عبد الرحيم نعيم - سفر بليال رواية "بلا أبواب ولا نوافذ" للأديبة خيرة جليل .....

وانا اتصفح رواية " بلا ابواب ولا نوافذ" ، القيت نظرة خاطفة على التقديم، فوقعت من حيث لا ادري في اسر هذه التشكيلية و الكاتبة المتميزة خيرة جليل التي تجيد التعبير او بالاحرى التطريز بلغة عربية سلسة و راقية، والذي شدني اكثر هو ان راويتها ذكرتني بشهرزاد في حكايات الف ليلة و ليلة، وحتى العنوان( بلا ابواب و لا نوافذ) ذكرني بقصر شهريار الذي كان بلا شك موصد الابواب و النوافذ في وجه شهرزاد، الشيء الذي اثمر حكايات شيقة تتداخل فيها كل الازمنة و الامكنة. هذه الرواية تضمنت 32 حكاية (32 ليلة ) وذيلتها الكاتبة بتاريخ. 2017-2021 بمعنى أن الكاتبة نشرتها الكترونيا على امتداد هذه السنوات لتقرر اخيرا جمعها ونشرها ورقيا بالسنة الاخيرة، فالرواية كلها عبارة عن سفر زمني يفتح أبواب و نوافذ على الماضي البعيد والقريب والحاضر الراهن . لتقول الكاتبة في تقديمها :
"ليس مهما أن نحدد مكان ولا زمن الحكي لهذه الرواية ولا أسماء شخوصها، كل ما يهمنا أن الراوي الذي ينسج خيوط الحكي هو شخصية السيدة "راوية" المتعددة الأدوار والعلاقات."
وبذلك نكتشف كما صرحت أن شخوص كتابتها ضيوف يزورونها في كل ليلة بزمن حاضر الكتابة وماضي الحدث ليحكوا بلسان الحاضر أو الحاضر الذي ينوب عن الماضي بصيغة الجمع أو المفرد في علاقتهم بها. أختارت الكاتبة وعن قصد اسم "راوية " للشخصية المحورية لكونها الشخص الوحيد الذي خولت له حق السرد واستضافة شخوص متعددي أماكن وأزمنة الحدث. وأحيانا قد تكون الليلة بأكملها حكي سجي لتأملات هذه الشخصية المحورية في حد ذاتها لمجرد التصالح مع بعض الأحداث أوالتعبير عن مواقفها وأفكارها وهواجسها ومخاوفها، وأحيانا أخرى لتدفن بعض الأشخاص بأرض النسيان بعيدا عن ذاكرتها حتى ولو كانوا أحياء يرزقون.
فحسب الكاتبة فراوية من خلال حكيها بليالي الشتاء الطويلة، كأنها تقول للقارئ الذي يسامرها ويرافقها في حكيها : "هيا نوقظ الشمس ونسافر مع شغف الروح،هيا نعبرجسر الكلمة لنقلص المسافات، هيا لنعيش السعادة حتى وإن تذكرنا أحداثا غير سعيد لأننا من طينة الفنيقس، نحن أشخاص لم يكن همهم الشهرة والمال ولم تسكن أرواحهم لعنة التسوق، فسعادتنا سلسلة غير منقطعة من المتع المحسنة باستمرار، نحن تربينا على يد أشخاص كانوا في غاية الحكمة و أعجبنا بهم ليس لأنهم عظماء بل لأنهم كانوا حكماء. إن سعادتنا تكمن في تغلبنا على تعاسة الحياة اليومية التي هي في الحقيقة حياة دافئة ومشمسة بالحيوات الأخرى التي تقاطعت معها في علاقات متشابكة ومتداخلة بشكل رهيب. "
فالكاتبة تعتبر نفسها في كل ليلة، مسؤولة بقدر كبير ليس تجاه فكرة ما عن حقيقة معينة لكن باستثناء المعنى المنطقي إجمالا بقصصها، لأنها لا ترغب في أن تصبح كاتبة قصصية بقدر ما ترغب في ان تكون روائية قصاصة تقتطع الاحداث الماضية من اطارها الزمني لتحكيها بالحاضر المتامل لتحرير نفسها من رتابة الحكي التقليدي الذي قد تتخلله الرتابة اليومية، لأن ذاكرتها تعج بأحداث وقصص وأصوات أشخاص لا يرغبون بالتحرر من ذاكرتها المثقلة بسلاسلهم التي تسجنها داخل كبسولة الماضي ....فهي كاتبة قصصية ولكن قصاصة تقص احداثا لتختزلها داخل ليلة واحدة فالقارئ لن يكون مضطرا ابدا للعودة لقراءة ما سبق في الليلة السابقة ليفهم ما قد تحمله الليلة القادمة. فحسب الأديبة فالشخصية المحورية راوية تفتح نوافذ وأبوابا قد لا يراها أحد غيرها، تستحضرشخوصا وأوجهًا بمحض إرادتها ، وفي استدعائها لها تستحضر معها كل الماضي بتفاصله الدقيقة وحيثياته الجميلة والسيئة على حد سواء. وبقالب إبداعي له طقوسه الخاصة ولغته العميقة وأسلوبه البسيط المركب الأزمنة والأمكنة. فهي تؤمن بضرورة الحديث عن المعقد والمتشابك بالبسيط السهل الممتنع.
كل شخوصها تحضر من غياهب ماضيها لتجالسها بلحظات حاضرها المشرق بكل وضوح، فتأتي لغة الكتابة من هؤلاء الشخوص في حد ذاتهم، من انفعالاتهم وأحاسيسهم .....شخوص الماضي البعيد بلغتهم البعيدة كل البعد عن شخوص شبابها ولغتهم وشخوص الحاضر.... وقد لا تربط بينهم أية علاقة إلا ذاكرة راوية المسافرة عبر الزمان والمكان، ...فهي تؤمن وبصفة مطلقة أن التجربة قابلة للمشاركة، وأن استدعاءهم من ماضيها لتحاورهم بحاضرها هو في حد ذاته يستدعي مخيلة خصبة وذاكرة قوية ونفس حكائي طويل، لكنها تبقى مدركة أن قارئ اليوم ليس هو قارئ الأمس، و قد يمل حتى من طول نفسها في الحكي، فاختصرت له في كل ليلة حدثا أو مجموعة أحداث لا علاقة لها بأحداث الليلة السابقة أو الليلة القادمة لكن خلق الفضول لدى القارىء سيجعله يتطلع لما سيكون بكتابة الغذ، لكنها تجزم أن القدرة على التعاطف هو ثمرة هذا الإبداع الإجتماعي في إطار الخيال والجرأة في التعبير والحكي حتى لا يكون سيرة ذاتية متنكرة، بل مجموعات سير لذوات أخرى أُقحمت داخل سيرورة الحكي لسيرة راوية، إذ لا يعقل أن تكتب راوية عن شيء لا تعرفه ولم تسمعه ولا تشعره أو تستشعره لدى الآخر بشكل واضح من خلال محاورتهم والنبش بذاكرتهم، بل أن بعضهم يتم استدعاءه فقط لتخبره أنه لم يكن ولو لمرة واحدة في حياته على صواب، وأن أمام القانون يتساوى المفكر والموظف والبقال والجزار وبائع الملابس الداخلية....وأن الحياة الفردية هي سلسلة تجارب يومية فردية في علاقات جماعية متداخلة وليست مختبر تجارب يومية لأشخاص على أشخاص آخرين .
فالكتابة لدى راوية هي خلاص روحي لألم متراكم لسعادة متولدة، والليالي هي رحلة زمنية تفتح منها نوافذ وأبوابا على الماضي البعيد والحاضر الراهن حتى تثور على احداث تاريخ منمق وضعه كتاب المدن الكبرى جاء ليدفن تاريخا حقيقيا هو تاريخ المقاومة بالبوادي بسهل تادلة ابان الاحتلال الفرنسي للمغرب وتاريخ نضال من اجل الاستقلال وكفاح الفرد من اجل التعلم والعيش الكريم خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات واكراهات التسعينيات للسفر نحو المستقبل بأمان وبسلام على أساس غذ جميل وأمل في سعادة مرتقبة بلا مؤامرات ولا قيود ............ذ: عبد الرحيم نعيم

تعليقات

أعلى