حيدر عاشور - فوبيا النهر

منذ زمن سحيق وانت تردد مع نفسك بان لا احد في هذه الحياة الكالحة يفهمك فالزوجة عبارة عن حاسبة مالية تتعامل معك بالدفع العاجل فقط ولا تفكر اطلاقا من اين تأتي انت بالمال، اما طلبات الاولاد فلها بداية وليست لها نهاية وغالبا ما تقف الزوجة خلف الستار لتدفعهم لكي يمثلوا عليك ادوار العوز والحاجة، ودائما ما يلجأون الى الحيلة التقليدية فأبناء الجيران يلبسون افضل ويأكلون افضل وحاجاتهم اكثر.. وفي هذا الزمن تحوّل الاخوان الى كائنات موسمية يظهرون في المناسبات الاجتماعية وهي عبارة عن تجمعات للنفاق الاجتماعي واظهار المحبة الكاذبة وقد جربت الجميع في المحن والظروف العصيبة حتى يختفي الجميع عنك، اما الاصدقاء فهم قوم يتدبقون حولك طالما تدفع لهم فهم باقون اما اذا شعروا بانك حريص على مالك توقعا للأيام الصعبة فانهم ما يلبثون ان يتحولوا الى غرباء ويبدأون في الابتعاد عنك انت تدرك ان قسوتك كانت وراءها هذه العقد الاجتماعية فلا احد يفهمك ولا احد يحنو عليك، لكنك في لحظة غرق ابنك ضياء توقفت طويلا وهزك الموقف الحزين وتحولت الى رجل لا يملك سوى الدموع والاسى المزمن وصار الشاطئ الذي ابتلع ابنك مزارا يوميا لك لم تكن تعرف بانك تحبه وتعشقه بل وتعبده الى هذا الحد على الرغم من قسوتك عليه ليس في الكون ثمة اب يكره ابنه فهذا الحب او التواشج السري هو عنوان غريزي وروحي ولذا نجد الكتب السماوية توصي الابناء بآبائهم وتحذرهم من العقوق لكنها لا توصي الاباء مطلقا بالأبناء..
كنت تذهب على وجه التقريب كل يوم الى حافة النهر ويتحول سطح الماء الى وجه ضياء وتناغيه وتتمنى ان يخرج لك من بين الامواج السحيقة وليبادلك بكلمة واحدة فقط ثم يغيب الى مثواه الاخير..
ولأول مرة يحدث معك ان تكلم نفسك وتوصل كلماتك المختلطة بالدمع (فانك يا ضياء لو تعود ستجدني ابا اخرا تماما) ستشرح له همومك وعذاباتك وتدعو الله ان يفهمك ويغفر لك كل تلك القسوة التي كنت مضطرا على تعاطيها تجد وسيلة تمتص منك كل هذا الحزن الخرافي والآهات الخفية والحزن المقيم سوى الحانة فتمنحك سويعات تنسى بها بعض الهم وتتشكل لك مشاعر جديدة تتصالح بها مع نفسك ومع فقيدك وحتى تلك الزوجة الانانية تجد الف مبرر لأنانيتها وانعدام عاطفتها.
واصبحت عودتك الى البيت لك تسقط على فراشك بانتظار يوم ممل وحزين اخر يضاف الى تقويم هذه العدمية اليومية وانت تنظر متى تحين ساعتك الاخيرة لتوّدع هذا الجحيم القائم بلا رحيل متوقع.
قلت لزوجتك:
- اليوم انقذت صبيا سقط في المكان نفسه الذي غرق به ضياء، ابتلت ملابسي وهويتي واوراقي لأنني لم اجد الوقت الكافي للتخلص منها فالقيت بنفسي وراءه بلا شعور.
- لكن ضياء لم ينقذه احد، وانت كنت تلاحقه وتقسو عليه في البر وفي اعماق الماء لم يجد من يخرجه وحتى جثته لم نعثر عليها فلقد حرمت حتى من القبر ازوره كالأمهات الثكالى.
- دائما تتحدثين عن نفسك واحزانك وكأني كنت عدوا له.
- ما الذي يحدث لك لو عاد ضياء.
لمحت في وجهها بريقا غريبا اختلط مع حوارها الاخير وقرأت شعورا خفيا وكأنها تسعى للإفصاح عن سر دفين.
- ما الذي تقولينه، انه ابني يا امرأة، لقد تغيرت ولو صار امامي لاركع تحت قدميه طول العمر.
حين اقتربت منك كان فمها يرتعش وعيناها تبعثان ضوءاً سريا وكأنها تحتضنك من هول ما تحمله في صدرها من عبء لم تعد قادرة على الاحتفاظ به.
- اسمع وارجو ان تحافظ على هدوئك واعصابك فابني ضياء لم يمت ولم يغرق، دارت ارض الغرفة عشرات المرات ولم تعد تعي شيئا وبدأ صوتها يتلاشى والكلمات تتشوه.
صرخت بأعلى صوتها وبجنون.
- ما الذي تقولين؟:
- لقد حانت الساعة لأكشف ما اتفقنا عليه انا واخي فاضل لأخذ ضياء معه الى كركوك واخبرني ببقية الخطة في البدء لم احتمل لكنه اجبرني على المواصلة وكان ضياء راضيا املا بأن يشعر ما مدى تأثير غيابه عنك.
- يا الهي وهل تعرفين ما حدث لي منذ ذلك اليوم القاسي وقد مضت ستة اشهر وانا اكاد اموت في كل يوم وساعة، الفرق لم اترك انسانا الا وامسكت به لكي يساعدني وعجزت الشرطة عن ايجاد الجثة اذن كل ذلك كان عقابا لي ايتها الفاجرة.
- لم اكن اقصد سوى انقاذك من الضياع والخمرة وعدم الاهتمام بابنك لم اجد وسيلة اخرى.
- هذه افكار اخيك المريض، سأذهب فورا الى كركوك واستعيد حياتي وسيكون حسابكما عسيرا.
- حتى بعد الذي حدث.
لأول مرة تمنت ان تحتضنها لهذا الخبر الذي اعاد اليه أنفاسه لكن كبرياءك كان حاجزا متسعا لمثل هذا التصرف شعرت وانت تعدو باتجاه المرأب بانك تغيرت كثيرا ولا تستطيع ان تقرر شيئاً جديدا حتى تتسلم ابنك وتنتهي هذه اللعبة السقيمة والمميتة وبعد ذلك تنظم أفكارك، وكيف سترد على كل اوباش الدنيا من امثال شقيق زوجتك انه درس قاس وسمج، لكنك لم تخف فرحك الجنوني وانت تتوجه الى كركوك بحثا عن روحك وماضيك وعما ستفعله بعد ذلك.

*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوح مؤجل)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى