كانت الكاميرا ترسم الفضاء الذي نشأت وشبت فيه على شكل متاهة، يحيط بها الجبل من كل الجهات كجدران تحتفظ بسر أحد الفجاج التي تنبت فيها حكاية تردّد أصداء حلم قديم، في بقعة منسية تغيب عنها أبسط مظاهر الحياة، كتب عليها أن تبقى منذ التاريخ القديم بدون حمام، أو معبد، كأنها لا تصلح للعيش، رغم بعض الشواهد الأثرية المتفسخة المشرفة على البحر.
حين تتحدث عن شهادتها عن المسلحين الذين سكنوا الجبل وقبض عليهم في “الفج”، وأفلتت من قبضتهم كان عليها أن تمسك الخيط الأول من الحكاية. هي طالبة في علم الاجتماع تدرس في العاصمة، عادت إلى مسقط رأسها لتقوم بدراسة عن حضور الفكر الخرافي في تلك الرقعة، إذ تسكن “الفج” حكايات ترزح تحت وطأة الذاكرة، تنهل من مخيلة متشابكة الخطوط، تحمل بين طياتها الرعب، ويردد البعض أن ذلك الفج الذي كتبت على جدرانه إشارات مبهمة، هو أحد السجون الرومانية القديمة، ما زالت الأرواح المعذبة تطلق فيه ليلا عواء الألم. بل هو مقبرة موحشة مسكونة بأشباح الماضي.. وتفصح بعض ألسن سكان الجبل عن حكايات غريبة عن سكانه القدامى الذين حفروا البيوت الشبيهة بكهوف.. مع تحذيرات تنفر من الاقتراب منه إذ تسكنه الزواحف والحيوانات الضارية.
لا أحد تجرأ على دخول الفج منذ هروب سكانه مع قدوم لبؤة خالوها «عبيثة» أحد الجنود الرومان القدامى الذين كانوا يعذبون البربر في هذا الفج الذي لم يذكر في كتب التاريخ، إذ لم تقترب منه معاول الباحثين بعد، وكأن هذه المنطقة كتب عليها أن تحتفظ بأسرارها القديمة. في تلك الخطوط ذات المجاهل الغريبة، تهمس لها ذاتها بأن المتاهة تغري بالولوج. وأشارت إلى تلك العتبات التي تؤدي للفج. كل المنافذ تنفتح لتجهض الخوف من تلك التفاصيل المتخفية ويدعو مقدم البرنامج عالم آثار ليعطيه معلومات عن الفج، فيرد بنبرات خالية من اليقين: “أعتقد بأنه كان ثكنة قديمة وأنه بقي مغلفا بالأسرار والصمت”.
تتسع القرية الجبلية لكهوف نحتت في الجبل الذي ينفتح كرحم امرأة وهي تتهيأ لوضع وليدها، ويتسع لنوى من البيوت المتناثرة مبنية بأياد تملس الطين، وتحفر الصخر. وفي مدخل القرية يجلس كهل على صخرة، يعزف على عود متآكل لحنا يوتر السامع، لحن كعويل ضاج بالأسئلة، وما إن ينساب ذلك الصوت في الفضاء حتى يشعر المار من هناك أنه ضائع في متاهة الحلم. تبعثره ألحان الفوضى، يفقد تركيزه، يبعثر أوراق ذاكرته، تصاحبه ترنيمات ذلك الكهل كصرخات تدوّي، تتحاور الأصوات وتبدأ في سرد مقاطع الحكاية. عن المعذبين في الزمن الغابر تصفع السلاسل والسياط ظهورهم.
“لقد داست أقدام الغزاة أجساد البربر، فلم تستو مع التراب بل خلعت الأرواح من تلك الجثث وحلقت في صور هلامية تنكل بكل الهامات التي نكلت بها. وكنت أستمع من خلال صوته إلى وقع السياط على تلك الأجساد التي تسترجع أصواتها رغبة في فك القيد والطواف بديار الجبل المتناثرة”.
في المساء تستيقظ أصوات النواح تنبعث من حناجر سكان المقبرة القديمة في الفج، ويسمع قرع الطبول، يصاحبه عواء الذئاب الذي يبعث الشعور بالوحشة، إذ ينبري كالعويل، حيث تستفيق أرواح السجناء في أرضهم، تلك الأصوات التي بعثت حالة من التوتر عند أهل الجبل وهم يقاومون الشعور بحضور الموتى الذين يصفعون حالات الطمأنينة.
ومن الغد صباحا كي تطمئن تلك الأرواح وتتحرر تمارس النسوة والفتيات بعض الطقوس، يرمين الملابس السوداء في قمامة ويتم إحراقها. ويتطهرن في البحيرة، وعند السباحة في مائها اللماع، تنقطع كل تلك الخيوط التي تشد هؤلاء إلى ذكريات التعذيب القديمة، ثم يصعدن نحو زاوية متصوف، أصبح جزءا من ذاكرة القرية الجبلية، وتقطع الفتاة التي تظهر في التلفاز الطريق معهن..
تتحدث الفتاة عن تلك الطقوس “يتوسط الشيخ المجلس، ودراويشه ينشدون الأذكار المشبعة بالحس، والالتحام بالجسد. وتعتقد النسوة أن في ريقه بركة، والشيخ صاحب الأفعال الشبقية يمتص رحيق الصبايا، ويوهمهن بأن البركة قد طفت على الكون، لتهدأ أرواح المعذبين في ذلك الزمن الغابر. تتكشف رموز الشهوة على جدران غرفته الأشبه بالكهف كبقايا اللحظة الملطخة”.
تنقل الكاميرا تصميم المبنى البسيط الغريب، الذي يسكن فيه الشيخ، وتشير الفتاة إلى ذلك الباب الصغير المغلق بأقفال صدئة، وتعقب، “كنت أتساءل إلى أي منفذ يؤدي؟ والتراب الأعلى من أرضية الباب ترى ماذا يوجد تحته؟ قد يؤدي إلى كهف”، لكنها جوبهت بإجابة الشيخ “لا يمكن الدخول إليه، قد يكون «دغرارة ثعابين»؟ بل هو مضجع الذين ماتوا تحت التعذيب وتقام لهم طقوس الدروشة لتنام أرواحهم في سلام..”.
غادرت تلك الزواية، وقد بقيت في ذهنها صورة الفتيات اللاتي كن يحملن بعض السلال المحشوة بالهدايا للشيخ، ويدخلن عليه بالتداول، ثم تخرج الواحدة منهن بسلة خاوية، وفي عينيها تصميم حاد، ذلك أن أغلب الفتيات اللاتي يزرن الشيخ تظهر عليهن نعمة الثراء. مع ذلك بقيت الأرواح المعذبة تطلق عواء الألم ليلا في جبل أشبه بمقبرة موحشة مسكونة بأشباح الماضي، وفي الصباح تتعالى أوتار ذلك العود المتآكل، ليستفيق الناس على ذكرى بعيدة، وأخرى قريبة. حين ترتسم ألوان الكهوف المتناثرة بظل داكن، أشجان تبكي الضحايا والجرحى النازفين دما، في هذا الجبل الذي تربى فيه الذئاب البشرية للانقضاض على شباب القرية، دون أن تعرف مخابئهم. فلا يغادر الحزن فضاء الجبل، وقد قرعت الموسيقى أجراس الكلمات.
تأخذها قدماها إلى جولة قريبة من الفج، لتبتعد قليلا عن الجو الجنائزي، فيستنهض خيالها صور الفج وخربشاته ورائحته الغافية على ركبة الزمن القديم، ويخاتلها الهدوء الآسر وهي لا تستمع إلا لوقع أقدامها، وكل ما كانت تعيه في تلك اللحظات أن رحلة ولوج الفج هي رحلة الهرب إلى متاهة الذات، وعيناها تبحثان في أحد الكهوف عن صورة ناسك أو كاهن يتأمل داخل المعبد فإذا به يعود إلى قلقه وضجيجه.
في تلك الأثناء وحين كان الجبل يلعق جراح أبنائه المغدورين، تناهت إليها أصوات غريبة، فاختبأت وراء صخرة تلفها الأعشاب العالية، قرب الفج تمر فتيات يقتربن من عتبات الفج، وبعد لحظات يطل هؤلاء الدراويش الذين يعيشون في الزاوية مع الشيخ، كانوا محملين بحقائب صغيرة محشوة بالأغراض، تأخذ كل واحدة منهن حقيبة وتضعها تحت جلبابها، وتلتفت يمينا ويسارا وتغادر. لم تقو على فك طلاسم المشهد إلا حين تفطن إليها أحدهم، فلم يسلم حقيبته للمرأة بل فتحها وأخرج منها بندقية وقد كانت محشوة بالبنادق والذخيرة على ما يبدو، ووجهها نحوها..
تدفع جسدها بقوة في الطريق الوعر الذي ينبسط أمام رغبتها في النجاة، وكانت عارفة بفجاج الجبل وتشعباته، توالت الطلقات في كل الاتجاهات في جبل يطوي مسافات الحكاية، ويأسر بعض تفاصيلها ويدفعها إلى فوهة العتمة، تركض، فينفتح الطريق، يلتحم بتجاويف النفس، تنبري خطوط الآتي مثقوبة بالمجهول. وفي تلك الخطوط يرتسم وجهها يدعوها للهرب من فجوات الجبل.
تحاصرها صورة الشيخ، وتقول إنه الوحيد العارف بمنافذ الجبل وسراديبه التي تنفذ به نحو القرية المجاورة، وكل المغاور التي تؤدي إلى جوف الجبل وتطيب فيه عزلته، أيقنت أنه يسهل لهؤلاء نقل السلاح ويؤويهم مدعيا أنهم دراويش.. كان عليها أن تختبئ، وتنزوي في عالم رهيب في صمته وفي خشوعه، يستدعي الصحو والاستعداد لكل طارئ، فقد تخرج بعض الزواحف من إحدى الحفر. أو يهاجمها الدراويش بأسلحتهم..
تخرج الآن من مخبئها وتطل عبر الشاشة وتقول بنبرة حازمة: “أجل كنت أنا من تفطن إلى تلك العصابة التي تهرب السلاح عبر منافذ الفج، وتقوم الفتيات بنقلها إلى الشيخ إلى أعلى الجبل فيخفيها في ذلك المخزن الذي يغلقه بسلاسل وبأقفال صدئة ليوحي أنه لم يفتح منذ مدة، لقد هرّب إليه الدراويش السلاح والمال من الضفة الأخرى المفتوحة على البحر..”.
حين تتحدث عن شهادتها عن المسلحين الذين سكنوا الجبل وقبض عليهم في “الفج”، وأفلتت من قبضتهم كان عليها أن تمسك الخيط الأول من الحكاية. هي طالبة في علم الاجتماع تدرس في العاصمة، عادت إلى مسقط رأسها لتقوم بدراسة عن حضور الفكر الخرافي في تلك الرقعة، إذ تسكن “الفج” حكايات ترزح تحت وطأة الذاكرة، تنهل من مخيلة متشابكة الخطوط، تحمل بين طياتها الرعب، ويردد البعض أن ذلك الفج الذي كتبت على جدرانه إشارات مبهمة، هو أحد السجون الرومانية القديمة، ما زالت الأرواح المعذبة تطلق فيه ليلا عواء الألم. بل هو مقبرة موحشة مسكونة بأشباح الماضي.. وتفصح بعض ألسن سكان الجبل عن حكايات غريبة عن سكانه القدامى الذين حفروا البيوت الشبيهة بكهوف.. مع تحذيرات تنفر من الاقتراب منه إذ تسكنه الزواحف والحيوانات الضارية.
لا أحد تجرأ على دخول الفج منذ هروب سكانه مع قدوم لبؤة خالوها «عبيثة» أحد الجنود الرومان القدامى الذين كانوا يعذبون البربر في هذا الفج الذي لم يذكر في كتب التاريخ، إذ لم تقترب منه معاول الباحثين بعد، وكأن هذه المنطقة كتب عليها أن تحتفظ بأسرارها القديمة. في تلك الخطوط ذات المجاهل الغريبة، تهمس لها ذاتها بأن المتاهة تغري بالولوج. وأشارت إلى تلك العتبات التي تؤدي للفج. كل المنافذ تنفتح لتجهض الخوف من تلك التفاصيل المتخفية ويدعو مقدم البرنامج عالم آثار ليعطيه معلومات عن الفج، فيرد بنبرات خالية من اليقين: “أعتقد بأنه كان ثكنة قديمة وأنه بقي مغلفا بالأسرار والصمت”.
تتسع القرية الجبلية لكهوف نحتت في الجبل الذي ينفتح كرحم امرأة وهي تتهيأ لوضع وليدها، ويتسع لنوى من البيوت المتناثرة مبنية بأياد تملس الطين، وتحفر الصخر. وفي مدخل القرية يجلس كهل على صخرة، يعزف على عود متآكل لحنا يوتر السامع، لحن كعويل ضاج بالأسئلة، وما إن ينساب ذلك الصوت في الفضاء حتى يشعر المار من هناك أنه ضائع في متاهة الحلم. تبعثره ألحان الفوضى، يفقد تركيزه، يبعثر أوراق ذاكرته، تصاحبه ترنيمات ذلك الكهل كصرخات تدوّي، تتحاور الأصوات وتبدأ في سرد مقاطع الحكاية. عن المعذبين في الزمن الغابر تصفع السلاسل والسياط ظهورهم.
“لقد داست أقدام الغزاة أجساد البربر، فلم تستو مع التراب بل خلعت الأرواح من تلك الجثث وحلقت في صور هلامية تنكل بكل الهامات التي نكلت بها. وكنت أستمع من خلال صوته إلى وقع السياط على تلك الأجساد التي تسترجع أصواتها رغبة في فك القيد والطواف بديار الجبل المتناثرة”.
في المساء تستيقظ أصوات النواح تنبعث من حناجر سكان المقبرة القديمة في الفج، ويسمع قرع الطبول، يصاحبه عواء الذئاب الذي يبعث الشعور بالوحشة، إذ ينبري كالعويل، حيث تستفيق أرواح السجناء في أرضهم، تلك الأصوات التي بعثت حالة من التوتر عند أهل الجبل وهم يقاومون الشعور بحضور الموتى الذين يصفعون حالات الطمأنينة.
ومن الغد صباحا كي تطمئن تلك الأرواح وتتحرر تمارس النسوة والفتيات بعض الطقوس، يرمين الملابس السوداء في قمامة ويتم إحراقها. ويتطهرن في البحيرة، وعند السباحة في مائها اللماع، تنقطع كل تلك الخيوط التي تشد هؤلاء إلى ذكريات التعذيب القديمة، ثم يصعدن نحو زاوية متصوف، أصبح جزءا من ذاكرة القرية الجبلية، وتقطع الفتاة التي تظهر في التلفاز الطريق معهن..
تتحدث الفتاة عن تلك الطقوس “يتوسط الشيخ المجلس، ودراويشه ينشدون الأذكار المشبعة بالحس، والالتحام بالجسد. وتعتقد النسوة أن في ريقه بركة، والشيخ صاحب الأفعال الشبقية يمتص رحيق الصبايا، ويوهمهن بأن البركة قد طفت على الكون، لتهدأ أرواح المعذبين في ذلك الزمن الغابر. تتكشف رموز الشهوة على جدران غرفته الأشبه بالكهف كبقايا اللحظة الملطخة”.
تنقل الكاميرا تصميم المبنى البسيط الغريب، الذي يسكن فيه الشيخ، وتشير الفتاة إلى ذلك الباب الصغير المغلق بأقفال صدئة، وتعقب، “كنت أتساءل إلى أي منفذ يؤدي؟ والتراب الأعلى من أرضية الباب ترى ماذا يوجد تحته؟ قد يؤدي إلى كهف”، لكنها جوبهت بإجابة الشيخ “لا يمكن الدخول إليه، قد يكون «دغرارة ثعابين»؟ بل هو مضجع الذين ماتوا تحت التعذيب وتقام لهم طقوس الدروشة لتنام أرواحهم في سلام..”.
