خيرى شلبى - حالة اشتباه

المقهى الشعبى العتيق الذى كان يطيب لى الجلوس فيه للكتابة والقراءة والتأمل فى نوعيات يصعب حصرها من بشر يعيشون فى القاع السحيق حياة دون مرتبة الإنسانية يقع فى حى قايتباى المتاخم لحى الدراسة والمختلط بمقابر المجاورين، فى مواجهة جامع السلطان قايتباى المرسوم على الجنيه المصرى الورقى المأسوف على شبابه، صاحب المقهى إبراهيم الغول -عليه رحمة الله- كان يحب القراءة ويعرف معنى أن يكون المرء كاتبا ولهذا قامت بيننا صداقة متينة، فخصص لى ترابيزة فى ركن منعزل، بلمبة نيون أسطوانية مثبتة فى الحائط على يسارى، وصنايعية المقهى كلهم يأتون كأنهم موظفون فى معيتى، يمنعون عنى أى فضولى يقترب من الترابيزة الخاصة بى حتى فى الأوقات التى أغيب فيها عن المقهى، لدرجة أننى أحيانا كنت أترك أوراقى مفرودة على الترابيزة وبجوارها المحبرة والأقلام وحقيبتى الهاندباج وأذهب إلى مشوار بعيد قد يؤخرنى طويلا فأخرج منه إلى بيتى ثم أعود إلى المقهى عصر اليوم التالى فأجد كل شىء على ما تركته دون أن يمسه أحد. وإضافة إلى الكرسى الذى أجلس عليه ثمة كرسى واحد مضموم على الترابيزة من الجانب المقابل، ظهره للخارج ومقعدته داخلة تحت الترابيزة ذلك هو الكرسى الذى سيجلس عليه صديقى عم أحمد السماك بعد أن ينتهى من بيع سمكه فى سوق مزلقان منشية ناصر الذى هو شيخه - حيث يعود إلى بيته القريب فيستحم ويرتدى ثياب العمدة ثم يأتى للمقهى ليجلس معى من الرابعة مساء إلى منتصف الليل يجهز النارجيلة، وحين أزهق من العمل يتوهج هو فيروح يحكى مئات الحكايات عما حدث له اليوم فى سوق العبور عند التسوق بعد الفجر مباشرة وفى سوق المنشية حيث يبيع وأحيانا أقرأ عليه صفحات مما كنت أقرأ، فيشعر بسعادة فائقة لأننى أطلعته على هذه المعانى والأفكار، وأشعر بسعادة لأنه استوعب ما استمع إليه بصورة فطرية لا تبعد فى فهمها كثيرا عن المداليل المقصودة برغم عتاقة اللغة أحيانا والسياقات الفكرية المركبة المعقدة أحيانا أخرى.

وذات يوم فوجئت بأفندى مهيب ضخم الجسد متين البنيان يدخل فى غفلة من الصنايعية، متخذا طريقه نحوى مباشرة حتى ظننت لأول وهلة أنه مبعوث يريدنى شخصيا مع ذلك لم أهتم إلا أنه فى لمح البصر قد سحب الكرسى من تحت ترابيزتى ثم عدله جاعلا ظهره للحائط ووجهه لفضاء المقهى، ثم جلس واضعا ساقا على ساق ثم صفق فى طلب الجرسون شعبان القرد كان هو جرسون وردية المساء فى ذلك اليوم هو أسود نحيل البدن إلى القصر أميل، لكنه حكيم شديد التحديث سرعان ما أصابه الحرج والارتباك لأنه جاء بعد فوات الأوان بنظرة تحتية فاحصة قيم الرجل، البدلة ثمينة مستوردة، القميص فخم بأزرار ذهبية، رباط العنق حرير لامع، الحذاء طليانى لامع لا يلبسه إلا علية القوم، وإذن فالرجل مهم جدا، فلعله من الحكام ولابد من التعامل معه بحذر، طلب الرجل واحد شاى فإذا فى صوته تطحيت بلدى مضى شعبان وفى نيته أن يهمله بقدر ما يستطيع إلى أن تنكشف هويته أما أنا فقد داريت غضبى بالاندماج فى الكتابة فلاحظت أن الرجل قد عوج رقبته وراح بنظرات جانبية يحدق فيما أكتب فاعترانى التوتر، فتوقفت وشيعت له نظرة تأنيب حادة فعدل رأسه وراح يجأر فى طلب الشاى. لكنه بعد برهة عوج رأسه ثانية وجعل يحدق بفضول فى حركة القلم على الورق فتوقفت،سلقته بنظرة أكثر حدة فعدل رأسه وظهر عليه الحرج بصورة أخجلتنى سيما أنه طلب الشاى بنبرة استجداء بائسة ولكن إن هى إلا برهة حتى عوج رأسه ناحيتى وجعل يحدق فيما أكتب، فمن غضبى رميت القلم، وأمسكت بأوراقى فى عصبية وقدمتها له فى لهجة تهكمية: اتفضل اقرأ براحتك شوف أنا بأكتب إيه!!.. فإذا بوجه طفل فى الخمسين من عمره يواجهنى بنظرة منكسرة وابتسامة بلهاء قائلا فى أسف وحيرة: ياريت يابيه المصيبة إنى مابعرفش استقرأ، منه لله اللى منعنى عن المدرسة - عندئذ كأننى فى طائرة هبطت على الأرض مرة واحدة حيث فط قلبى فى حلقى، ووجدتنى أصيح فى غضب: فين الشاى بتاع الراجل ياشعبان!


خيري شلبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى