يوسف القط - الصـيد

كانت الحجرة مستطيلة الشكل ، محدودة ، وكان شباكها مفتوحا ، بلاحدود ، وكان بداخلها طفل غارق في البكاء . كان الطفل ممددا على الأرض ، يهمش الهواء بقدميه ، وهو يبكي وكان لبكائه معنى كالكلام.
عندما هبط الليل ، حط على حافة الشباك طائر بشع . كان في حجم الطفل بل أكبر . وكان أزرق الجسد ضارب إلى السواد . نظر إلى الطفل طويلا ثم استدار ، وفرد أجنحته ، ثم رفرف ، طائراً في الفضاء .
كان الليل قد لف الكون في غلالة سوداء داكنة ، وكانت البلدة نائمة في ثبات عميق . لاصدى إلا صوت نباح الكلب . تجتمع ثم تنفض ، تنبح ثم تنبح . عاد الطائر وحط على حافة الشباك ، وكان الشباك ما زال مفتوحا بلا حدود .
حاصر الطائرالطفل بين شعاعي عينيه فازداد الطفل بكاء . نظر الطائر خلف ظهره ، ثم اعتدل وسأل الطفل قائلا : لماذا تبكي؟
وأوأ الطفل قائلا : خرجت أمي هذا الصباح مع رجل ، ولم تعد .
ـ هل هو أبوك؟
ـ لا .
هز الطائر ذيله، وقال : رجل غريب إذن .
نظر خلف ظهره ، ثم اعتدل وسأل الطفل : أين أبوك؟
وأوأ الطفل قائلا : لا أعرف .
ـ هل هو في الحقل ؟
ـ لا أعرف .
ـ هل هو في المصنع؟
ـ لا أعرف .
ـ تاجر؟
ـ ربما .
وعاد يهمش الهواء بقدميه ، بينما تحرك الطائر في مكانه ، ثم قال في شبه همس : أين أبوك إذن؟
وعاد يهز ذيله ، وسأل الطفل : أليس لك أب؟
ـ ربما .
ـ أنت بلا أم ، ولا تعرف لك أبا . أنت صيد سهل .
وفجأة انقض على الطفل ، وأكل قدميه ويديه ، ثم عاد إلى مكانه على حافة الشباك ، ولم يلبث أن فرد أجنحته ، ثم طار ، وترك الطفل يبكي ألما ، والدم يسيل منه .
مر يومان كأنهما سنوات على الطفل الوحيد . عيناه تتحرك، لكنه لا يبصر . عاجز عن الحركة ، عاجز عن الدفاع عن نفسه . كان ما زال يصيح ويبكي ، وكان الدم قد تجمد على الرسغين وعلى الصدر ، والبطن والفخذين ، وعلى الساقين ، وعلى الأرض بجانبه ذراعان وساقان من الدم . تجمد .
وعندما هبط الليل ، في اليوم الخامس .. حط على حافة الشباك طائر بشع كان رأسه في حجم رأس الطفل ، بل أكبر ، وكان أزرق الجسد ، ضارب إلى السواد ، وما أن لمحه الطفل ، حتى أخذ يصيح باكيا . استدار الطائر ثم فرد أجنحته . رفرف طائرا في الفضاء .
كان الكون غارقا في بئر تضرب فيه الظلمة الحالكة السواد . وكانت البلدة غارقة في سبات عميق لاصدى لصوت إلا نباح الكلاب . تجتمع لتنبح وتنفض وهي تنبح .
عاد الطائر وحط على حافة الشباك ، وكان الشباك مازال مفتوحا وبلا حدود .
ابتدره الطفل قائلا في صوت يقطر دموعا : لقد عادت أمي لكنها هزيلة ضريرة تسير على هدي عكاز ، أسمعتها صوتي ، لكنها خرجت ولم تعد .
تحرك الطائر في مكانه ، وقال كالمخاطب نفسه : أنت بلا أم ولا تعرف لك أبا . أنت صيد سهل .
وفجأة انقض على الطفل ، وأكل ساقيه ، وفخذيه وبطنه ، وصدره وذراعيه ، ثم عاد إلى حافة الشباك ، ولم يمكث طويلا . فرد أجنحته ، ثم طار . لف في الفضاء لفتين ، ثم عاد وهجم على الطفل ، فأكل رقبته ، وترك الرأس تشر دما .


* هامش :
** نص كتبه يوسف القط بعد هزيمة 5 يونيو 1967 ، ونشره في الصحف العربية ، وتم نشره في كتاب " 9 قصص" الصادر (سنة 1980) ، وأعيد النشر ثانية في كتاب " القصة القصيرة في دمياط " ، إصدارات الرواد ، العدد 25، يناير 1990 ، والعنوان من اجتهادنا .
** يوسف القط من مواليد بني سويف . عمل وعاش في مدينة دمياط. خاصم الدنيا ، وذهب عقله. وجد ميتا من قسوة البرد في حديقة عامة تطل على نهر النيل. تقريبا سنة 1986. وهذه القصة أبثها هنا تحية لروحه المتفردة. يرحمه الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى