حيدر عاشور - الملاذُ الاخير

لم يبق لي في هذه الحياة الغارقة بالأحزان وطغيان الالم والأنين الذي رافقني منذ موت ابني الذي كاد يلتحق بالجامعة بعد ان انهى دراسته الاعدادية ،كان مولعا بالشعر منذ صغره ربما كان تأثيره بأمي التي كانت تنشد الاشعار الحزينة في المناسبات المؤلمة لاسيما في نهايات الليل ،وفي خلوتها وعزلتها في غرفتها شعرت بأنه يتلصص عليها ويكتب بعض ما تلتقطه أذانه من كلمات وصور مؤثرة نسجتها الذاكرة الشعبية حين تعاتب الزمن والأولاد والزوج والقدر وظلم الاخرين والغدر والوحدة والكبرياء الضائع وسط الزمن الرخيص وهي تؤطّر تلك الاشعار بصوت حزين يثير الشجن والأسى .
وظل ماهر يذكّرني وقد غادرتنا الى عالم الابدية ... وبعدها بعامين التحق ماهر بجدته وشعرت كأن خيطا سريا يربطهما معا فكانا اثنين في الحضور والغياب مما زاد من طعنة الزمن لروحي وعقلي الذي لم يحتمل ماجرى لي بهذه السرعة وبدا البيت فارغا وساكنا حد البلادة وكنت اتجنب النظر في وجه زوجتي التي انهمكت في وظيفتها كمعلمة كنوع من السلوى ،لكن الامر لم يتوقف الى هذا الحد بعد ان انهارت قدرتي على الاحتمال ولم اعد احفل بشيء بهذه الحياة وبدأت تنهش رأسي الهموم وصورة امي وابني لاتغادر ذاكرتي وعقلي وأحداقي المتعبة .ومع مرور الزمن بت اكره المجيء الى البيت لأنه الباعث الخطير على اثارة شجوني فاهرب الى اي مكان اخر ولأنني موظف في دائرة الاثار بدأت اقرأ في المكتبة عن سيرة الممالك التي اندثرت والملوك الذين قضوا نحبهم لعلي اجد سلوى او عزاء مما انا فيه فمن يطلّع على هموم وأحزان غيره ربما تهون عليه مصائبه مثلما فعلت زوجتي رهف وهي تنهمك في تصحيح اوراق الامتحان وكتابة درجات التلاميذ وتهيئة الدروس وحين مللت من القراءة بدت لي عادة السير في الشوارع الخالية وهي تبعث لي شعورا بالراحة وكدت اعتاد على غلق باب غرفتي والاستغراق في عزلة وانطواء غريبين وبدا الامر يلحق بي اذى كبيرا وفجوة بيني وبين رهف لم نلتق ولم نتحدث كثيرا مرت شهور عديدة ونحن لم نتبادل سوى تحية الصباح او نهايات الليل وانا اعود متعبا من السير في الشوارع شعرت حينها انني في واد ورهف في واد اخر تماما انفصلنا نفسيا واجتماعيا رغم اننا تحت سقف واحد .
ومع مرور الايام والأشهر دبّ السأم والضجر بيننا وكأننا نتهم بعضنا بفقدان ابننا الوحيد وبدأت رهف تكثر الذهاب الى اهلها وتطور الامر حين تظل غائبة اسبوعا او اسبوعين .
وفي لحظة غريبة ومجهولة لا ادري كيف تطور الامر في تلك الليلة المشؤومة التي كنت فيها متعبا وانا اشاهد في الشوارع من في عمره وهم يمرحون ويضحكون ... تشاجرت معها لسبب طارئ ،وربما مفتعل وكأننا تواطأنا على الخلاف وشعرنا ان الوحدة القاسية لا يمكن احتمالها ونظراتنا الحزينة المتبادلة مليئة بكل انواع التساؤل والعتاب والحزن الدفين ... قلت لها صارخا انني لم اعد اطيق وجودك في هذا البيت ... ساد الصمت لهذه الجملة الصادمة ... اقتربت مني تاركة اوراقها :
- ماذا تقصد .
- اقصد ... انني لم اعد اطيقك وأنت منشغلة عني بالأوراق والامتحانات والدروس .
- وما الذي تريده مني.
لم يعجبني ردها البارد وكأنها لا تدرك بركان الاحزان الذي يعصف بعقلي ... صرخت مرة اخرى وكأني لا احتمل الحوار الطويل والثرثرة الفائضة وطلبت منها وقد طوقني الغضب وسد عليّ كل منافذ التفكير .
- اشعر اننا يجب ان نبتعد عن بعضنا بأية طريقة ماحدث نسف مابيننا .
اصابتها الدهشة مرة اخرى :
- ماذا تقصد .
- اذهبي الى اهلك واتركيني وحدي ربما اجد حلا لنفسي ... انا لم اعد افهم نفسي .
لم تطق رهف صبرا اخرجت ملابسها وحاجياتها واتصلت بأهلها وطلبت من شقيقها اسماعيل ان يأتي ويأخذها وحاول اسماعيل هاتفيا ان يؤجل الامر حتى الصباح ،لكنها احتدت في طلبها وقالت له :
- اذا لم تأت الي فأنني سأخرج في هذا الليل وحدي ... ولا اريد من احد ان يوصلني .
وبعد ساعة او اقل خرجت دون ان تنبس بكلمة وانا اغلق باب غرفتي تحسبا لدخول اسماعيل في ثرثرته المعروفة .
وها قد مضى على تلك الليلة اكثر من سنتين وأصبح البيت وكأنه بيت اشباح واستغرقت في عزلتي وطلبت اجازة طويلة من وظيفتي . شعرت لأول مرة في حياتي بهذه الوحدة القاتلة ولم يكلف احد نفسه بزيارتي اما اختي الوحيدة التي تسكن بعقوبة فقد انقطعت بها السبل وضاعت اخبارها بعد الاحداث الاخيرة من تفجيرات وانقطاع الطرق وأصبحت بعقوبة المدينة الوادعة عبارة عن مدينة مخيفة وساخنة ،وكانت اختي تبعث بأخبارها وتوصي بان لا افكر بزيارتها ابدا.
صار البيت يخيفني وقررت في لحظة غريبة ان اسكن في مكان اخر فلربما اجد شيئا من الراحة وبالفعل هجرت البيت وخوفا على نهبه او حرقه قررت ان اؤجره وأقيم في احد الفنادق ...وبهذا دخلت الى عالم الفنادق الغريب ،والذي تتحول فيه الى انسان منقطع عن العالم وتصبح مجرد رقم اصم في السجلات وأنت تحمل مفتاح غرفتك وكل لحظة تتلمسه خوفا من ضياعه وأيقنت ان الناس ينظرون الى من يسكن الفنادق على انه انسان من الدرجة الثانية لأنه اختار الخروج من عوالم الناس الى نوع من الفردية الموحشة .
في الاشهر الاخيرة ادمنت زيارة المقبرة وفي كل مرة اشعر بالضياع والبحث عن ماهر لما ينتابني من شعور غريب وانفعال محتدم ... في احد الايام وفي صباح مبكر جدا اتجهت الى القبر وانا احمل بعض الزهور والماء اصابتني الدهشة القاتلة وأنا اسمع صوتا يشبه صوت ماهر وملامح تطابق وجهه ...رتلت بعض الايات مع نفسي .. ما الذي يحدث هل نهض ماهر من قبره... بدأت اتلمس عينيّ المتعبتين في هذا الغبش الصباحي وأسرعت من خطواتي .. وحين وصلت ادهشني الامر اكثر وكشف لي حقيقة اغفلتها كل هذه الاعوام .. فلقد وجدت رهفا وهي تبكي بحرقة مؤذية وهي تنادي ماهرا بكلمات وتعاتبه لأنه تركها وجعلها وحيدة... كم اجتاحني الشعور بالذنب ومازال رأسي يدور من تطابق وجهها مع وجه ماهر وصوتها يا إلهي ... لماذا لم انتبه الى هذا التشابه ،ثم عدت لأقول ليس في الامر غرابة فهي امه لكني كنت مصابا بعمى الاحزان التي تجعلك لا تنتبه الى ما حولك ... اقتربت منها شعرت انها ارتبكت او انها لم تتوقع حضوري في هذه المصادفة الغريبة ... سألتها سؤلا عاديا :
- هل جئت لوحدك.
- معي اسماعيل ذهب ليزور قبر امي .
وبعدها لم استطع ان انطق جملة اخرى ،وقد استغرقنا في بكاء غريب ... شعرت كم هي قريبة مني وهي تشاركني هذا الحزن الذي أكل قلبي وعقلي ... لكن هاجسا ولد على حين غرة ودون توقع او تخطيط باني لابد ان اعيد رهفا لأنها تحمل كل هذا العبق الذي يذكّرني بماهر وأدركت بأن الكائن الوحيد الذي يشبه ماهر على هذه الارض هي رهف اوضحت لها شعوري بسرعة وجرأة وتحت تأثير الانفعال ... اندهشت وقالت : يجب ان تهدأ فإسماعيل لا يحب ان يراك
- انني سأعود اليك بأية طريقة وستعودين الى بيتك .
اجابت بحزن :
- ليس الامر بهذه السهولة فنحن في مجتمع تحكمه التقاليد وأنت تعرف ان الامر معقد .
وجن جنوني وحين حضر اسماعيل بوجهه المقطب تحدثت معه بقوة وقلت له حين نعود الى بغداد سأتوجه اليك طالبا عودة رهف وأنا حاضر لكل الاجراءات التي يفرضها الدين والتقاليد لقد وجدت ابني في اعماق هذه المرأة وعسى ان يعوضنا الله بماهر اخر .
امسك اخته وسارا بعيدا بعد ان وجد حالتي لا تحتمل ،النقاش ولاسيما ونحن في مقبرة ... لكنني قرأت في عينيه وعينيها موافقة خفية تحتاج مني ان اسرع في خطواتي فتوجهت مسرعا خلفهما وكنت قد وجدت ملاذي الاخير.
حيدرعاشور
[email protected]
قصة قصيرة من مجموعة (بوح مؤجل)

















































































تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى