حسن المسعود - اللبؤة الجريحة..

بـينما كانت قـدمـاي تـجّرني إلى الأمام، في صالات المتـحف البريـطاني ـ بقـسـم الشـرق الأوسط ـ حيـث الجداريات الصـخرية القــديـمة المعـتـمة تغـلـف الجدران بـكامـلهـا، لم تكن عيناي فحسب، بل كان فكـري أيضا يتـــنــقـل من رســم إلى رســم. ففي زمن الآشوريين كانــت الحروب وسـيــلة لـتأكـيد الـذات، وكان الفـنان آلة بـيد الحكم لتـأكـيد الانـتصارات وتخليدها، بل أن ديكور القـصر لم يُعـمل إلا لتـــخـويف الداخليـن لهـذه البـناية وليضعهم وجها لوجه أمام مصيرهم في حالة العصـيان. فان المـجازر المرسـومة رهـيبة جدا. هكـذا كانت الحاجة للـفـنـان أيام زمان وفي زمن لم يكن فيه مكان صور كالتلفزيون.


وفجأة تـســتوقــفـني مجمـوعة منحوتات لمــشاهـد صـيد، حـيث يطـلق الجنـود من الأقـفاص الأسود واللــبؤات أمام عربة الملـك، ليـــشــفي غـليله بـســـفــك الدماء. وهنا وجدت أن المنـــحوتات أخذت طابــعا آخر من الــناحــية التعــــبـــيرية والتـــشــكيــلية، وخصوصا تلك المنـــحوتة التي سـمـــيت باللـــبؤة الجريحة. هذه اللبؤة التي ادهشت الكثير من الفنانـيـين العراقيـيـن. شعــــرت أمام هذه اللبـــؤة وكأننا واحد، فهـــي مثـــلي غريــبة في بــلاد الغــرب، وهي مثـــلي مجروحة وتــتألم رافعة رأســـها تطرح الأسئلة عن ســــبب هذه الوحـــــشـــية .
رهافة جســـمها الصـــغيــــر أمام العمـــلاق البـــشــري الذي يمــطرها بالأسهم التي تـــخــترق جـــسـدها العاري، تجـــعـلــنـــي أفكر بان الفــنان الذي نــحتها كانـــت تــــشــغله نــفــس الأسئلة التي هي من هـــمومنا اليـــوم. لماذا يتــحول الإنسان فـــجأة إلى ذئــب أمام أخيه الإنسان؟ وكيــف إن الإنسان البســيط الذي يســـتــقبــلك في داره بكــرم وطــيــبة. يـمكن أن يتــحول بين لــيلة وضــحاها إلى جزار لأخيه الإنسان، بمــجرد أن يــجد مبررات توقــظ فــيه غرائز العداء النائـــمة؟ وكما تـــقول الحكمة الشـــعبــية: الفــتــنة نائمـة. لعــنة الله على من أيــقــظها.
ولم اســـتطـــع الاستــمرار بمشاهدة بقـــية المنحوتات، فــقــررت البحــث عن باب الخـــروج، وما شــــغــل ذهـــني آنذاك هو: كـــيف يمـــكن للإنسان أن يـــتـخلى عن عنــفه، و يــتركه نائــما إلى الأبد كما تـود الحكــمة الشــــعبــــية؟
وعـــند خروجي من قــاعــة الشـــرق الأوسط، ألقيت نظــرة خاطـــفة على القـــاعة اليــونانــية الـــقديــمة، فوجــدت أن اكـــثر الأعمال النحتـــية تـــســتـــوحي الجــمال من جســـم المرأة و انهــم توصلوا إلى الجــمال المـثـالي الذي لا يوجد مــثــيل له على الأرض، وكانــت عــندهــم فــلــســفة تـــقــول إن الخـــير يوجــد أيـــنــما وجــد الجــمال. هكــذا كانــت التــربــية عنــدهـم. وربما لديهم الحـق في ذلك .
ثم مررت قـــبل الخروج من المتحف أمام أعمال فــنـــية آتــــية من البـــوذيــة وفكرت: يــقال عن هؤلاء: لا وجـود لجريـــمة قـــتــل عـنـدهـم ولا يقـتـلون أي حيــــوان ولم يــــذوقــوا طعـــم اللــــحم في حــياتـــهم قط، بل أن حشـــرة أو عـــنكـــبوتا لو يقــاســـمهم الســــكن يـتركونهــم يعيشون بمـــكانهم. احتراما للحياة ولكل شيء حي.
ربما الإقـلال من أكل ما هو حيواني يجـــعــل الإنسان اقـــل عـــنـفـــا ًويــهــذبه في علاقــاتــه مــع الآخــرين. ألم يكــن شـــاعــرنا الكــبيــر أبو العلاء المـــعـري كـــذلــك؟ الم يقـــل للـدجـاجـة: اســتــضــعــفوك فوصــفوك، ويواصــل سخــريتــه. عنـــدما يــــســأل الدجــاجة: هل اســـتـطاعوا أن يأكـــلوا شــــبل الأسد؟
تاريخـنا حافـل بـشخـصيات تــتـكلم من الـقـلــب وربـما أن هذه الكــلمات العـميـقـة لمحي الدين ابن عربي في الـقرن 13 هي الابســط في رفــض العـــنف والدعـوة إلى الـتـآخي:
لقـــد صار قــلـــبي قــابلا ً كــل صورة
فـــمرعى ً لــغــزلان وديــر لرهـــبان
وبــيت لأوثـــان وكعــــبة طــائف
وألواح تــوراة ومصـــحف قرآن
ادين بدين الحب أنى توجــهت ركائبـــه
فالحــب ديـــني وأيــماني
وفـي اليــوم الــتالي بعد تلك الزيارة عــملت مجـــموعة خطــوط للحــوار مع هذه اللـــبؤة ولكي أقول لها: إني أحسست آلامها وأشاركها تســاؤلاتــها وانسانيتها .
واخــترت كلمات الخــط من شــعــر الأندلســي أبو الحـــســن مطــرف :
أرضـعــتـني العـراق ثــدي هـواها وغـزتــني بطـرفــها بغـــداد .

حسن المسعود 2005

* المصدر
اللبؤة الجريحة ـ بقلم حسن المسعود الخطاط The dying lioness, Hassan Massoudy

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى