قالت الفتاة التي قابلتها في طلعت حرب بالقرب من جروبي إنها هربت من منزلها بعدما ضربها ابن عمها ضربا مبرحا, وجردها من ملابسها وجز شعرها وحدث هذا أمام أبويها ولم يفعلا شيئا ـ وإن والدة خطيبها عندما رأتها بهذه الحالة المخزية أمرت ابنها أن يفسخ خطوبتها,
خشية أن يمسهم عار الخطيئة. ولكنها استطاعت أن تهرب منهم ليلا, وتجيء إلي ميدان التحرير, واختفت وسط الجموع منذ ليلة خمسة وعشرين يناير, ولم تعد حتي الآن. وأنها وجدت في ميدان التحرير كل أهلها وكل خطابها, وأنها لن تغادر منطقة التحرير أبدا حتي يموت ابن عمها الذي تسبب في عذابها وتشويهها وفراقها عن خطيبها.
ثم قالت لي وهي تنظر لي برقة: أعطني رقم هاتفك لأحدثك إن وجدت لي وظيفة كما وعدتني منذ قليل.
كنت قد قابلتها صدفة وأنا خارج من ميدان التحرير قبيل تنحي مبارك بقليل, تحمل أعلاما ومناديل ورق يرسم عليها علم مصر, ممتلئة الجسد, مليحة الطلعة مبتسمة الوجه, ولا يبدو عليها أثر تعذيب أو شقاء, ترتدي عباءة سوداء محلاة بحبيبات خرز وترتر.
قلت لها: يجب أن تبحث عن وظيفة فروح الثورة يجب أن تجلب الكرامة لكل المصريين, وأنه يجب أن تعمل لتملك جسدها ومستقبلها وأنها يجب أن تقدم طلبا للقوي العاملة لعلهم يصدقون ويعطونها وظيفة. قالت: إنها ليس لديها بطاقة هوية, وإنها لم تكمل تعليمها, وكانت تبيع غزل البنات مع أبيها علي ناصية الحارة في شوارع بين السورين.
كنت استمع إليها باهتمام فقد جذبتني منذ أن رأيتها وهي تقترب مني تبيع لي المناديل والأعلام, لم تكن معي نقود فكة. فقالت سأحاول أن أفك لك النقود, فمشت لا أستطيع أن أجزم بقولي أنني لا أئتمنها خاصة بعدما حدث من غياب الأمن وفتح السجون وانتشار البلطجية في الشوارع خطة الأرض المحروقة نجحت تماما في مصر بعد الثورة. ذهبت لأفك النقود. ثم لم أجدها حزنت وعبرت الشارع وفجأة وجدتها أمامي تكلم أحد الحراس بجوار الخطوط الجوية الفرنسيةairfrance ففرحت وهرولت تجاهها وأعطيتها النقود.
قالت أنت متزوج؟
لم أجب
قالت أنت طيب قوي.
أنت نزلت المظاهرة؟
لم أرد.
ماذا أقول لها.. أقول إنني لمدة طويلة لم أصرح عن انتماءاتي السياسية وأنني لم أهاجم أحدا يوما ما. وأنني ظلمت كثيرا وقهرت كثيرا. ولم أجرأ أن أتفوه بكلمة واحدة. أقول إنني كنت في المظاهرة ولكني كنت أقف علي الهامش غير قادر علي الولوج للداخل خوفا وتوترا. أقول إنني لم استطع أن أهتف: لا للفساد ولا للظلم ولا للتوريث وأن صوتي لم يخرج, هل أقول إنني وقفت كومبارس, صامت, كعدد فقط. وأنني هربت عند إطلاق النار وقنابل الغاز فاختنقت لولا أن أنقذني رجل الإسعاف بوضع ماسك الأكسجين علي فمي وعندما سألني عن اسمي أعطيته اسما آخر. خاصة عندما سألني أنت مع المظاهرة أم ضدها فأجبت هل يفرق هذا مع الطب؟!
فضحك.
هل أقول لها إن ميدان التحرير كان مختلفا وثوريا ونورانيا رغم قطع الكهرباء عن أعمدته. هل أقول ان مصفحات الشرطة كانت تصر أن تقهر الشباب والمتظاهرين. وانني كنت خائفا جدا. ومنكمشا, ولكني فرحا بما يحدث وغير مدرك لنهاية الأمر.
في منزلي كانت دموع أمي غزيرة علي رحيل مبارك. قالت إنه رجل أفني حياته في بلده. ويطلب ويتوسل أن يبقي وأن يموت في هذا البلد. قالت إنه لو مات ستتشاءم لأنه في مثل سن أبيك, ولكن بعد رحيله أصبحت أكثر تفاؤلا وحيوية. وقالت البركة في الشباب وربنا يرحم شهداءنا. سبعة عشر يوما من الترقب والخوف والقلق. الخوف علي مصير أولادها. والخوف علي مستقبل البلد وعلي مصير وأكل عيش أولادها. لا أمن في الشوارع بعد هروب الشرطة فكنا نسهر الليالي نحرس منزلنا في المعادي. نشعل أفرع الشجر, ونتسامر ونتعرف علي بعضنا البعض.
جيران لأول مرة. وعرفت سابع وعاشر جار لي. ولكني أصبحت خائفا وتأتيني الكوابيس ليلا ودائما ما كان يأتيني في الحلم ومعه ابنه ووزراؤه.
مرت سنوات قليلة هو الآن بعيد جدا ومات أبي ومازالت أمي تتذكرهما وتبكي. ولكن في لحظات كثيرة كانت تضحك وتبتهج. ومازلت ألمح فتيات غيرها يبعن المناديل الورقية في ميدان التحرير وبكثرة.
خشية أن يمسهم عار الخطيئة. ولكنها استطاعت أن تهرب منهم ليلا, وتجيء إلي ميدان التحرير, واختفت وسط الجموع منذ ليلة خمسة وعشرين يناير, ولم تعد حتي الآن. وأنها وجدت في ميدان التحرير كل أهلها وكل خطابها, وأنها لن تغادر منطقة التحرير أبدا حتي يموت ابن عمها الذي تسبب في عذابها وتشويهها وفراقها عن خطيبها.
ثم قالت لي وهي تنظر لي برقة: أعطني رقم هاتفك لأحدثك إن وجدت لي وظيفة كما وعدتني منذ قليل.
كنت قد قابلتها صدفة وأنا خارج من ميدان التحرير قبيل تنحي مبارك بقليل, تحمل أعلاما ومناديل ورق يرسم عليها علم مصر, ممتلئة الجسد, مليحة الطلعة مبتسمة الوجه, ولا يبدو عليها أثر تعذيب أو شقاء, ترتدي عباءة سوداء محلاة بحبيبات خرز وترتر.
قلت لها: يجب أن تبحث عن وظيفة فروح الثورة يجب أن تجلب الكرامة لكل المصريين, وأنه يجب أن تعمل لتملك جسدها ومستقبلها وأنها يجب أن تقدم طلبا للقوي العاملة لعلهم يصدقون ويعطونها وظيفة. قالت: إنها ليس لديها بطاقة هوية, وإنها لم تكمل تعليمها, وكانت تبيع غزل البنات مع أبيها علي ناصية الحارة في شوارع بين السورين.
كنت استمع إليها باهتمام فقد جذبتني منذ أن رأيتها وهي تقترب مني تبيع لي المناديل والأعلام, لم تكن معي نقود فكة. فقالت سأحاول أن أفك لك النقود, فمشت لا أستطيع أن أجزم بقولي أنني لا أئتمنها خاصة بعدما حدث من غياب الأمن وفتح السجون وانتشار البلطجية في الشوارع خطة الأرض المحروقة نجحت تماما في مصر بعد الثورة. ذهبت لأفك النقود. ثم لم أجدها حزنت وعبرت الشارع وفجأة وجدتها أمامي تكلم أحد الحراس بجوار الخطوط الجوية الفرنسيةairfrance ففرحت وهرولت تجاهها وأعطيتها النقود.
قالت أنت متزوج؟
لم أجب
قالت أنت طيب قوي.
أنت نزلت المظاهرة؟
لم أرد.
ماذا أقول لها.. أقول إنني لمدة طويلة لم أصرح عن انتماءاتي السياسية وأنني لم أهاجم أحدا يوما ما. وأنني ظلمت كثيرا وقهرت كثيرا. ولم أجرأ أن أتفوه بكلمة واحدة. أقول إنني كنت في المظاهرة ولكني كنت أقف علي الهامش غير قادر علي الولوج للداخل خوفا وتوترا. أقول إنني لم استطع أن أهتف: لا للفساد ولا للظلم ولا للتوريث وأن صوتي لم يخرج, هل أقول إنني وقفت كومبارس, صامت, كعدد فقط. وأنني هربت عند إطلاق النار وقنابل الغاز فاختنقت لولا أن أنقذني رجل الإسعاف بوضع ماسك الأكسجين علي فمي وعندما سألني عن اسمي أعطيته اسما آخر. خاصة عندما سألني أنت مع المظاهرة أم ضدها فأجبت هل يفرق هذا مع الطب؟!
فضحك.
هل أقول لها إن ميدان التحرير كان مختلفا وثوريا ونورانيا رغم قطع الكهرباء عن أعمدته. هل أقول ان مصفحات الشرطة كانت تصر أن تقهر الشباب والمتظاهرين. وانني كنت خائفا جدا. ومنكمشا, ولكني فرحا بما يحدث وغير مدرك لنهاية الأمر.
في منزلي كانت دموع أمي غزيرة علي رحيل مبارك. قالت إنه رجل أفني حياته في بلده. ويطلب ويتوسل أن يبقي وأن يموت في هذا البلد. قالت إنه لو مات ستتشاءم لأنه في مثل سن أبيك, ولكن بعد رحيله أصبحت أكثر تفاؤلا وحيوية. وقالت البركة في الشباب وربنا يرحم شهداءنا. سبعة عشر يوما من الترقب والخوف والقلق. الخوف علي مصير أولادها. والخوف علي مستقبل البلد وعلي مصير وأكل عيش أولادها. لا أمن في الشوارع بعد هروب الشرطة فكنا نسهر الليالي نحرس منزلنا في المعادي. نشعل أفرع الشجر, ونتسامر ونتعرف علي بعضنا البعض.
جيران لأول مرة. وعرفت سابع وعاشر جار لي. ولكني أصبحت خائفا وتأتيني الكوابيس ليلا ودائما ما كان يأتيني في الحلم ومعه ابنه ووزراؤه.
مرت سنوات قليلة هو الآن بعيد جدا ومات أبي ومازالت أمي تتذكرهما وتبكي. ولكن في لحظات كثيرة كانت تضحك وتبتهج. ومازلت ألمح فتيات غيرها يبعن المناديل الورقية في ميدان التحرير وبكثرة.