غادرت تلك الزواية، وقد بقيت في ذهنها صورة الفتيات اللاتي كن يحملن بعض السلال المحشوة بالهدايا للشيخ، ويدخلن عليه بالتداول، ثم تخرج الواحدة منهن بسلة خاوية، وفي عينيها تصميم حاد، ذلك أن أغلب الفتيات اللاتي يزرن الشيخ تظهر عليهن نعمة الثراء. مع ذلك بقيت الأرواح المعذبة تطلق عواء الألم ليلا في جبل أشبه بمقبرة موحشة مسكونة بأشباح الماضي، وفي الصباح تتعالى أوتار ذلك العود المتآكل، ليستفيق الناس على ذكرى بعيدة، وأخرى قريبة. حين ترتسم ألوان الكهوف المتناثرة بظل داكن، أشجان تبكي الضحايا والجرحى النازفين دما، في هذا الجبل الذي تربى فيه الذئاب البشرية للانقضاض على شباب القرية، دون أن تعرف مخابئهم. فلا يغادر الحزن فضاء الجبل، وقد قرعت الموسيقى أجراس الكلمات.
تأخذها قدماها إلى جولة قريبة من الفج، لتبتعد قليلا عن الجو الجنائزي، فيستنهض خيالها صور الفج وخربشاته ورائحته الغافية على ركبة الزمن القديم، ويخاتلها الهدوء الآسر وهي لا تستمع إلا لوقع أقدامها، وكل ما كانت تعيه في تلك اللحظات أن رحلة ولوج الفج هي رحلة الهرب إلى متاهة الذات، وعيناها تبحثان في أحد الكهوف عن صورة ناسك أو كاهن يتأمل داخل المعبد فإذا به يعود إلى قلقه وضجيجه.
في تلك الأثناء وحين كان الجبل يلعق جراح أبنائه المغدورين، تناهت إليها أصوات غريبة، فاختبأت وراء صخرة تلفها الأعشاب العالية، قرب الفج تمر فتيات يقتربن من عتبات الفج، وبعد لحظات يطل هؤلاء الدراويش الذين يعيشون في الزاوية مع الشيخ، كانوا محملين بحقائب صغيرة محشوة بالأغراض، تأخذ كل واحدة منهن حقيبة وتضعها تحت جلبابها، وتلتفت يمينا ويسارا وتغادر. لم تقو على فك طلاسم المشهد إلا حين تفطن إليها أحدهم، فلم يسلم حقيبته للمرأة بل فتحها وأخرج منها بندقية وقد كانت محشوة بالبنادق والذخيرة على ما يبدو، ووجهها نحوها..
تدفع جسدها بقوة في الطريق الوعر الذي ينبسط أمام رغبتها في النجاة، وكانت عارفة بفجاج الجبل وتشعباته، توالت الطلقات في كل الاتجاهات في جبل يطوي مسافات الحكاية، ويأسر بعض تفاصيلها ويدفعها إلى فوهة العتمة، تركض، فينفتح الطريق، يلتحم بتجاويف النفس، تنبري خطوط الآتي مثقوبة بالمجهول. وفي تلك الخطوط يرتسم وجهها يدعوها للهرب من فجوات الجبل.
تحاصرها صورة الشيخ، وتقول إنه الوحيد العارف بمنافذ الجبل وسراديبه التي تنفذ به نحو القرية المجاورة، وكل المغاور التي تؤدي إلى جوف الجبل وتطيب فيه عزلته، أيقنت أنه يسهل لهؤلاء نقل السلاح ويؤويهم مدعيا أنهم دراويش.. كان عليها أن تختبئ، وتنزوي في عالم رهيب في صمته وفي خشوعه، يستدعي الصحو والاستعداد لكل طارئ، فقد تخرج بعض الزواحف من إحدى الحفر. أو يهاجمها الدراويش بأسلحتهم..
تخرج الآن من مخبئها وتطل عبر الشاشة وتقول بنبرة حازمة: “أجل كنت أنا من تفطن إلى تلك العصابة التي تهرب السلاح عبر منافذ الفج، وتقوم الفتيات بنقلها إلى الشيخ إلى أعلى الجبل فيخفيها في ذلك المخزن الذي يغلقه بسلاسل وبأقفال صدئة ليوحي أنه لم يفتح منذ مدة، لقد هرّب إليه الدراويش السلاح والمال من الضفة الأخرى المفتوحة على البحر..”.