نجيب محفوظ - الطاحونة..

كانوا ثلاثة قيل انهم خرجوا الى الدنيا فى يوم واحد .
و حديث الأعمار يبوح بأسراره فى حارتنا عند الحوار بين الأمهات حتى بلغوا السادسة .
عند ذاك حجزت البنت لتصبح خفية وراء الجدران
و استمر الصديقان فى اللعب و التذكر .

أما رزق فيتذكرها كلما احتاجوا الى ثالث فى لعبة من الألعاب ،
و أما عبده فحتما منذ تلك المبكرة كان يشعر بها حبيبة للقلب على نحو ما .
و منذ تلك السن المبكرة أيضا أدرك أن عليه أن ينتظر
عشر سنوات قبل أن يحقق أمله المشروع .

و كان عبده من الذين يملكون ،
أما رزق فممن لا يملكون . و تزاملا فى الكتاب كما تزاملا فى اللعب .
و انقطع رزق عن التعليم بحكم فقره و واصله عبده حتى نال الابتدائية .
و منذ ذلك الزمن البعيد و رزق يتشكل فى وجدان عبده مثالا فائقا
فى القوة و الجرأه و المهارة فاحترمة و اعجب به و تبعة رغم فارق الغنى و الفقر .

و لما مات والد عبده حل الفتى محل أبيه فى مطحن البن الذي ورثه .
و كان الأب قد دربه ، كما أن العمال القدامى أخلصوا له أيما إخلاص ،
و لكنه سرعان ما ضم صديقه رز الى المطحن كمعاون له ،
و كان كل ما حصله كل منهما فى التعليم كافيا له فى عمله ،
و تجلت ألمعيه رزق فى متابعة العمل من شرائه كـ (بن)
أخضر الى تحميصه و طحنه و تعبئته و توزيعه .
و قال لأسرته مفسرا قراره بتعيين رزق :
أنا لا أجد الطمأنينة الا معه .

ذلك حق . لم يتخل عن خدمته قط .
يدفع أى أذى الصبيه . يسارع الى نجدته كلما احتاج الى نجدة .
يسعفه بالرأى و المشورة . و لما ضمه الى المحل قال له :
كن فى العمل ما كنته فى الحارة ، عينى و أذن و يدى ..
و فى وقت قصير استحق أن يلقب بالوكيل .
انه الرقيب بين العمال الدائب على رعاية الطاحونه ،
و أنشط من قام بتوزيع البن فى الدكاكين و المقاهى .
يا له من طاقة لا تخمد . و أصبح هو لا يدرى كبيرة أو صغيرة من محلة الا عن طريقة .
بالمقارنه أصبح هو لا شىء و الآخر كل شىء .

و كان ارتياحه لذلك أضعاف ضيقه به لما طبع عليه
ن كسل و حب الحياة اليسيرة و الميل الى الاستمتاع بالسهر كل ليلة فى المقهى أو الغرزة .
و كان العملاء يقصدون رزق لعقد الصفقات و كأنه مالك كل شىء .
و لاحظ خال عبده ذلك و هو فى غاية من الاستياء و لكن الشاب قال له :
- بكلمة واحده منى يتغير كل شىء ،
أريد أن تجرى الأمور على ما تجرى عليه ، و أنا يا خالي أحب المال و لا أحب العمل ،
و رزق أمين ، و هو هدية ربنا الى ..

و مضت الأمور فى طريقها المرسوم حتى قال عبده لرزق يوما :
- آن لى أن أفكر بالزواج قبل أن يسرقنا الوقت .
و لم يبد على رزق أنه فوجىء و سأله :
- هل فاتحت أحدا فى الموضوع ؟
- انت أول واحد أفاتحه فيما يهمني ..
- أحسنت ، فالطريق المعتاد الى الزواج هو أردأ الطرق ،
فدعنى اتحرى بأسلوبى الخاص و الله يهدينا سواء السبيل ..

هكذا سلمه شئون قلبه ضمن اختصاصاته ن
و لم يكن هو رأى ظريفة طيلة السنين الا مرات معدودة ن
و لكنه لم يحب من جنس النساء سواها ، غير أنه قال كالمعترض :
أسرتها طيبه و حسنة السمعة و لا حاجة بنا الى التحريات .
هذا كلام الناس الطيبين و لكننا لن نخسر بالسؤال شيئا ..
و انتظر عبده و هو يزداد قلقا و توترا ، و يتساءل فى حنق :
متى تنتهي تلك التحريات المشئومة . و التقت عيناه بعيني صاحبه
اذ هما فى المقهى فقرأ فيهما ما أثار خواطره و سأله :
ماذا وراءك ؟
فقال بحزن شديد :
ليس خيرا
فهتف :
يا خبر أسود ،ماذا قلت ؟
هى الحقيقة للأسف ..
لكن ظريفة ملاك .
إنها ليست ملاكا
فغمغم بعد تردد :
أنا أريد البنت :
فقال الآخر بادى الامتعاض :
انت حر .

و انطوى على نفسه يفكر و يفكر .
و يتردد بين الإقدام و الإحجام ، و ضاعف من تعاسته
أن رزق اعتكف فى بيته لمرض طارىء .
و ذات أصيل و هو منفرد بنفسه فى المطحن ترامت الى أذنه زغرودة .
و جاءه عامل ليخبره بأن رزق كتب على ظريفة فى حفل خاص و نفر من أهله .
و ثار عبده ثورة جعلته يبدو بين عماله كالمجنون حقيقة لا مجازاً
و زاره قريب لرزق يحمل اليه اعتذره و قوله انه فعل ما فعل لينقذه من شر كبير
كان حتما سيقع فيه . و ضاعف الاعتذار
من جنونه و أعلن طرده من المطحن و توعده بشر من ذلك .

و لكن الذى حدث غير ذلك .
و قال لى شيخ الحاره - و هو راوي قصة عبده و رزق و ظريفة-
ان عبده عاد مع الأيام الى رشده .
و غرق فى عمله لا يدرى ماذا يفعل فاقتنع بأنه لا غنى عن رزق .
و عفا عنه و أعاده الى مركزه السابق .
و الأعجب من ذلك كله أنه فاجأنا ذات يوم
بالزواج من أم ظريفة !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى