صلاح عبد الصبور - عودة ذي الوجه الكئيب

هل عاد ذو الوجه الكئيب؟
ذو النظرة البكماء والأنفِ المقوّس والندوب
هل عاد ذو الظفر الخضيب
ذو المشيةِ التياهةِ الخيلاء تنقُرُ في الدروب
لحناً من الإذلالِ والكذِبِ المرقّشِ والنعيب
ومدينتي معقودةُ الزّنارِ
عمياءَ ترقص في الظلام
ويصفر الدجالُ والقواد والقرّاد والحاوي الطروب
في عرس ذي الوجه الكئيب

من أين جاء؟
ويقول سادتُنا الأماجد حين يزوون الجبين
شأنَ الثِّقاةِ العارفين
من السماء
من أين جاء؟
ويظلّ أهلُ الفضل فينا حائرين
ويتمتمون علي مسابحهم وهم يتلاغطون
هذا ابتلاء الله! هذا من تدابير القضاء

من أين جاء؟
ويقول أصحابي وهم كالزّعزع النكباءِ قوة
العزمُ يلمع في عيونهم وتجري في عروقهمُ الفتوّة
من الجحيم
وكيف جاء؟
هذا أبوالهول المخيف
نصب السرادق عند باب مدينتي للقادمين
والعائدين
والهاربين إلي الفضاء
والواجلين إلي البناء
لا، لم يدَعْ أحداً
إلاّ وألقي دونه هذا السؤال
من خالق الدنيا؟
الملتحون تهلّلوا، وأجاب رائدُهم بصوتٍ مستفيض:
الله خالقُها.. وهذا لا يصحّ به سؤال
وعوي أبوالهول المخيف، وقلَب الوجهَ الكئيب إلي اليسار
ورمي بجمع الملتحين إلي الدمار
والأمْرَدُونَ تأمّلوا، وأجاب رائدُهم بصوتٍ مستفيض:
لا نستطيع، بل نحن نعرف، إنه قِدَمُ الطبيعة
وعوي أبوالهول المخيفُ، وقلب الوجهَ الكئيبَ إلي اليسار
ورمي بجمعِ الأمردين إلي الدمار

وتقدّم الدجالُ والقوادُ والقرّادُ والحاوي الطروب
وتضعضعوا، قالوا معاذك، أنت خالقها، أجل
أنت الزمان
أنت المكان
أنت الذي كان
أنت الذي سيكون في آتي الأوان
وعوي أبو الهول المخيفُ وقلب الوجهَ الكئيبَ إلي اليمين
وأشار، ثمّ تواثبوا فوق الأرائكِ جالسين

سيظلّ ذو الوجهِ الكئيبِ وأنفُه ونيوبُه
وخطاه تنقر في حوائطنا الخراب
إلا إذا
إلاّ إذا مات
سيموت ذو الوجه الكئيب
سيموت مختنقاً بما يلقيه من عفنٍ علي وجهِ السماء
في ذلك اليوم الحبيب
ومدينتي معقودة الزنار مبصرة سترقص في الضياء
في موت ذي الوجه الكئيب













ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* صدرت الطبعة الأولى من ديوان (الناس في بلادي) سنة 1957 متضمّنةً قصيدةَ ’عودة ذي الوجه الكئيب‘، واختفت من الطبعة الثانية من الديوان الصادرةُ عن دار الآداب ببيروت سنة 1965) ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى