مزمل الباقر - عقوبة عائلة من زوباتيا


حيثيات التمرد:

كان أهل زوباتيا يؤدون الصلاة السنوية، كما جاءت في كتاب المذهب الزوباتي. حينما انزلقت من بطن أمي, وأحسست بلزوجة ذلك السائل الذي لامسته بشرتي. ولم يفارقني ذلك الإحساس حتى لحظة كتابتي لتاريخ مملكة زوباتيا ممتثلاً لرغبة مولاتي المملكة.

علمت فيما بعد، أن ذلك السائل اللزج الذي لامسته بشرتي فور خروجي من بطنها، هو زوبا. الذي هو بمثابة الأكسجين الذي يتنفسه معظم سكان كوكب الأرض في مجرة درب التبانة المجاورة لمجرتنا . وكنا في مملكة زوباتيا نشرب من هذا السائل في اليوم الزوباتي الواحد ما يعادل ألف زوباتياً، باختصار شديد أضعاف أضعاف ما يستنشقه أهل الأرض من الأكسجين.

هذا ما اخبرني به ابني الحادي والثلاثين قبل أن أراه بالأمس بصحبة أمه يجري على طول نهر زوبانيل فعلمت انه يمارس شعائر الصلاة السنوية .

جلست على حافة النهر انظر إليهما، كانت زوجتي تستر جسدها بثوبها الزوبوي الذي يجعلها اقرب للنهر مني ويجعل ابني الحادي والثلاثين بوشاحه الزوبوي اقرب لحافة النهر مني وهذه غاية الديانة الزوباتية وأصل المذهب الزوباتي أن يكون النهر الأقرب دائماً .

حينما حدقت في زوجتي ثانيةً، وهي في جلستها تلك على حافة النهر سبقتني شفتاي إليها. غير أن نهر زوبانيل باغت شفتاي بلدغة أعادهما – كنتيجة حتمية – إلى وجهي مكتئبتين وظل النهر يحفر في خاصرتي طول الليل حتى اخترقها، وها أنا ذا أسير في شوارع زوباتيا دون خاصرة مما جعلني افقد كثيراً من كرامتي في العالم السفلي لزوباتيا، بسراديبه الضيقة العطنة وزبانيته الغلاظ، وإعمالهم في فراغ خاصرتي بأدواتهم الحادة، التي تفقدني القدر الكبير من هيبتي في شوارع زوباتيا وأزقتها وحواريها.

لقد اتهمت بمحاولة التخريب في المدينة والسعي لتقويض الحكم، وذلك على تداعيات محاولتي تقبيل زوجتي. كما انني متهم في بلاط الحكم، بالخيانة العظمى والتعاون مع جهات أجنبية تمارس الإرهاب في وضح النهار. ومما جاء في حيثيات ممثل الاتهام أنني قد تواطأت مع جهات محلية ترعى الإرهاب، ولها اذرع يشار لها بالبنان في جميع دول الاستكبار. وأنني حينما هممت أن أقبل زوجتي، إنما أرسل إشارة البدء بالهجوم من قبل عملاء أجنبيين من مجرات أخرى تستهدف عقيدتنا الزوباتية ... و... الخ

وترتب على ذلك عدم ملامستي لزوجتي حتى يعيد لي النهر خاصرتي المفقودة. وأظنه لن يفعل، لان أبى ظل طوال عمره ينتقد سياسات مملكة زوباتيا حتى اتهم بالإلحاد والزندقة، قبل أن يفقد كرامته هو الآخر، وسط زبانية سراديب العالم السفلي ذوي الأدوات الحادة والقلوب الغليظة.

علمت من زوجتي أثناء تمشيطها لشعرها الفاحم أن ابننا السابع عشر ، الذي أنجبناه قبل الصلاة السنوية كما جرت العادة في زوباتيا، يحب ابنة النهر حباً زوبياً خالصاً، وانها تحبه كذلك بذات القدر. غير انها رفضت الزواج بابني لأنه لم يلتحق بالجيش الزوباتي، وتخلف عن معسكرات الخدمة لمدة عاماً زوباتياً كاملاً أي ما يعادل ثلاثة عشر عاماً لدى سكان الأرض. وابني هذا يرفض أن يلتحق بمعسكرات الجيش لأن قائده دوغماي، يفتقر إلى الثورية ويجنح دائماً إلي القنوط والراديكالية .

هكذا علمت من زوجتي، فقبلتها في انفها ضارباً بعقوبتي عرض الحائط، مما حدا بمليكتنا الجميلة زوبا، أن تصدر فرماناً يقرأ في طول زوباتيا وعرضها، يوضح أنها قد عاقبتني جاعلة مني مؤرخاً لكل حقب مملكة زوباتيا وعالمها السفلي. وعوقبت زوجتي التي قبلتني في فمي الداخلي ببناء كل قلاع زوباتيا التي يسكنها عامة الشعب الزوباتي، وتشييد أبراج سادتنا القادة الزوباتيين أيضاً .

ها أنا ذا أزاول عقوبتي وكذلك زوجتي منذ الأزل بسراديب العالم السفلي التي تفقد الشخص الزوباتي كرامته كليةً . وقد نتبادل أنا وزوجتي العقوبة فيما بيننا، بين الفينة الزوباتية والأخرى .

لم تصدق زوجتي نفسها حينما رأت ابننا الخمسين يشرف على مراسيم عقوبتنا السرمدية. أخرجت مراراً كل ما في جوفها حتى أنني خشيت خروج أحشائها كذلك. وبكت كثيراً..كثيراً. شد ما آلمنى أنى فقد قدرتي على مواساة زوجتي الحبيبة.

بعد أن بللت زوجتي وجهها كثيراً بالدموع، وتأكدت تماما بأن قدرتي على مواساتها في لحظات الوجع، قد سقطت منى دون قصدٍ من ذاتي الزوباتية. إنصرفت حزيناً لمزاولة عقوبتي السرمدية، وكنت قد أرخت لعشرة أعوام زوباتية. ثم أن زوجتي قد تحاملت علي نفسها، وشرعت في مراسيم عقوبتها هي الأخرى. وبينما نحن كذلك وقد همت زوجتي بوضع إحدى اللبنات على قلعة كبير سادتنا الزوباتيين، التفت لي فجأة بعنقها الباتع وأخبرتني بأمر ابننا السابع عشر الذي سعى إلي ابننا الخمسين مستعيناً به على إتمام زواجه من ابنة النهر، فما كان من ابننا الخمسين إلا أن ينهر أخيه، وجعل من مسحه لرواق قصره عقوبة له جراء طلبه الوقح في نظره.

ملأني الغيظ تماما وأتخمت غضباً، حتى أن زوجتي ندمت على إخبارها لي. لكن ندمها تحول إلي قلقٍ مشوبٍ بالخوف، عندما أتانا أحدهم في تلك الساعة المتأخرة من الليل الحالك كشعر زوجتي، وأفادنا بكلمات مقتضبة أن أمير العسس الزوباتى، يرغب في مثولنا بين يديه الشريفتين.


مواجهة زوباتية:

فغرت زوجتي فاهاً جميلاً، برهة من الزمن تكفى لإنجاب طفل في كوكب الأرض. لقد كان أمير العسس الزوباتى هو ابننا الخمسون بشحمه ولحمه وعظامه، بعد أن استرسلت لحيته واشرأب حاجبيه دلالة علي انتمائه لتلك الجماعة. بينما شعرت أنا بالخزى يداهمني بصورة ملحة كسلس البول .

بصقت زوجتي في وجه ابننا الخمسين قبل أن تقول له:)سب عليك .. متبرية منك لي يوم الشين! ) وقبل أن تسعفني ذاكرتي باليوم الشين هذا، كان ابننا الخمسين قد أشار لأحدهم – ذلك الذي وافانا في مرقدنا بسراديب العالم السفلي لمملكة زوباتيا – تقدم ذلك الجندي من زوجتي، وفي عينيه كانت ثعابين الشر تمد ألسنتها ذات الرأسين . حاولت أن احول بينه وزوجتي فنبهتني أغلالي أن ذلك ضرب من المحال.

امتدت يد ذلك العسسي لتطبع أصابع زوباتية على خد زوجتي اثر صفعه لها. وجدتني اسب مليكتنا زوبا في وجه ابننا الخمسين . فغضبت مليكتنا التي كانت تراقبنا من خلال شاشات كبيرة، غضبت قبل غضب ابننا الخمسون. غير أن غضب الأخير، استحال إلى ضحك هستيري حينما ألحقت سبابي لملكيتنا بمنفستو إسقاطي لأبوته، ليصبح عدد أبنائي المعتمدين لدى سجلات مملكة زوباتيا الرسمية تسعة وأربعون ابناً وخمسون ابنه مخالفاً بذلك التعداد السكاني الزوباتي .

قال لي ذلك الذي كان ابني الخمسون ، قبل أن أصدر هذا المنافستو على رؤوس الأشهاد: (( باكر تجى تكوس دورك الأبوي وأقول ليك لو مشيت لي ناس الأرض حفيان ورجعت زوباتيا، دلشيون مرة زوباتية ما اقبل أبوتك لي )) جاوبته بغضبٍ عارم
- (( إتنعل ابو زوباتيا كلها !! والزمن الشين جاييك إنت وزوبا بتاعتك، ياود الكلب، يا عديم التربية !! يلا خم وصر )) ! .


وساد زمن الطباشير:

وكأنما الأقدار قد أصغت لغضبي الزوباتى، فاستجابت وقالت لي: هيت لك. وإذا بسماء زوباتيا قد تقلصت وجهها حتى حاكى وجه زوجتي الجميلة، حينما ارسم بأناملي خطوطاً متعرجة فوق تل ثدييها .وفى كل مرة زوباتية، افعل ذلك كانت زوجتي تضمني إليها بقوة تكفى لخلع باب خشبي قديم بإحدى بيوت فقراء كوكب الأرض .

بعد أن تقلص وجه السماء الزوباتى، ما ضمني إليه كما تفعل زوجتي. بل ارعد وابرق واهطل. فتملكني الخوف تماماً بعد أن لامست أناملي ذلك السائل الذي أهطلته ديمات السماء الزوباتية. ولم يكن عصير زوباليك علي كل حال، فهذه المرة لم تمطر السماء الزوباتية من سحبها عصيراً كما تفعل عادةً، بل كان ما جادت به السماء علينا، سائلاً آخر غير عصير زوباليك، كان سائلاً طباشيراً كطباشير أهل كوكب الأرض يصلح للكتابة على سبورة الأرضيين إن وظف جيداً.

عبر نافذة القصر المنيف الذي يتخذه ذلك الذي كان ابني الخمسين سكناً له. كان المطر الطباشيري يغدق شوارع زوباتيا، بكرمه الفياض حتى ماثل كرم ذلك الذي عاش في إحدى عصور كوكب الأرض. واستحالت الشوارع الأنيقة لمملكتنا إلى طرقات طباشرية يسيل الجير من أشداقها.

نكست رأسي حزيناً فرأيت أصفادي، وقد أذابها مطر الطباشير. وانمحت الأصابع الزوباتية من خد زوجتي.. يمكنني أن أعاود تقبيلها في خدها مجدداً. وتماهى ذلك الذي كان - قبل اصداري للمنافستو - خمسون أبنائي في بلاط القصر الزوباتي ثم تكلّس من جديد على هيئة إصبع ضخم من الطباشير لدرجة انه قد يحصل على شهادة الآيزو في كوكب الأرض، وربما يصلح للأساتذة الأرضيين هناك.

أطبقت على ساعد زوجتي وهربنا إلى زوبانيل ، إننا نلوذ بالنهر كلما تكاثفت المصائب فوق رؤوسنا. لم نكن وحدنا لقد كان أهل زوباتيا هناك عند النهر يلوذون به كذلك. ولم يفوت زوجتي أثناء هروبنا، أن تمعن النظر في نحور وشعور و أرداف غيرها من الزوباتيات. أو تنظر بحسرة إلى القلاع التي شيدتها ، وقد ذابت كما الملح في ماء ذلك النهر العظيم بكوكب الأرض.

كان حكيم زوباتيا يجالسنا، مشاطراً التحديق المتحسر في نهر زوبانيل الذي أضحى مجرد درب طباشيري. وأشجار الزيزبون التي تصطف على جانبيه حيث طفولتنا الزوباتية ومنها طعامنا، أضحت منحوتات طباشيرية لأشجار بها كرات من الطباشير، كانت قبل عهد ليس بالبعيد هي فاكهة الزوبوتين.

حدثنا حكيم مملكتنا: ( إن هذا الزمان الطباشيري المباغت سيسود أرجاء كوكبنا الزوباتي لأعوامٍ ربما ستطول وقد تقصر. وهو ليس كالعصر الطباشيري الذي كان بكوكب الأرض بدء خليقتها. أي انه سينتهي - إن كتب له الانتهاء - بكارثة تهلك الكوكب الزوباتي بأجمعه. فتهلك الحرث والنسل وربما تكون .....). وصمت زوباقراط مفكراً، وأنامله اليمنى تبحث عن شئ مبهم في ثنايا لحيته الكثة ناصعة البياض، والتي ازدادت نصوعاً بذوبان بضع كرات طباشيرية أسقطتها السماء فيها.

أعياني وزوجتي صبرنا الزوباتي، وكرهنا صمت حكيم مملكتنا كثيراً. وبعد ساعات طوال، تحدث زوباقراط حكيم مملكتنا : (( ربما تكون نهاية الكارثة ..في الطباشيريين .... سيحكمنا الطباشيرون يا أصدقائي )).




مزمـل الباقــر
أمدرمان – 2004م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى