جورج سلوم - رسالة محروقة

عندما يصل إليك مكتوبي أكون قد سافرت وصرت خارج مدينتك.. وخارج مدارات أفلاكك .. وخارج تغطية شبكاتك الخليوية ..

لن تطالني يدك الطولى .. ويدك ما كانت طويلة إلا إليّ

ولسانك لا يخرج من فمك .. إلا عليّ

وأظافرك ما خرمشت .. إلا بشرتي

مكبوتٌ أنت ومكتوم .. محبوسٌ ومنطوٍ على نفسك ..ظلاميٌّ وضلالي .. انفعاليٌّ أحياناً وهجومي .. ترغي وتزبد .. مذلول وذليل تتدلى كحية مشنوقة صغيرة ولا تنتصب كالكوبرا إلا في وجهي .. كالوحش عندها يقذف سمومه وينفثها



لذلك عُدْ معي مرغماً إلى أيام البريد المكتوب .. وما أحيلاه .. رسالة وضعتها في بريد صندوقك ، واثقة أنها ستصلك ولو بعد حين .. رسالة ورقية كتبتها على مهل .. وعليك أن تقرأ

اقرأ – بفعل الأمر – وهي المرة الأولى والأخيرة التي آمرك بها !

أعرفك وأعرف كيف تفتح مراسيلك على عجل .. باستخفاف اسم مرسلها .. وابتسامة السخرية تعلو وجهك .. تقلّب الرسالة قبل فتحها وتتأملها من كل وجوهها وزواياها ..تبقيها على راحة يدك لثوان كأنك تزنها متخيلاً محتواها وعدد كلماتها .. تافهة إذ لا وزن لمرسلها ..

ثم تنفضها على يدك الأخرى مرات عديدة قبل أن تدخل مظروفها سكّينتك الفاتحة من الزاوية القاتلة .. تشعل سيجارة .. وتقرأ .. تسخر من سطورها الأولى .. ولا تكمل

تحضّر القهوة .. ثم تقرأها على مهل لتدخل بين السطور

ثم تجعك وتدعك ورقة الرسالة كما كنت تدعك صاحبتها .. تحوّلها إلى ما يشبه الكرة التي تمّ تنفسيها من الهواء بالضغط والدوس على ثقبها .. ترميها باتجاه سلة المهملات البعيدة ولن تصل إليها .. فتقوم إليها لتركلها بحذائك حتى زاوية الغرفة ولا تنحني لتضعها في سلة المهملات..

لأنك ستنحني مرة واحدة في المساء عندما تلملم ما حول سلة القمامة وترمي الجميع دفعة واحدة

تركت لك مفتاح شقتي تحت أصيص الورد .. ولديك أسبوع كامل تعبث فيه بأشيائي قبل أن تعود الشقة لصاحبها .. الأجرة مدفوعة وأنا بريئة الذمة من عقد الإيجار المبرم مع صاحب البيت ..

يمكنك أن تذهب وقتما تريد .. تلملم ما يحلو لك ..وتترك ما تعتبره لا يعنيك .. هداياك كلها تركتها .. وجدتها ثقيلة في حقيبة السفر كما كانت ثقيلة على قلبي .. لم آخذها لأنها ستجبرني على ذكراك وذكرياتي معك ممضّة .. ستربطني بك ولا أحبّ ذلك الارتباط .. كأنها عبءٌ أو دَينٌ عليّ سداده .. ولا أحب الديون

قواريرالعطر الثمينة لم أستعملها ..قطعتان من ذهب مشغول موجودتان بعلبتهما الصغيرة .. وحقيبة اليد الجلدية فيها بعض ليراتك .. وقطعة ثياب آثرت أن أغسلها وتركتها مطوية على سريري .. وديوان شعر قرأت منه الإهداء فقط .. تلك هي تركاتك وتركاتي .. فاتركني أرجوك .. ودعني أنسى

هداياك أعيدها إليك .. يمكنك استعمالها لامرأة أخرى .. لتبدأ معها من جديد .. كما بدأت معي بوردة حمراء.. وبضع كلمات محفوظة .. وهداياك جاهزة قابلة للخزن والتبريد والتجميد والتجديد والبداية من جديد

أنا مسافرة عنك .. هاربة منك .. وليس لي ملاذ آخر .. لا تظنني أستبدلك .. فعلاقتي معك جعلتني مشبعة بالرجال .. كارهة للطينة التي جُبلوا منها ..

لا تحاول الاتصال بي فهواتفي كلها مقطوعة .. أرقامي تغيّرت .. صرت بلا عنوان من أجلك .. شاردة هاربة .. كأنّ الحياة من دونك أحلى

تلك السنون القليلة التي عرفتك فيها ما كانت من عمري .. كنت بحاجة للثورة عليك والانقلاب على كل إيديولوجياتك .. ومبادئك ومنطلقاتك النظرية .. لأنك كنت بالحقيقة بلا مبدأ .. ولا دستور ولا قانون ..

أيامك معي كانت تفريغاً لطاقاتك .. أفرح لفرحك وأحزن لحزنك .. أدندن اللحن الذي يخطر على بالك ولا تستمع لألحاني .. أطبخ وآكل الطعام الذي تحبه ولم تسألني عما أشتهي من طعام .. أنام على الجانب الذي يريحك ولو كلّت يدي وتخدّرت أعصابي وأصابها الخذل والنمل والشلل

لذا صرت الآن بأمسّ الحاجة لتدمير أحلامي التي بنيناها بالكلام الفارغ .. والوعود الخيالية .. وكلام الليل يمحوه النهار

كنت تطيّرني بكلماتك المجنّحة كالفراشات الملونة .. فأحلم وأحلم .. ولم تحاول تحقيق أبسط أحلامي

ما أجمل الحرية بدون قيودك ..

كالأخطبوط كنت معي .. هلامياً ولزجاً ودبقاً .. أياديك لا حصر لها .. وحجمك صغير وكبير وطويل وقصير.. وتفرض عليّ أن أعيش معك في القاع .. تحت الماء .. مختبئاً خلف صخرة مموّهة .. وأنا مللت الاختباء



كالعنكبوت كنت معي ..صامتاً واهياً معلّقاً .. لا أرضَ لك .. وتنسج شبكات الوقيعة .. صياداً تكبل فريستك وتنتظر وفاتها اختناقاً وبعدها تجهز عليها.. مختبئاً أيضاً في الأماكن المهجورة .. وأنا مللت الاختباء

منبوذٌ أنت من الجميع .. فلِمَ أتحالف مع معارضٍ مثلك ؟.. مطلوب ومختبئ ورافض لكل شيء .. مسحوق .. فلم تسحقني معك ؟

رسالتي إن استلمتها وفتحتها وقرأتها .. اعتبرها كتاب طلاق ولا رجعة عنه .. بالثلاثة وعن سبق إصرار وترصد..

لا مندوحة لي .. ولا عذر لك

ولا عتب علي ... ولا ضير عليك

ولا لوم .. ولا حيف ..

ولاءاتي المكتوبة أصيح بها في وجهك .. لأنني لم أقوَ على مواجهتك بها يوماً .. كثيرة ولا معنى لها .. المهم أنني أرفضك .. وأزمجر في وجهك كتابة .. لا .. ثم لا .. لا وألف لا ..

ولم أقل لا في وجهك مرة واحدة

معارضة أنا لك أيها المعارض.. بل والمعترض على كل شيء .. حتى على مسيرة الرياح التي تجري دائماً بما لا تشتهي سفنك .. لأنه لا سفينة لك .. منشقة – أنا - عن حزبك الذي لا جمهور له سواي ..

أراك غاضباً .. تشتمني .. وتمزق الرسالة

تشعل سيجارة .. وتنفخ .. وتخطط للرد .. اضرب أخماسك بأسداسك .. لن تفلح بالنيل مني .. فقد خسرت جولتك معي .. لأني أصبحت خارج الحدود ولا سلطان لك عليّ.. ولن تستطيع حتى الرد علي برسالة

كلانا خاسران

وأنا خسرت أيضاً مذ تعرّفت عليك

فقد أصبحت طريدة مكلومة الفؤاد .. هاربة ولا أدري إلى أين .. خائفة ولا أدري ممّ أخاف .. حزني أصبح عادة أمارسها .. وجومي سيد الموقف .. اكتئابي مسيطر ومجهول السبب .. وابتسامتي صفراء عنيدة ومعندة متكلفة مصطنعة ومؤلمة..

ماذا فعلت بي مذ تعرّفت عليك ؟.. ولماذا أحمل كل تلك الهموم ؟.. أين تلك الوصمة التي مهرتني بها لأنزعها من كياني ..أستأصلها .. أتخلص منها..

وقفت أمام المرآة وحاولت أن أبحث عن سبب للحزن .. بلا جدوى

عن سبب للخوف .. بلا فائدة

وحاولت أن أرسم ابتسامتي العفوية القديمة .. لكن خدودي كانت متصلبة .. وشفاهي قاسية .. كأنني أحفر الابتسامة على تمثال خشبي .. أنحتها بمطرقة على حجر صلد .. أدقها بأسافين على الصوارين .. ابتسامتي قاسية وجافة .. وعودي لا طراوة فيه .. وغصني لا لم يبقَ نضيراً



رسالتي وصلت إليك حتماً .. لأني وضعتها في صندوق بريدك قبل أن أغادر .. لا حاجة للطوابع والأختام

اكتب لي رداً إن شئت .. وضع رسالتك أيضاً في صندوق البريد بلا عنوان .. فرّغ طاقاتك في بريد الصندوق .. اجعله محشواً بكلماتك المكررة حتى يفيض .. اجعله صندوقاً لمذكراتك..

على باب كل مؤسسة وطنية صندوقٌ للشكاوى .. ويضع المواطنون شكاواهم .. لكنّ مفتاح ذلك الصندوق ضائع ولا أحد يقرأ .. وعندما يفيض بأوراقه يتلفونه ويستبدلونه بواحدٍ آخرَ فارغ.. ويبقى معلقاً ما دام فارغاً .. ويبقى بمكانه مادام قابلاً للتحميل وحقن الرسائل في شقّه..

شبهتني سابقاً بصندوق الشكاوى المعلق في الحديقة العامة .. وذاك الصندوق يريحك إذ ترمي فيه أوراقك التي لا تجهر بها .. وترتاح كأنك رميت ثقلاً عن عاتقك .. ومازلت أضحك للفرق بيني وبين ذلك الصندوق .. هل تذكر ؟.. يومها قلت لي إن شقّه أفقي وشقكِ عمودي !!.. وكلاكما مريحان .. تتقبلان كلماتي وآهاتي بصمت وبلا حراك

كأني أراك الآن تلعب بولاعتك .. أحرق رسالتي إن شئت

فما أنت بالنسبة لي ... إلا ورقة محروقة !

د. جورج سلوم

*********************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى