محمد فتحى عبد الفتاح - الخفير

لا أنها ليست لعبة. ملعوب لم ير مثله من قبل قط!

حقيقة ماذا يفعل مع هؤلاء الناس؟! هل صحيح أمست الدينا هذا الجنون الذى يصورونه،أم أن الله خلقهم، أو خلقه دونهم، من طينة أخرى؟ هل هو حقيقة المجنون؟! أصحيح يعنى كونه من قلبى شيئا؟ أيمكن أن يكون الموضوع بالفعل، مجرد تقفيلة مخ؟ ان كان الكل يجاهر بذلك فهل يمكن أن يكون الكل مجانين ويكون هو العاقل؟ ! أيجئ من الصعيد الجوانى ليعمل عليهم، هم ولاد مصر – مصر أم الدنيا – أبو الفهيم هل يفعلها وينهى كل شئ؟ !

ولكن لماذا لم يعد اذن فى واحد من الأيام الصعبة؟! مثلا يوم تاه فى كلمات مثل الهيئة، والمقاولين، وعثمان، والشرق، والأنفاق، والغرب، وقناة التحويل، وكيما، والسيل، رغم أنه جاء دون أن يسمع، فضلا عن السد، سوى عن الحكروب، الذى سيطوحون جثته فيه، حين يموت. لماذا لم يفعلها يوم التحويل مثلا؟! ساعة أغرقت المياه أعز أبنائه، بعد أن قضى شهورا فى صقيع الليالى وجحيم الظهيرة يغدق عليه باندفاع وبلا تريث، ليتجاوز العطاء دوائر الجهد والعرق ويمتد الى عقلة الاصبع وبعض من نور العين. هل يجئ بعد أن ملأ الشيب رأسه وبعد الحفر السوداء حول عينيه ليفعلها؟! أى سكينة سرقته حينئذ فجعلته يمضى دون أن يمعن فيما يحدث؟

“الخطوط الخطوط. وهل كنا نعرف فى البداية الأنفاق وقناة التحويل والسيل….”

يمضى دون أن يمعن ليبدأ كل شئ، دون وعى، فى السرسبة، ورويدا…

كيف يفعلها والى أين؟ صحيح أيعود؟ !

لماذا يحس بنفسه هكذا مقطوعا من شجرة، غارقا فى اليتم؟

أى شجرة كانت له وفى أى زمان ليحس الآن انه مقطوع منها؟ اى شجرة كانت فى أسوان أو الخطوط بل وبعدهما، حتى اللحظة التى دهمته بشراستها المجنونة؟ لماذا يحس بكل هذا الحنين لزوجته. لدفء جسدها. لوجهه مدفوس فى حجرها وكفاها المشققتان على رأسه؟! لماذا تهف عليه بكل هذا الالحاح، رغم أن البعد والفراق ليسا وليدى اليوم؟

البعد صحيح، ولكن أى معنى لكلمة”الفراق” هذه، لماذا لم يحسه من قبل؟! ما الذى تغير وقاده الى الرغبة الزامتة فى أن يضمها ويقبلها حتى تبكى. لا حتى يبكى هو.

نعم ينكب على صدرها ويشكو الدنيا ويبكى. هل انقلبت الآية لينوح هو الرجل فى حجر امرأته ويشكو؟!

حقيقة أيعود، والى أين؟ !

هل نسى زياراته القليلة لهم وخطاباته الأقل بكلماتها الخشنة الشائكة، التى كررها مرات ردا على دعواتهم الدائمة؟ كلماته التى كانت تدوى كالفنابل ردا على رسائلهم..

– بلدك وناسك !!

– لا أنا من اهل البلد ولا من ناسها. الناس عندكم لا هم قرايب ولا نسايب.

– أيمكن أن يكون الانسان هكذا صالبا وحده دون شجرة؟

– شجرة ما شجراش المهم بلدكم ليست بلدى. بلدى أسوان..

