـالـي
مربـوب وسـمـــينٌ = مكلـثـم يا مـوالـي
كأنـه تـخـت مـلـكٍ = عليك أعرض حـالـي
بين العمودين تـلـقـى = مصاطباً بـتـعـالـي
لكـنـه فـيه وصـفٌ = يدهي عقول الـرجـال
له شـفـاه كـبـــارٍ = ونفـرةٌ كـالـبـغـال
يبدو بـحـمـرة عـينٍ = ومشفرٌ كـالـجـمـال
إذا أتـــيت إلـــيه = بهمةٍ فـي الـفـعـال
تلقاه حـر الـمـلاقـي = بقـوةٍ واحـتـفــال
يرد كـل شـجـــاعٍ = محلول عزمٍ القـتـال
وتـارة تـلــقـــاه = بلحـيةٍ فـي مـطـال
ينبـيك عـنـه مـلـيح = ذو بـهـجةٍ وجـمـال
كمثل زين المـواصـف = مليحةٌ في الـكـمـال
أتـيت لـيلاً إلـيهــا = ونلت شـيئاً حـلالـي
ولـيلةً بـت مـعـهـا = فاقت جميع اللـيالـي
لما أتى الصبح قـامـت = ووجهها كـالـهـلال
تهز مـنـهـا قـوامـاً = هز الرماح الغـوالـي
وودعتـنـي وقـالـت = متى تعود الـلـيالـي
فقلت يا نـور عـينـي = إذا أردت تـعـالــي
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور لما انتهى من إنشاده القصيدة طربت زين المواصف طرباً عظيماً وحصل لها غاية الإنشراح وقالت: يا مسرور قد دنا الصباح ولم يبق إلا الرواح خوفاً من الإفتضاح فقال: حباً وكرامة ثم نهض على قدميه وأتى بها إلى أن أوصلها إلى منزلها ومضى إلى محله وبات يفكر في محاسنها. فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح هيأ لها هديةً فاخرةً وأتى بها إليها وجلس عندها وأقام على ذلك مدة أياماً وهما في أرغد عيش وأهنأه.
ثم أنه ورد عليها في بعض الأيام كتاب من عند زوجها مضمونه أنه يصل إليها عن قريب فقالت في نفسها لا سلمه الله ولا حياه لأنه إن وصل إلينا تكدر علينا عيشنا، يا ليتني كنت يئست منه، فلما أتى إليها مسرور جلس يتحدث معها على العادة فقالت له: يا مسرور قد ورد علينا كتاباً من عند زوجي مضمونه أنه يصل إلينا من سفره عن قريبٍ فكيف يكون العمل وما لأحدٍ منا عن صاحبه صبر؟ فقال لها: لست أدري ما يكون بل أنت أخبر وأدرى بأخلاق زوجك ولا سيما أنت من أعقل النساء صاحبة الحيل التي تحتال بشيءٍ تعجز عن مثله الرجال، فقالت: إنه رجلٌ صعبٌ وله غيرةٌ على أهل بيته ولكن إذا قدم من سفره وسمعت بقدومه فأقدم عليه وسلم واجلس إلى جانبه وقل له: يا أخي أنا رجلٌ عطارٌ واشتر منه شيئاً من أنواع العطارة وتردد عليه مراراً وأطل معه الكلام، ومهما أمرك به فلا تخالفه فيه فلعل ما احتال به يكون مصادفا، فقال لها: سمعاً وطاعةً وخرج مسرور من عندها، وقد اشتعلت في قلبه نار المحبة، فلما وصل زوجها إلى الدار فرحت بوصوله ورحبت به وسلمت عليه فنظر في وجهها فرأى فيه لون الاصفرار، وكانت غسلت وجهها بالزعفران وعملت فيه بعض حيل النساء فسأل عن حالها فذكرت له أنها مريضة من وقت ما سافرت هي والجواري وقالت له: إن قلوبنا مشغولةٌ عليك لطول غيابك وصارت تشكو إليه مشقة الفراق وتبكي بدمعٍ مهراق وتقول له: لو كان معك رفيق ما أحمل قلبي هذا الهم كله فبالله عليك يا سيدي ما بقيت تسافر إلا برفيقٍ ولا تقطع عني أخبارك لأجل أن أكون مطمئنة القلب والخاطر عليك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
.../...
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والثمانين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور التاجر لما انتبه من نومه صار يعالج أشواقه إلى الصباح وقال لا بد أن أروح اليوم إلى من يفسر لي هذا المنام، فقام يمشي إلى أن بعد عن منزله فلم يجد من يفسر له هذا المنام، ثم بعد ذلك طلب الرجوع إلى منزله فبينما هو في الطريق إذا خطر بباله أن يمر على دار من دور التجار وكانت تلك الدار لبعض الأغنياء فلما وصل إليها وإذا به يسمع بها صوت أنين من كبد حزين وهو ينشد هذه الأبيات:
نسيم الصبا هبت لنا من رسومها = معطرة يشفي العليل شميمهـا
وقفت بأطـلال دوارس سـائلاً = وليس يجيب الدمع إلا رميمها
فقلت نسيم الريح بالله خـبـري = هل الدار هذي قد يعود نعيمها
وأحظى بظبي مال بي لين قده = وأجفانه الوسنا ضناني سقيمها
فلما سمع مسرور ذلك الصوت نظر في داخل البيت فرأى روضة من أحسن الرياض في باطنها ستر من ديباج أحمر مكلل بالدر والجوهر وعليه من وراء الستر أربع جوار بينهن صبية دون الخماسية وفوق الرباعية كأنها البدر المنير والقمر المستدير بعينين كحيلتين وحاجبين مقرنين وفم كأنه خاتم سليمان وشفتين وأسنان كالدر والمرجان وهي تسلب العقول بحسنها وجمالها وقدها واعتدالها فلما رآها مسرور دخل الدار وبالغ في الدخول حتى وصل إلى الستر فرفعت رأسها إليه ونظرته فعند ذلك سلم عليها فردت عليه السلام بعذوبة الكلام. فلما نظرها وتأملها طاش عقله وذهب قلبه ونظر إلى الروضة وكانت من الياسمين المنثور والبنفسج والورد والنارنج وجميع ما يكون فيها من المشموم وقد توشحت جميع الأشجار بالأثمار وفي تلك الروضة طيور من قمري وحمام وبلبل ويمام وكل طير يغرد بصوته والصبية تتمايل في حسنها وجمالها وقدها واعتدالها يفتتن بها كل من رآها ثم قالت أيها الرجل ما الذي أقدمك على دار غير دارك وعلى جوار غير جوارك من غير إجازة أصحابها، فقال لها: يا سيدتي رأيت هذه الروضة فأعجبني حسن اخضرارها وفيح أزهارها وترنم أطيارها فدخلتها لأتفرج فيها ساعة من الزمان وأروح إلى حال سبيلي، فقالت له حباً وكرامة. فلما سمع مسرور التاجر كلامها ونظر إلى ظرفها ورشاقة قدها تحير من حسنها وجمالها ومن لطافة الروضة والطير، فطار عقله من ذلك وصار متحيراً في أمره وأنشد هذه الأبيات:
قمري تبدي في بديع محاسـن = بين الربا والرواح والريحـان
والآس والنسرين ثم بنفـسـج = فاحت روائحه من الأغصـان
يا روضة كملت بحسن صفاتها = وحوت جميع الزهر والأفنان
فالبدر يجلي تحت ظل غصونها = والطير تنشد أطيب الألحـان
قمريها وهزارها ويمـامـهـا = وكذا البلابل هيجت أشجانـي
وقف الغرام بمهجتي متحـيراً = في حسنها كتحير السـكـران
فلما سمعت زين المواصف شعر مسرور نظرت إليه نظرة أعقبتها ألف حسرة وسلبت بها عقله ولبه وأجابته عن شعره بهذه الأبيات:
لا ترتجى وصل التي علقتهـا = وأقطع مطامعك التي أماتهـا
وذر الذي ترجوه أنك لم تطق = صد التي في الغانيات عشقتها
تجنى على العشاق الحاظي ولم = تعظم على مقالة قد قلتـهـا
فلما سمع مسرور كلامها تجلد وكتم أمرها في سره وتنكر وقال في نفسه ما للبلية إلا الصبر ثم داموا على ذلك إلى أن هجم الليل، فأمرت بحضور المائدة فحضرت بين أيديهما، وفيها من سائر الألوان من السماني وأفراخ الحمام ولحوم الضأن فأكلا حتى اكتفيا، ثم أمرت برفع الموائد فرفعت وحضرت آلات الغسل فغسلا أيديهما، ثم أمرت بوضع الشمعدانات فوضعت وجعل فيها شمع الكافور، ثم بعد ذلك قالت زين المواصف والله أن صدري ضيق في هذه الليلة لأني محمومة، فقال لها مسرور شرح الله صدرك وكشف غمك، فقالت يا مسرور أنا معودة بلعب الشطرنج فهل تعرف فيه شيئاً؟ قال أنا عارف به. فقدمته بين أيديهما، وإذا هو من الآبنوس مقطع بالعاج له رقعة مرقوقة بالذهب الوهاج وحجارته من درٍ وياقوت.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والثمانين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنها لما أمرت بإحضار الشطرنج أحضروه بين أيديهما فلما رآه مسرور حار فكره فالتفتت إليه زين المواصف وقالت له: هل تريد الحمر أم البيض؟ فقال: يا سيدة الملاح وزين الصباح خذي أنت الحمر لأنهم ملاح ولمثلك أملح ودعي لي الحجارة البيض. فقالت: رضيت بذلك. فأخذت الحمر وصفتها مقابل البيض ومدت يديها إلى القطع تنقل في الميدان فنظر إلى أناملها، فرآها كأنها من عجين، فاندهش مسرور من حسن أناملها ولطف شمائلها فالتفتت إليه وقالت: يا مسرور لا تندهش وأصبر وأثبت، فقال لها يا ذات الحسن الذي فضح الأقمار إذا نظرك المحب كيف يكون له اصطبار.
فبينما هو كذلك وإذا هي تقول له: الشاه مات فغلبته عند ذلك وعلمت زين المواصف أنه بحبها مجنون، فقالت له يا مسرور لا ألعب معك إلا برهن معلوم وقدر مفهوم. فقال لها: سمعاً وطاعةً. فقالت له أحلف لي وأحلف لك أن كلا منا لا يغدر صاحبه. فحلفا معاً على ذلك فقالت له: يا مسرور إن غلبتك أخذت منك عشرة دنانير، وأن غلبتني فأعمل معي ما تريد فظن أنه يغلبها. فقال لها: يا سيدتي لا تخشي في يمينك فإني أراك أقوى مني في اللعب. فقالت له: رضيت بذلك وصار يلعبان ويتسابقان بالبيادق، وألحقهم بالإفراز وصفتهم وقرتهم بالرخاخ وسمحت النفس بتقديم الأفراس، وكان على رأس زين المواصف وشاح من الديباج الأزرق فرفعته عن رأسها وشمرت عن معصم كأنه عمود من نور ومرت بكفها على القطع الحمر وقالت له خذ حذرك فاندهش مسرور وطار عقله وذهب لبه ونظر إلى رشاقتها ومعانيها فاحتار وأخذه الأنبهار، فمد يده إلى البيض فراحت إلى الحمر، فقالت: يا مسرور أين عقلك الحمر لي والبيض لك، فقال لها: إن من ينظر إليك يشرد عقله.
فلما نظرت زين المواصف إلى حاله أخذت منه البيض وأعطته الحمر فلعب بها فغلبته ولم يزل يلعب معها وهي تغلبه ويدفع لها في كل مرة عشرة دنانير، فلما عرفت زين المواصف أنه مشغول بهواها قالت له: يا مسرور ما بقيت تنال مرادك إلا إذا كنت تغلبني كما هو شرطك ولا بقيت ألعب معك في كل مرة إلا بمائة دينار. فقال لها حباً وكرامة، فصارت تلاعبه وتغلبه وتكرر ذلك وهو في كل مرة يدفع لها المائة دينار، وداما إلى الصباح وهو لم يغلبها أبدا فنهض قائماً على أقدامه فقالت له ما الذي تريد يا مسرور قال لها: أمضي إلى منزلي وآتي بمالي لعلي أنل منك آمالي، فقالت له: أفعل ما تريد مما بدا لك فمضى إلى منزله وأتاها بالمال جميعه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور لما مضى إلى منزله وأتى لها بالمال جميعه صار يلعب معها وهي تغلبه ولم يقدر أن يغلبها دوراً واحداً، ولم يزالا كذلك ثلاثة أيامٍ حتى أخذت منه جميع ماله، فلما نفد ماله قالت له: يا مسرور ما الذي تريد؟ قال ألاعبك على دكان العطارة قالت له كم يساوي تلك الدكان؟ قال خمسمائة دينار فنلعب بها خمسة أشواط فغلبته، ثم لعب معها بها على الجواري والعقارات والبساتين والعمارات فأخذت منه ذلك كله وجميع ما يملكه، وبعد ذلك التفتت إليه وقالت له: هل بقي معك شيء من المال تلعب به.
فقال لها: وحق من أوقعني معك في شرك المحبة ما بقيت يدي تملك شيء من المال وغيره لا قليلاً ولا كثيراً. فقالت له: كل شيء يكون أوله رضاً لا يكون آخره ندامة، فإن كنت ندمت فخذ مالك واذهب عنا إلى حال سبيلك وأنا أجعلك في حل من قبلي، قال مسرور وحق من قضى علينا بهذه الأمور لو أردت أخذ روحي لكانت قليلة في رضاك، فما عشق قلبي أحداً سواك فقالت: يا مسرور حينئذ اذهب وأحضر القاضي والشهود واكتب لي جميع الأملاك والعقارات.
فقال: حباً وكرامة ثم نهض قائماً في الوقت والساعة وأتى بالقاضي والشهود وأحضرهم عندها، فلما رآها القاضي طار عقله وذهب لبه وتبلبل خاطره من حسن أناملها وقال: يا سيدتي لا أكتب الحجة إلا بشروط أن تشتري العقارات والجواري والأملاك وتصير كلها تحت تصرفك وفي حيازتك. فقالت: قد اتفقنا على ذلك، فاكتب لي حجة بأن ملك مسرور وجواريه وما تملكه يده ينقل إلى ملك زين المواصف بثمن جملته كذا وكذا، فكتب القاضي ووضع الشهود خطوطهم على ذلك، وأخذت الحجة زين المواصف.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما أخذت الحجة من القاضي مشتملة على أن جميع ما كان ملكاً لمسرور صار ملكاً لها قالت له: يا مسرور اذهب إلى حال سبيلك فالتفتت جاريتها هبوب وقالت له أنشد شيئاً من الأشعار، فأنشد في شأن لعب الشطرنج هذه الأبيات:
أشكر الزمان وما قد حل بي وجرى = واشتكي الخسر والشطرنج والنظرا
في حب جـاريةٍ غـيداء نـاعـمةٍ = ما مثلها في الورى أنثى ولا ذكـرا
قد فرقت لي سهاماً من لواحظـهـا = وقدمت لي جيوشاً تغلب البـشـرا
حمراً وبيضاً وفرسانـاً مـصـادمةٍ = فبادرتني وقالت لي خـذ الـحـذرا
وأهملتني إذا مـرت أنـامـلـهـا = في جنح ليلٍ بهيمٍ يشبه الـشـعـرا
لم أستطع لخلاص البيض أنقلـهـا = والوجد صير مني الدمع منهـمـرا
بيادق ورخـوخ مـع فـــرازنة = كرت فأدبر جيش البيض منكسـرا
خيرتـنـي بـين الـعـسـكـرين = فاخترت تلك الجيوش البيض مقتمرا
وقلت لهم هذه الجيوش البيض تصلـح = لي هم المراد وأما أنت فالـحـمـرا
ولاعبتني على رهـنٍ رضـيت بـه = ولم أكن عن رضاها أبلغ الـوطـرا
يا لهف قلبي ويا شوقي ويا حـزنـي = على وصال فتاة تشبـه الـقـمـرا
ما القلب في حرقٍ كـلا ولا أسـف = على عقاري ولكن يألف الـنـظـرا
وصرت حيران مبهوتاً علـى وجـل = أعاتب الدهر فيما تـم لـي وجـرى
قالت فما لك مبهوتاً فقـلـت لـهـا = هل شارب الخمر يصحو عندما سكرا
أنسية سلبت عقلـي بـقـامـتـهـا = أن لان منها فؤاد يشبه الـحـجـرا
أطبعت نفسي وقلت اليوم أملـكـهـا = على الرهان ولا خوفـاً ولا حـذرا
لا زال يطمع قلبي في تواصـلـهـا = حتى بقيت على الحالين مفـتـقـرا
هل يرجع الصب عن عشقٍ أضر به = ولو غدا في بحار الوجد مـنـحـدرا
فأصبح العـبـد لا مـال بـقـلـبـه = أسير شوقي ووجد ما قضى وطـرا
فلما سمعت زين المواصف هذه الأبيات تعجبت من فصاحة لسانه وقالت له: يا مسرور دع عنك هذا الجنون وارجع إلى عقلك وأمض إلى حال سبيلك فقد أفنيت مالك وعقارك في لعب الشطرنج ولم تحصل غرضك وليس لك جهة من الجهات توصلك إليه، فالتفتت مسرور إلى زين المواصف وقال لها يا سيدتي اطلبي أي شيءٍ ولك كل ما تطلبينه فإني أجيء به إليك وأحضره بين يديك. فقالت: يا مسرور ما بقي معك شيء من المال فقال لها: يا منتهى الآمال إذا لم يكن عندي شيء من المال تساعدني الرجال فقالت له: هل الذي يعطي يصير مستطيعاً؟ فقال لها: إن لي أقارب وأصحاباً ومهما طلبته يعطوني إياه.
فقالت له أريد منك أربع نوافج من المسك الأذفر وأربع أواق من الغالية وأربعة أرطال من العنبر وأربعة آلاف دينار وأربع مائة حلة من الديباج الملوكي المزركش فإن كنت يا مسرور تأتي بذلك الأمر أبحث لك الوصال. فقال: هذا علي هين يا مخجلة الأقمار، ثم أن مسرور خرج من عندها ليأتيها بالذي طلبته منه، فأرسلت خلفه هبوب الجارية حتى تنظر قدره عند الناس الذي ذكرهم لها، فبينما هو يمشي في شوارع المدينة إذ لاحت منه التفاتة فرأى هبوب على بعد فوقف إلى أن لحقته.
فقال لها: يا هبوب إلى أين أنت ذاهبة؟ فقالت له أن سيدتي أرسلتني خلفك من أجل كذا وكذا. وأخبرته بما قالته لها زين المواصف من أوله إلى آخره. فقال لها: والله يا هبوب أن يدي لا تملك شيئاً من المال. قالت له: فلأي شيء وعدتها؟ فقال: كم من وعد لا يفي به صاحبه والمطل بالحب لا بد منه. فلما سمعت هبوب ذلك منه قالت له يا مسرور طب نفساً وقر عيناً والله لأكونن سبباً في اتصالك بها ثم أنها تركته ومشت وما زالت ماشية إلى أن وصلت إلى سيدتها فبكت بكاءً شديداً وقالت لها: يا سيدتي والله أنه رجل كبير المقدار ومحترم عند الناس.
فقالت لها سيدتها: لا حيلة في قضاء الله تعالى أن هذا الرجل ما وجد عندنا قلباً رحيماً لأننا أخذنا ماله ولم يجد عندنا مودة ولا شفقة في الوصال وأن وصلنه إلى مراده أخاف أن يشيع الأمر فقالت لها هبوب: يا سيدتي ما سهل علينا حاله وأخذ ماله ولكن ما عندك إلا أنا وجاريتك سكوب فمن يقدر أن يتكلم منا فيك ونحن جواريك فعند ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض فقال لها الجواري يا سيدتي الرأي عندنا أن ترسلي خلفه وتنعمي عليه ولا تدعيه يسأل أحداً من اللئام فما أمر السؤال فقبلت كلام الجواري ودعت بدواةٍ وقرطاساً وكتبت هذه الأبيات:
دنا الوصل يا مسرور فأبشر بلا مطل = إذا أسود جنح الليل فاتأت بالفـعـل
ولا تسأل الأنذال في المال يا فـتـى = فقد كنت في سكرٍ وقد رد لي عقلي
فما لك مردودٌ عـلـيك جـمـيعـه = وزدتك يا مسرور من فوقه وصلـي
لأنـك ذو صـبـرٍ وفـيك حـلاوةً = على جور محبوبٍ جفاك بلا عـدل
فبادر لتحظى بالمنى ولـك الـهـنـا = ولا تعط أهمالاً فيدري بنا أهـلـي
هلم إلينا مسرعـاً غـير مـبـطـئ = وكل من ثمار الوصل في غيبة البعل
ثم أنها طوت الكتاب وأعطته لجاريتها هبوب ومضت إلى مسرور فوجدته يبكي وينشد قول الشاعر:
وهب على قلبي نسيم من الـجـوى = ففتت الأكباد من فـرط لـوعـتـي
لقد زاد وجـدي بـعـد أحـبـتـي = وفاضت جفوني في تزايد عبـرتـي
وعندي من الأوهام مـا أن أبـح بـه = لصنم الحصى والصخر لانت بسرعة
ألا ليت شعري هل أرى ما يسرنـي = وأحظى بما أرجوه من نيل بغـيتـي
وتطوى ليالي الصد من بعد نشرهـا = وأبرأ مما دخل القلب حلت صبوتـي
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسروراً لما زاد به الهيام صار ينشد الأشعار وهو في غاية الشوق فبينما هو يترنم بتلك الأبيات ويرددها إذ سمعته هبوب فطرقت عليه الباب فقام وفتح لها فدخلت وناولته الكتاب فأخذه وقرأه وقال لها يا هبوب ما وراءك من أخبار سيدتك؟ فقالت له يا سيدي أن في هذا الكتاب ما يغني عن رد الجواب وأنت من ذي الألباب ففرح مسرور فرحاً شديداً وأنشد هذين البيتين:
ورد الكتاب فسرنا مضمـونة = وردت أني في الفؤاد أصونه
وازددت شوقاً عندما قبلتـه = فكأنما در الهوى مكنـونـه
ثم أنه كتب كتاباً لها وأعطاه لهبوب فأخذته وأتت به إلى زين المواصف فلما وصلت إليها به صارت تشرح لها محاسنه وتذكر أوصافه وكرمه وصارت مساعدة له على جمع شمله فقالت لها زين المواصف: يا هبوب أنه أبطأ عن الوصول إلينا، فقالت لها هبوب: إنه سيأتي سريعاً فلم تستتم كلامها وإذا به قد أقبل وطرق الباب ففتحت له وأخذته وأجلسته عند سيدتها زين المواصف فسلمت عليه ورجعت به وأجلسته إلى جانبها ثم قالت لجاريتها هبوب: هات له بدلة من أحسن ما يكون فقامت هبوب وأتت ببدلةٍ مذهبةٍ فأخذتها وأفرغتها عليه وأفرغت على سيدتها بدلة أيضاً من أفخر الملابس ووضعت على رأسها سبيكة من اللؤلؤ الرطب وربطت على السبيكة عصابة من الديباج مكللة بالدر والجوهر واليواقيت وأرخت من تحت العصبة سالفتين ووضعت في كل سالفة ياقوتة حمراء مرقومة بالذهب الوهاج وأرخت شعرها كأنه الليل الداج وتبخرت بالعود وتعطرت بالمسك والعنبر فقالت لها جاريتها هبوب: الله يحفظك من العين فصارت تمشي وتتبختر في خطواتها وتنعطف فأنشدت الجارية من بديع شعرها هذه الأبيات:
خجلت غصون البان من خطواتها = وسطت على العشاق من لحظاتها
قمر تبدي في غياهب شعـرهـا = كالشمس تشرق في دجى وفراتها
طوبى لمن باتت تتيه بحسـنـهـا = ويموت فيها حالفاً بـحـياتـهـا
فشكرتها زين المواصف، ثم أنها أقبلت على مسرور وهي كالبدر المشهور فلما رآها مسرور نهض قائماً على قدميه وقال: إن صدق قلبي فما هي إنسية وإنما هي من عرائس الجنة، ثم أنها دعت بالمائدة فحضرت ثم أنهم أكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ورفعت سفرة الطعام وقدموا سفرة المدام ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس وملأ الكأس مسرور وقال: يا من أنا عبدها وهي سيدتي فقالت: يا مسرور كل من تمسك بدينه وأكل خبزنا وملحنا وجب حقه علينا فخل عنك هذه الأمور وأنا أرد عليك أملاكك وجميع ما أخذنا منك، فقال: يا سيدتي أنت في حل مما تذكرينه وأن كنت غدرت في اليمين الذي بيني وبينك فأنا أروح وأصير مسلماً، فقالت جاريتها هبوب: يا سيدتي أنت صغيرة السن وتعرفين كثيراً وأنا استشفع عندك بالله العظيم، فإن لم تطيعيني وتجبري خاطري لا أنام عندك في الدار، فقالت لها: يا هبوب لا يكون إلا ما تريدينه، قومي جددي لنا مجلساً فنهضت الجارية هبوب وجددت مجلساً وزينته وعطرته بأحسن العطر كما تحب وتختار وجهزت الطعام وأحضرت المدام ودار بينهم الكأس والطاس طابت لهم الأنفاس، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زين المواصف لما أمرت جاريتها هبوب بتجديد مجلس الأنس قامت وجددت الطعام والمدام ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس فقالت زين المواصف: يا مسرور قد آن أوان اللقاء والتداني فإن كنت لحبنا تعاني فأنشيء لنا شعر بديع المعاني، فأنشد مسرور هذه القصيدة:
أسرت وفي قلبي لهيبٌ تضرما = بحبل وصالٍ في الفراق تصرما
وحب فتاةٍ كان قـلـبـي حـبـهـا = وقد سلبت عقلي بخـدٍ تـنـعـمـا
لها الحاجب المقرون والطرف أحور = وثغرٍ يحاكي البرق حين تبـسـمـا
لها من سنين العمر عشـر وأربـع = ودمعي حكى في حب هاتيك عندما
فعانيهـا مـا بـين نـهـرٍ وروضةٍ = بوجه يفوق البدر في أفق السـمـا
وقفت لها شبـه الأسـير مـهـابةً = وقلت سلام الله يا ساكن الحـمـى
فردت سلامي عـنـد ذلـك رغـبة = بلطف حديث مثل در تـنـظـمـا
وحين رأت قولي لديها تحـقـقـت = مرامي وصار القلب منها مصممـا
وقالت أما هـذا الـكـلام جـهـالة = فقلت لها كفي عن الصب ألـومـا
فإن تقبليني اليوم فالخـطـب هـين = فمثلك معشوقاً ومثلـى مـتـيمـا
فلما رأت مني المرام تـبـسـمـت = وقالت ورب خالق الأرض والسمـا
يهودية أقسـى الـنـهـود ديتـهـا = وما أنت إلا للنصـارى مـلازمـا
فكيف ترى وصلي ولست بملـتـي = فإن تبع هذا الفعل تصبـح نـادمـا
وتلعب بالدينين هل حل في الهـوى = ويصبح مثلي بالمـلام مـكـلـمـا
وتهوى به الأديان في كـل وجـهةٍ = وتبقى على ديني ودينك محـرمـا
وتحلف بالإنجيل قـولاً مـحـقـقـاً = لتحفظ سري في هواك وتكـتـمـا
وأحلف بالـتـوراة إيمـان صـادقٍ = بأني على العهد الذي قد تـقـدمـا
حلفت على ديني وشرعي ومذهبـي = وحلفتها مثلي يمينـاً مـعـظـمـا
وقلت لها ما الاسم يا غاية المـنـى = فقالت أنا زين المواصف في الحما
فناديت يا زين المواصـف أنـنـي = بحبك مشغوف الـفـؤاد مـتـيمـا
وعاينت من تحت اللثام جمـالـهـا = فصرت كئيب القلب والحال مغرما
فما زلت تحت الستر أخضع شاكـياً = كثير غرام في الفؤاد تـحـكـمـا
فلما رأت حالي وفـرط تـولـهـي = أمالت لي وجهاً ضاحكاً متبسـمـا
وهبت لنا ريح الـوصـال وعـرت = نوافج عطر المسك جيداً ومعصمـا
وقد عبقت منها الأماكـن كـلـهـا = وقبلت من فيها رحيقاً ومبـسـمـا
ومالت كغصن البان تحـت غـلائل = وحللت وصلا كان قبل مـحـرمـا
وبتنا بجمع الشمل والشمل جـامـع = بضم ولثم وارتشاف من الـلـمـى
وما زينة الدنيا سوى مـن تـحـبـه = يكون قريباً منك كي تتـحـكـمـا
فلما تجلى الصبح قامـت وودعـت = بوجه جميل فائق قمـر الـسـمـا
وقد أنشدت عند الوداع ودمـعـهـا = على الخد منثوراً وبعضها منظمـا
فلم أنس عهد الله ما عشت في الورى = وحسن الليالي واليمين المعـظـمـا
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسروراً لما أنشد القصيدة المذكورة وسمعتها زين المواصف طربت، وقالت له: يا مسرور ما أحسن معانيك ولا عاش من يعاديك، ثم دخلت المقصورة ودعت بمسرور فدخل عندها واحتضنها وعانقها وقبلها وبلغ منها ما ظن أنه محال وفرح بما نال من طيب الوصال، فعند ذلك قالت زين المواصف له: يا مسرور أن مالك حرام علينا حلال لك لأننا قد صرنا أحباباً، ثم أنها ردت إليه كل ما أخذته من الأموال وقالت له: يا مسرور هل لك من روضة نأتي إليها ونتفرج عليها؟ قال: نعم لي روضة ليس لها نظير.
ثم مضى إلى منزله وأمر جواريه أن يصنعن طعاماً فاخراً وأن يهيئن مجلساً حسناً وصحبة عظيمة، ثم أنه دعاها إلى منزله فحضرت هي وجواريها فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ودار بينهم الكأس والطاس وطابت لهم الأنفاس وخلا كل حبيب بحبيبه فقالت: يا مسرور خطر ببالي شعر رقيق أريد أن أقوله على العود فقال لها: قوليه، فأخذت العود بيدها وأصلحت شأنه وحركت أوتاره وحسنت النغمات وأنشدت تقول هذه الأبيات:
قد مال بي طربٌ من الأوتـار = وصفا الصبوح لنا لدى الأسحار
والحب يكشف عن فؤادٍ متـيم = فبدا الهوى بهتك الأسـتـار
مع خمرة رقت بحسن صفاتها = كالشمس تجلى في يد الأقمار
في ليلةٍ جاءت لنا بسرورهـا = تمحو بصفو شائب الأكـدار
فلما فرغت من شعرها قالت: يا مسرور أنشدنا شيئاً من أشعارك ومتعنا بفواكه أثمارك فأنشد هذين البيتين:
طربنا على بـدرٍ يدير مـدامةً = ونغمة عود في رياض مقامنا
وغنت قماريها ومالت غصونها = سخيراً وفي أنحائها غاية المنى
فلما فرغ من شعره قالت له زين المواصف: أنشد لنا شعر فيما رقع لنا أن كنت مشغولاً بحبنا، فقال حباً وكرامة وأنشد هذه القصيدة:
قف واستمع ما جرى لي = في حب هذا الغزالـي
ريم رمانـي بـنـبـل = ولحظه قـد غـزالـي
فتنت عـشـقـاً وأنـي = في الحب ضاق احتيالي
هويت ذات دلالٍ = محجوبة بالـنـصـال
أبصرتها وسـط روضٍ = وقدهـا ذو اعـتـدال
سلمت قالـت سـلامـاً = لما صنعت لمـقـالـي
سألت ما الاسم قـالـت = اسمي وفاق جمـالـي
سميت زين المواصـف = فقلت رقي لـحـالـي
فإن عـنـدي غـرامـاً = هيهات صب مثـالـي
قالت فإن كنت تـهـوى = وطامعاً في وصـالـي
أريد مـالاً جـــزيلاً = يفـوق كـل نــوال
أريد مـنـك ثـيابــاً = من الحرير الغـوالـي
وربع قنطـار مـسـكٍ = برسم لـيل وصـالـي
ولـؤلـؤ وعـقـيقــاً = من النفيس الـغـالـي
وفـضة ونـضـــارا = من الحلي الحـوالـي
أظهرت صبراً جمـيلاً = على عظيم اشتغـالـي
فأنعمت لـي بـوصـلٍ = فيا لـه مـن وصـال
أن لامني الغير فـيهـا = أقـول يا لـلـرجـال
لهـا شـعـور طـوالٍ = والوزن وزن اللـيالـي
وخـدهـا فــيه وردٌ = مثل اللظى في اشتعال
وجفنـهـا فـيه سـيفٌ = ولحظها كالمـنـبـال
وثغرهـا فـيه خـمـرٌ = وريقـهـا كـالـزلال
كأنـه عــقـــد درٍ = حوى نظـام الـلآلـي
وجيدهـا جـيد ظـبـي = ملـيحة فـي كـمـال
وصـدرهـا كـرخـامٍ = ونهدهـا كـالـقـلال
وبطنـهـا فـيه طـي = معطر بـالـغـوالـي
وتـحـت ذلـك شـيءٌ = له انتـهـت آمـالـي
مربـوب وسـمـــينٌ = مكلـثـم يا مـوالـي
كأنـه تـخـت مـلـكٍ = عليك أعرض حـالـي
بين العمودين تـلـقـى = مصاطباً بـتـعـالـي
لكـنـه فـيه وصـفٌ = يدهي عقول الـرجـال
له شـفـاه كـبـــارٍ = ونفـرةٌ كـالـبـغـال
يبدو بـحـمـرة عـينٍ = ومشفرٌ كـالـجـمـال
إذا أتـــيت إلـــيه = بهمةٍ فـي الـفـعـال
تلقاه حـر الـمـلاقـي = بقـوةٍ واحـتـفــال
يرد كـل شـجـــاعٍ = محلول عزمٍ القـتـال
وتـارة تـلــقـــاه = بلحـيةٍ فـي مـطـال
ينبـيك عـنـه مـلـيح = ذو بـهـجةٍ وجـمـال
كمثل زين المـواصـف = مليحةٌ في الـكـمـال
أتـيت لـيلاً إلـيهــا = ونلت شـيئاً حـلالـي
ولـيلةً بـت مـعـهـا = فاقت جميع اللـيالـي
لما أتى الصبح قـامـت = ووجهها كـالـهـلال
تهز مـنـهـا قـوامـاً = هز الرماح الغـوالـي
وودعتـنـي وقـالـت = متى تعود الـلـيالـي
فقلت يا نـور عـينـي = إذا أردت تـعـالــي
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والتسعين بعد السبعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور لما انتهى من إنشاده القصيدة طربت زين المواصف طرباً عظيماً وحصل لها غاية الإنشراح وقالت: يا مسرور قد دنا الصباح ولم يبق إلا الرواح خوفاً من الإفتضاح فقال: حباً وكرامة ثم نهض على قدميه وأتى بها إلى أن أوصلها إلى منزلها ومضى إلى محله وبات يفكر في محاسنها. فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح هيأ لها هديةً فاخرةً وأتى بها إليها وجلس عندها وأقام على ذلك مدة أياماً وهما في أرغد عيش وأهنأه.
ثم أنه ورد عليها في بعض الأيام كتاب من عند زوجها مضمونه أنه يصل إليها عن قريب فقالت في نفسها لا سلمه الله ولا حياه لأنه إن وصل إلينا تكدر علينا عيشنا، يا ليتني كنت يئست منه، فلما أتى إليها مسرور جلس يتحدث معها على العادة فقالت له: يا مسرور قد ورد علينا كتاباً من عند زوجي مضمونه أنه يصل إلينا من سفره عن قريبٍ فكيف يكون العمل وما لأحدٍ منا عن صاحبه صبر؟ فقال لها: لست أدري ما يكون بل أنت أخبر وأدرى بأخلاق زوجك ولا سيما أنت من أعقل النساء صاحبة الحيل التي تحتال بشيءٍ تعجز عن مثله الرجال، فقالت: إنه رجلٌ صعبٌ وله غيرةٌ على أهل بيته ولكن إذا قدم من سفره وسمعت بقدومه فأقدم عليه وسلم واجلس إلى جانبه وقل له: يا أخي أنا رجلٌ عطارٌ واشتر منه شيئاً من أنواع العطارة وتردد عليه مراراً وأطل معه الكلام، ومهما أمرك به فلا تخالفه فيه فلعل ما احتال به يكون مصادفا، فقال لها: سمعاً وطاعةً وخرج مسرور من عندها، وقد اشتعلت في قلبه نار المحبة، فلما وصل زوجها إلى الدار فرحت بوصوله ورحبت به وسلمت عليه فنظر في وجهها فرأى فيه لون الاصفرار، وكانت غسلت وجهها بالزعفران وعملت فيه بعض حيل النساء فسأل عن حالها فذكرت له أنها مريضة من وقت ما سافرت هي والجواري وقالت له: إن قلوبنا مشغولةٌ عليك لطول غيابك وصارت تشكو إليه مشقة الفراق وتبكي بدمعٍ مهراق وتقول له: لو كان معك رفيق ما أحمل قلبي هذا الهم كله فبالله عليك يا سيدي ما بقيت تسافر إلا برفيقٍ ولا تقطع عني أخبارك لأجل أن أكون مطمئنة القلب والخاطر عليك.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
.../...