لماذا كان هكذا صالبا فى أسوان؟ أى شجرة كانت له هناك؟! كيف تسرسب من أسوان للخطوط. من الخطوط لأوسيم ومن أوسيم لمجمع الحديد والصلب.

أهو المكتوب؟!

هل هكذا غدر الدينا؟ أيكون المكتوب أن يعود الى أسرته لا أن تجئ اليه؟ أهكذا وبعد كتابة عقد ايجار شقة المرازيق*؟ أيمكن بعد أن زفهم بقرب اللمة بعد سنوات الغربة!؟ وما الذى يمكن أن يغيره ما حدث فى الأمر حتى يصبح ناس البلد، هكذا فجأة، ناسه. ليعودوا لأهله ونسبه وشجرته ويعود اليهم.

ما السر فى هذه الطوفة التى تجتاحه. لماذا الفكرة المجنونة “لاأريد. رافض. اعطونى حقوقى. ودى أروح لأهلى. لناسى” لماذا يحس انه يود أن يقف ويصيح بها عالية جهيرة وكأنما ليعلن الغايب قبل الحاضر؟

****

خرفش الليل وخايلته أشباح تخطو فى الظلام الغول. خف تجاهها وهو يحد النظر على ضوء نجم السماء الراعش. كانوا يحملون غنيمتهم ماضين من ا لدرك…….

“من هناك؟ وقف عندك…..”

يكررها وهم ماضون بلا التفات. تناول ماسورة طويلة من الكوم المجاور له ومضى فى اثرهم. طقت عيونهم من فتحات الكمامات شررا وعربد صوت أحدهم:

“غور يا ولد روح دركك ونم…..”.

“أهو أنا المفروض أن يغور يابلد. ماذا تفعلون هنا؟ “

“تحقيق؟ ! اسمع الكلام وغور أحسن لك “ولما تعامى عن تنفيذ أوامرهم ورفع الماسورة فى يده رموا حملهم ومضوا…..

أوجب عليه أن يكتفى بذلك؟ ولو اكتفى أتركته الادارة ولم تنقله الى الدرك الداخلى الآمن ، حماية له من جنونه؟! ليجلس هكذا كالولايا. صحيح ماذا كان الموظف سيقول آنئد؟ أعوى “تشرفنا. تريد أن تقبض عليهم. انهم مسلحون “

تبعهم والماسورة مشرعة الى أن جاءته “قف عندك يا غفير” باترة… تطلع صوب الصوت لتبصق، الظلمة وجهان آخران يطلان من وراء تلة، عينى كل منهما بحذاء كرسى سن نملة الدبانة واصبعه على الزناد. اندفع بقصوره لحظة ويده تائهة بين قطعة الحديد المثبتة فى طرف النبوت والخنجر العمولة فى جيبه، لكنه سرعان ما ثبت مشلولا وعيناه تنظران فى انكسار الى ماسورة البندقية المشرعة

****

ماذا سيقولون فى القرية؟! سيمصمصون شفاهم ويلوون ألسنتهم فى شماتة “لف ودار ورجع للزراعة وكأنه لا راح ولا جاء !!”

حقيقة ماذا يفعل؟ !

أيصير مثل موظفى وخفراء آخر الزمن لينتهى الأمر؟! يردد مثلهم ما دخلى والمال ليس بمالى؟ هل اشتريت الدرك؟ لكن ماذا يكون عمل الخفير ساعتئذ؟ هل يستطيع ان يصير مثلهم حقيقة؟ وان كان فلماذا قاوم كل هذا الزمن؟ لماذا لم يكتف بالفرجة ولا حتى بكون كل شئ يجرى بعيدا عن دركه؟ وتواثب من السخرية الى التشهير بخنوثة الرجال ومضى بتوعدهم ببئس المصير؟ هل يصير أخيرا مثلهم؟ ولو صار أين يكون من محمد بن حسين بن جاد الرب الذى كانه، يوم وقف فى وجه البلد بكل ناسها ، مصرا على ان يذهب الى السد.

– طيب والأهل والأولاد والحرمة….

مرة يسوقونهم عليه ، ومرة يسوقون حكايات الطريشة والثعابين، ومرات حكايات الديناميت الغول الذى يباغت الرجال، بعد ان يبتلع ضجيج ماكينات الحفر، صفارة التحذير، لتنقض أحشاء الجبل آخذة بثأره، طاوية من لم يسمع أو لم يمهل.

– على آخر الزمن تريد ان تدفن خارج البلد… من سيعرفك هناك؟! ان ما طوحوك على الحكروب كالكلب. لاأهل ولا معرفة.

أين يكون من محمد بن حسين الذى، رغم الحكايات الكثيرة، ركب رأسه ليصيح فيهم

“وماذا لى هنا؟ وهل اختلف الأمر ان بقيت. ألن أموت هنا كالكلب؟ “

ماذا جعله يعرض عن أقوالهم ويمضى؟ !

“ألم تجد الا أسوان؟ طيب بحر ياأخى. ولا انت دايما حاطط فى الواطئ. يعنى هو ابن عمك كان قبل. ماهو بواب قد الدنيا فى مصر.

ما هذا السد ومن اين طلع لنا على آخر الزمن؟”.

أى هاتف كان يشده ويلح عليه جعله حتى بعد أن وعى الديناميت والفأس والحجارة والأنفاق، وحتى بعد أن رأى الموت يشرع انيابه، بتمادى حين تمادوا.

“لن أعود. ليس لى أحد عندكم.السد هو بلدى، هو ما ورائى وما أمامى، هو أهلى وامرأتى وولدى، وربنا يقدرنى وآخذهم بجانبى هنا “.

لك حق يا سيد. تعزز. طوحنا على البلاد العوجاء تشوط فينا…

الم نبع ما أمامنا وما وراءنا من أجلك؟

ما الذى جعله صالبا حتى وصوت ناس البلد يخبوا؟! صالبا رغم رنة الملانية التى حلت محل زعيق التهديد.

“همنا مصلحتك. ولد عمك بعت مرسال يريدك معه فى مصر“.

“بواب قد الدنيا”. صحيح ان كانوا يلقبون مصر هذه “بأم الدنيا”

فلمكاذا لايكون ابن عمه” قد الدنيا” هل حقيقة يعرفون الدور المناط بولد عمه فى مصر؟ هل يمكن أن يسعى ليكون مثله؟ صحيح ابن عمه كمصر تماما… ملمس ناعم، خاتم وساعة يضويان، جلباب جباردين مكوى، حذاء يلمع، شال ناصع البياض يلف طاقية”بغددة” من صوف عمولة، ذقن محلوقة ناعمة، ووجه لامع على الدوام، كما مصر بالتمام….

“بحر هو يعنى ابن عمك كان قبل!!”.

هل يلومهم على تصوراتهم….. هو نفسه فى اليوم الأول من الزيارة التى حج فيها الى مصر، قبل الذهاب الى السد، تعجب واحتار من مجرد كون هذا الانسان الذى يضوى هو ولد عمه، وولد عمه لزم. استغرب وصعبت عليه نفسه. لكن الأمر لم يستمر سوى أيام.

فى اليوم الأول شدة وبنت مصر” لهطة القشطة” بلحمها وبدمها… بالصدر نصف العارى، والأرادف نصف الداعية، والملابس المشدودة التى تجسم ولا تغطى تمد يدها وتقرصه فى خده ثم تقبل الهواء امامه، وتناوله بقشيشا” بريزة” كاملة وكل ذلك لا لشئ، سوى كونه ولد عم حمد أبو حميد بواب العمارة التى تسكن فيها!!.

لكنها لم تكن سوى أيام، سرعان ما تكشفت الأمور بعدها وفهم. فهم بعد أن رأى شقة فنانة السينما، الراقصة اسما، كل يوم زوار. أفندية ببدلن وخواجات ببرانيط، وأولاد عرب بعقال وشال. وكل يوم أيضا زائرات بفساتين وصدور عارية وسيقان… بعد أن رأى خادمة الفنانة التى اصطحبها ليحمل عنها وهى تمد يدها للبقال الذوات بعشرين جنيها، مرة واحدة، ثمنا لمزاج السهرة….

والغريب ان ولد عمه الصعيدى مثله، كان يعرف….. ابن عمه لزم كان موافقا وصامتا

“فنانين يا مهمد. أصلك ما تعرفش ما مهمد. ما شفتش دنيا ولا سينما يا مهمد..”

مع الزمن عرف المملكة التى تستخدم ابن عمه، بعد أن جاس أروقتها وأزقتها بحسه بعد= عينيه. ليست الراقصة فقط. زوجة الطبيب الذى لا يعود الا مسطولا آخر الليل أيضا. يستنكر عظيم المكوجى ولا يصدقه حتى يصعد بصحبته ويبقى على الباب وهو بالداخل ساعة كاملة…….

وليس مصر الأسياد والشوراع الأمامية وحدها. الخادمات أيضا. أبناء الفلاحين والصعايدة وبئر السلم…….

أتراهم فى البلد على علم بوظيفة ابن عمه وامثاله فى مصر….. صحيح الاسم بواب. لكن المهنة الحقيقية؟ أيفهمون أى خفارة خفرون؟ ابن عمه الذى يتقاضى قرشا من الفنانة ليصبح بواب ذوات يستقبل ويودع الزوار وفقا للبروتوكول…. قرشا من الطبيب ليراقب زوجته وقرشا من زوجته لكى يغمض عينيه عن غياب المكوجى…. وسيجارة أو كوب شاى لقاء دقائق الخادمات فى بئر السلم.

أيكون هذا بالذات ما جعله يرد عليهم بملء الفم. السد هو بلدى وامرأتى وأولادى؟ أيكون هذا ما ناداه للسد وما جعل السنوات تمضى به، من الفأس والزنبيل فى قناة التحويل الى الديناميت والتخريم فى الأنفاق.

راضيا رغم غدر الحجر وخشم الحكروب المفتوح عن حالق؟ أيكون ذلك ما جعله يخف مع قوافل مد خطوط الكهرباء فيما بعد كالمقطوع؟……

أبعد هذا يفعلها…. أيعود؟ أيغمض عينيه؟

لكن صحيح. كيف ضاعت وحشة وبرودة اليوم الأول فى السد ليتحمل الغربة كل هذه الفترة دون أن يفكر فى أهل أو بلد أوحتى دنيا خارج السد؟ أى شجرة كانت تظله فى حر أسوان هونت الديناميت والفأس والحجر والموت. لماذا لم يحن هكذا الى بدن زوجته من قبل؟

أكان السد حلما؟ بالقطع أيامه هناك لم تكن سهلة، لكن كانت تكفى سهراية يتابع فيها المرء” الماز”* غادية رائحة، دون توقف، أو يبحلق فى الفرح الكبير المنصوب طوال الليل، وكل ليل. هناك كان يمكن للعين أن تطفر بدمعتين لا يفهم المرء أصلهما من فصلهما تغسلان قلبه وتتركانه صافيا صفاء الحليب. الناس حين يصبحون بمجموعهم كتلة جارفة من الدفء. المس الذى أصابهم فجعلهم يقدمون المأوى والمأكل والحب لترتفع الأبراج، وفوق الأراضى النتى يملكونها.

كيف خالت عليهم اللعبة وسابقوا الزمن لينهوا السد ويفرغوا من مد الخطوط

****

جاب الوادى بطوله وعرضه….. رأى وسمع وعرف لكنه لم ير مثل هذه اللعبة الأخيرة لمصر.

“ما دخلك أنت.وهل اشتريته؟ أهنا مخ أم فردة حذاء؟”

“انهم مسلحون. ماذا تستطيع أن تفعل معهم يا هلفوت؟”

صحيح من أول يوم طالعته مصر بوجه لا علاقة له بوجه أسوان ولا أى قرية أو مدينة من القرى والمدن التى حطت فيها حملة مد الخطوط.. لكن ماذا كان بامكانه أن يفعل واللعبة قد خالت عليهم وانتهوا من السد؟

هل صحيح كان بامكان، كما توقع ساعتها، أن تكون مصر حرة فى نفسها وتتركه، هو أيضا، حرا فى نفسه؟ أما أن تكشر مصر، هكذا، عن أنيابها وتطلب من الناس ان يصبحوا بمجموعهم على شاكلتها فأين بيته وزوجته وصدرها ليبكى وينهنه ويشكو. أنها ليست لعبة، ملعوب لم ير مثله قط.

انه الأن وبعد فوات الأوان يعرف ما تريد مصر منه، بل يعرف أكثر من ذلك أنها ومن أول يوم لم تكذب. قد تكون. لفت ودارت، ولكنها فى اللحظة الحاسمة لم تتنكر أو تتخفى….. كانت عينى عينك تمضى تطلب ما تريده. هل كان شركا ذلك الاعتقاد منه بأن الموقع فى الصلب سيكون ولتشابه الاسم كالموقع فى السد؟ ربما خال له ذلك قبل أن يراه. لكن من أول يوم كاشفه موقع الصلب بوجهه المصراوى. صحيح الملامح كلها لم تكن واضحة. صحيح انها لم تظهر دفعة واحدة. تكشفت بالراحة خطوة خطوة. ملمحا وراء الآخر. لكنها لم تكذب أبدا…….

هل صحيح ان سبب قبح الملامح وتشوهها يكمن فى كونها مصراوية؟

هل اختلفت نظرته للسد لو أنه هناك كان يعمل غفيرا؟

أيمكن أن تكون عيناه قد تفتحتا، مع الزمن، فى مصر أكثر؟

هل اختلف الأمر لو أنه عمل فى مصر بموقع آخر ومع أناس غير هؤلاء الأفندية؟

المهم كانت مصر، منذ اليوم الأول باترة. سألوه بوضوح وهم يقهقهون من حكايته

“تشتغل والا متشتغلش؟ ليس لدينا ما تتحدث عنه. لا ديناميت ولا مساعد كهرباء ولا مساعد لحام. ان وددت ان تعمل مبروك عليك الخفارة “.

فى اليوم التالى قالوا له” أنت تشتغل أسبوعين بالنهار حتى تعرف الدرك وتفهمه وبعدهما تبدل أسبوع بالليل وأسبوع بالنهار” ليجد نفسه يعبر عن عدم ارتياحه

“أسبوعين على هذا الدرك المسلوخ؟ يبدو أنكم لم تسمعوا عن السد… ثم ماذا يمكن ان يفعل الخفير باسم الله بالنهار؟

يجعمز يشرب شاى ويحكى حكاوى مثل النساوين العجايز… يهز طوله لا شغلة ولا مشغلة.. زنظرة على الفاضى.” ليفاجأ بالعشرات كل منهم على استعداد لملابطة الآخر حتى يكونوا محله غفراء نهار، ونهار فقط ، وحتى يكون هو كما يريد غفير ليل وليل فقط…

ومن اول غفارة لم تقبل مصر بأقل من تجريده من سلاحه

****

انفرج قلب العتمة عن شبحين ليشق صوته الصمت” من هناك؟ “

ليجيبه صوت مخنث “انت يا ولد ياغفير؟ ودك تعمل فيها ملك”….

لم يتعرف على الصوت فتناول سلاحه ورفعهما.

أنا الضابط يا ولد.

أنا شيخ الغفر ياغفير.

يصيحان وهو يكرر. ارقد. ازحف ازحف وحتى أصبحا أمامه وتأكد….

****

الليلة التالية قالوا الخفارة يكفيها النبوت ودارت الحكاية فى العب “يجعمز”

الخفراء وخفراء النهار على وجه الخصوص” ألم تروا ما فعله الخفير.. الفالحون عن التأويز على الخفراء….. ها هو قد سيب ركبهم “.

حتى خفير بنبوت بقى كاللقمة فى زور مصر.

بدات حكايات “المطاريد” وحرب أعصابهم. كان صوت رصاصهم يرتفع من بعيد ثم يفاجأ بهم امامه يعزمون بالسجائر والشاى. “شيخ الخفر قبل العزومة…. ولا يصح ان تأتى وترفضها بعده”. الرصاص ثم العزومة وشيخ الخفر ذاته

“يا أخى خد منهم ناس طيبين أكتيب علينا الغلب؟ “

****

ماذا يفعل؟ هل صحيح يمكن أن يكون مكتوبا على الخفير أن يصبح موالسا؟ لماذا يكون هذا الأمر مكتوبا؟ ومن كتبه؟ وما حكمته فى كتابته؟

هل يمكن أن يولد ابن آدم منقوشا على جبينه ان يكون عاره أطول من عمره.

هل يمكن بعد أن جاب الوادى وبنى السد؟ هل هكذا يمكن أن ينتهى عمره؟

أيمكن ان يكون كل السر، كما يقول هؤلاء الناس ، فى كونه صعيديا، ابن عمه صعيدى لكن صعيديته لم تمنعه من ان يصبح من ناس مصر وليس ابن عمه وحده…

اذن ما السر؟ هو نزح وولد عمه نزح. أيكون المكتوب؟ لايمكن أن يكون مكتوبا، وحتى لو كان، وبالثلث، أيمكن أن يطيعه؟

هل هكذا تكون النهاية؟ هل تهزمه مصر وتهزمه الأيام؟ آة لو يظهر فواز ليأتنس معه بالحل ويفهم….

حين شد الونسة مع زميله فى الدرك عن السلاح اللازم لهم ليواجهوا هذه العصابات رده” أستعدل نظام الكون؟ علينا نمشى صح وهى تدور كما يحلو لها” وحين استنكر كلامه مشهرا بتواكله وتساءل كيف يمشى الخفير صح ان كانت السرقة دائرة دون ضابط او رابط كوى زميله جرحه:

“طيب يا أخى ارنا شطارتك “. وليس وحده. خفير الدرك المجاور صاحه

“شغل أمراء وليس خفراء. تريد ان تعمل فيها أميرا على آخر الزمن…

أهى ناقصة يا ولد عمى….. لما أنا أكون أمير وأنت أمير مين أذن يسوق…”

رغم أن فواز هو الأخر لم يوافقه الا أن كلامه لم يكن ككلامهم……..

كيف اختفى من يومها من الدرك ومن الصلب وكانتين الكوك واستراحة المرازيق.

أيكون الحال لم يعجبه وعاد؟ ايكون هو الذى لم يعجب الحال….. مع كلماته كان يحس أنه تحت شجرة جذعها متين وجذورها معششة فى الأرض. ما زال رده يطن فى رأسه” زعلان لأنهم سحبوا السلاح من الخفير بينما يهجم المطاريد بالسلاح. ليس هذا هو المهم. تعرف لو الحكاية السلاح وحده كانت الأمور تبقى بسيطة. المسألة ان الموضوع لايمكن أن يتحل بالخفير وحده…… وحدك لو معك حتى الذرية. أقصد القنبلة. لن تسوى شيئا. حتى تستقيم الخفارة ضرورى أن يصير من هم أناس بحق وحقيق، كلهم، الخفراء مع الادارة والأفندية والبوليس والجيش مع بعض. بعد ذلك وليس قبله يصبح للسلاح معنى….”

ماذا فعلت ه هذه الكلمات ساعتها حتى انبهر وصمت ليفوته أن يسأل السؤال الذى يعذبه ويموت رغبة فى ان يقابل فواز عله يجد اجابة عنه. طيب، كيف يمكن أن يصبح الناس كلهم مع بعضهم. وهل من المعقول أن الأساتيذ الذين ل هم لهم الا

“التأويز”……. من يومها يحيره السؤال فصحيح هناك أساتيذ طيبين وأولاد حلال وسكر، لكنهم قلة وبأحوال….. تحيره الاجابة والمطاريد لا ينتظرون وفواز لا يجئ.

ماذا يفعل حتى يجد الاجابة؟ هل يوالس؟ هل يصمت؟ هل يغمض عينيه؟

“انهم مسلحون ماذا تستطيع ان تعمل معهم يا هلفوت؟ “

تشرفنا. مسلحون. من أين كان له ان وراءهم من يحمى ظهورهم؟ وهل يغير ذلك من كونه خفيرا عليه ان يؤدى واجبه؟ الأنهم مسلحون يتوجب عليه أن يتركهم؟ هل أخطأ حقيقة حين تتبعهم ولم يقنع بابتعادهم حتى بعد ان رموا بما يحملون وحتى اكتشف من يحمون ظهورهم….

هل يعقل ان تكون الجريمة، التى تستحق العقاب أنه تبعهم؟ هل من العدالة فى شئ أن يحضر هذا المساء ليواجهوه بعين قوية:

“عليك بدرك الدرفلة الداخلى بعيدا عن الجبل. بلا فراغة عقل. عامل شملول. انهم مسلحون يا بنى آدم “.

فعلا لقد أخطأ. كان المفروض ان يقف للعصابة ويضرب لأفرادها حرس سلاح ثم ينحنى ويرفع معهم ما يريدون.

غرباء أم هو الغريب؟ أيجلس هكذا فى الدرك الجوانى كالولايا لاشغلة ولامشغلة، والجميع يلوكون سيرته على أنه مجنون وصعيدى…. ولا يعتقه غفير واحد من زملائه: “والله عال. يريد أن يعمل فيها أميرا”

ماذا يفعل؟ أينتظر باكر صباحا بعد انتهاء نوبته حتى يأتى المدير ويقولها باترة ز

“لا أريد. خلاص. رافض. اعطونى حقوقى. حقوقى يا ناس لأمضى…

أى حقوق. وماا يفعل بعد ذلك؟ ….. أيعود للزرع والقلع. للماضى، حيث الناس على الأقل ناس. صحيح ليسوا مثل ناس السد او الخطوط لكنهم، بالتأكيد، غير هذه المسخ الشوهاء.

ماذا سيقول الناس فى بلدهم. لف ودار ورجع للزراعة. لكن هل صحيح فى بلدهم زرع وقلع ولو كان أحدثت القطيعة مع الاخوة والأعمام والأخوال والنسايب بهذه البساطة…. أيعود للعطالة من جديد؟ هل ينمكن بعد ان ذاقت يده طعم الشغل ووعتهظ هل كان السد شركا؟ كذبة شدته وسحبت رجله وأخرجته من مقبرته لترميه حيا فى اليم…….

نعم كانت اللافتة وراءهم شركا ابتلعوه “يا أبطال السد باق على تحويل مجرى النهر 225 – 224- 70 – 11 يوما. لماذا تركوا السد ينتهى؟ لماذا امتدت خطوط الكهرباء فى لمحة عين؟ كم جلسوا يحسبون حساب الفلاحين وهم يعترضونهم….”

أيةأبراح يا أسيادنا أنا مالى……

“لكن الملعوب جاء فوق كل تصور، لم يسلم الفلاحون من مسه…. على طول الوادى كانوا يحتضنوهم بدفء. يقدمون المأوى والمآكل والحب، ولترتفع الأبراج فوق أرضيهم ..” هموا يا رجالة. لا تحملوا هما. متى تجئ الكهرباء باذن الله؟ ” كيف خالت عليهم اللعبة؟ ماذا يفعل بعد أن انتهى كل شئ؟

يدخل فى الصباح ويقول حقوقى.

أى صباح وعن أى حقوق يسأل….. أى قيمة لحقوقه بجوار القرار الخطير الذى يفكر فيه؟ أيعود؟…. أيمشى فى بلاد الله خلق الله يبحث عن سد جديد؟

شدت انتباهه أصوات طلقات تدوى على البعد. شحذ حواسه وتحرك صوب الدرك القديم…. من العتمة خرج شبحان ليرتفع صوته بعصبية لم يتعودها والخنجر العمولة المشرع يهتز فى يده” مين هناك؟ قف عندك “.

“ألن تتعلم أبدا يا مقصوف الرقبة؟ اخفض صوتك حتى لا تودى بنا فى داهية “تنفس الصعداء حين تعرف على الصوت ورد مداعبا يطمئنهما ونفسه:

“أنا صعيدى. ليس العلام سهلا علينا “

“طيب لما انت صعيدى وصى أصحابك المطاريد أضاق عليهم الصعيد حتى يجيئوا وراءنا مصر……. أهى تنقصهم. وليتهم يدخلون فى صمت قال يفرقعوا خرطوش كمان “.

“مطاريد فى جنابكم يا بعداء. ألا تفلحون الا فى التأويذ. لماذا تركتم الدرك والى أين؟ “

“راح نبلغ وألا فاكرنا مثلك؟…… لا ياعم. وراءنا عيالنا. نحن خفراء.لسنا أمراء يا عم”

“تتعجبون من ضربهم رصاصا قبل أن يدخلوا. عندهم حق. ان كان الخفراء بيجروا. يا فرعون ما الذى فرعنك ….. أو لا قيين احدا يردهم؟ “

“يردهم؟ أكنا اشترينا الدرك. كان مالنا. يعنى يريحك ان الأفندية المحققين الصبح يهزوا أكتافهم يستغربون وينكتون على تقفيلة امخاخنا ثم ينهون محاضرهم حالا حالا بعد أن يكتبوا: المجنى عليه كان مدينا بثأر فى الصعيد وأن صاحبه قطره حتى قضى الله بأمر كان…….”

“ذنبه على جنبه. والله غلب حمارنا نصح وشرح لكنهم صعايدة…”

لا ياعم نريد أن نرجع لعيالنا….

اتتركون الدرك ومتى يسأل فى بلاغكم ىأحدا يكون كل شئ انتهى؟

ياسلام على غفارة وصعايدة آخر الزمن.

التمعت فى رأسه دفعة واحدة حكايته مع عبد المتعال بلدياته النصاب، يوم سمع بخطبته لبنت صاحب كانتين الكوك المجاور للحديد والصلب، ووصلته الحكايات التى يرددها عن الأطيان وعصارات القصب التى يمتلكها فى الصعيد.

يومها مضى ومن فوره الى الكانتين ليجده هناك مجعمزا. صافحه وهو يملخ ذراعه بالسلام “….. كيف حالك يا ولد يا عبد المتعال؟ “

ثم سأل أبا البنت ان يحضر لهما الشاى….. ليمد يده بعد تناوله بالثمن والرجل مبهوت “لا يصح. يا ريس عبد المتعال منا وعلينا”. ليمسك يد الرجل ويلتفت لعبد المتعال “لامنهم ولا عليهم. لا أود أن أسمع انك عتبت هذا الكانتين ثانى. فاهمنى.

صحيح انت بعيد عن البلد، لكن… ثم طوى كف الرجل على النقود

“قصر كلام……. هات الباقى “

انتزع خنجره وتحسس الزقلة وقدماه تقودانه صوب الدرك القديم فى هو الجبل

“انهم مسلحون هو دركك يا أخى. كنت اشتريته……”

تتابعه أصواتهم وهو ماض. شبحا يبتعد ويبتعد فى الظلام الغول……

(حلوان – التبين – 4/1/ 1973)



* مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1985 /

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى