حيدر عاشور - الرجل المحنط.. قصة قصيرة

شعرت بأن السيد العقيد عفا الله عنه قد تغير كثيرا بل تحوّل الى انسان اخر وشخصية غريبة ومتوترة حين تسلّم عنوة قرار احالته الى التقاعد وقد اخبرني احد زملائه بانه ظل طوال اكثر من شهر وهو يراجع وحدته والجهات المختصة لاعادته الى الخدمة العسكرية باي وسيلة ويقال والعهدة على القائل بانه تبرع للحكومة بنصف راتبه الشهري والتنازل عن الكثير من الامتيازات كنوع من المقايضة لكي يبقى يرتدي بدلته العسكرية والنجمات على كتفيه والعصا بين يديه وهو يأمر وينهي ، وله سائق ومراسل والجميع يبدأونه بعشرات التحيات العسكرية والجيران يهابونه ويتوسطون لديه من اجل نقل الابناء واخذ الاجازات ، وحين يضطر الى استئجار سيارة تكسي فان السائق يحسب له الف حساب ويتهاون معه في تسعيرة الأجرة . اما انا واخي وزوجتي وامي واطفالي فانه يعاملنا وكأننا سرية متروكة ويمارس معنا كل التعليمات العسكرية الصارمة ، من النهوض الصباحي الاجباري المبكر وعدم الرحمة لكل من يخطئ حتى ان زوجتي المسكينة احلام تربُت على رؤوس واكتاف الاطفال وهي تخيفهم بان العقيد سياتي لهم في الليل فيسود الرعب ويغفو الاطفال ، وانا في حقيقة الامر اكثر خوفا منهم واتوقع في كل لحظة بان يدفع باب غرفتي ويقدّم لي انواع الكلمات النابية امام زوجتي ، ولا يحسب لرجولتي وكرامتي اي حساب . اما اخي كمال فانه تحجج بعالم الرياضة وكرة القدم لكي لايبقى في البيت لاسيما الساعات التي يعود بها السيد العقيد ، اما امي فانها اكثرنا تحملا لهذه الماساة العسكرية اليومية وقد تحولت الى جندي يقدم كل الخدمات من اجل ارضاء الجهات العليا المتمثلة بهذا الزوج الذي امتزجت روحه بالاوامر والنواهي العسكرية واصبح طبعه جافا ويشعر بالسعادة والتلذذ حين يخضع له الاخرون وينصاعون لاوامره.
كنا نعتقد بان احالته على التقاعد ستجعله يفيق من هذا الزهو المرير لكنه فاجأني بان قلب مائدة الاحتفال به ورمى الشموع وهشم كل شيء وهو مازال يرتدي بدلته العسكرية ويحمل عصاه ، وارتقى السلم بمشية منتظمة وكانه في ساحة العرضات ، وسمعنا بعد لحظات من هذا الاحباط الغريب صوت مارش عسكري ينبعث من غرفته . ساد الصمت المرعب بيننا وجمعنا اشلاء الحفلة الحزينة وتسلل كل منا الى غرفته . وفي اليوم التالي سمعت جلبة غريبة في الحديقة ايقظتني احلام وهمست لي وهي تومئ الى النافذة ، ازحت الستار كليا ، ويال المشهد الذي لن انساه ، فابي بكامل هندامه العسكري وقد وضع على صدره كل النياشين وهو يسير سيرا عسكريا ، وبدا وكأنه يوجّه تعليماته الصباحية الى رعيل وهمي من جنود بائسين . عدوت باتجاه امي واخي لكي يريا ماوصلت اليه حالة الاب ، وهو يأبى ان يصدق بانه لم يعد عقيدا واصبح مدنيا بعد ان احيل الى التقاعد منذ ستة اشهر ، فجيراننا العميد ابو احسان اقام حفلة كبيرة للاحتفال بتقاعده ولم يره احد بعد ذلك ببزته العسكرية الصارمة بل ارتدى الكوفية والعقال وانساق في تيار المجتمع وظل يتحدث بندرة عن ذكرياته العسكرية القديمة وهو يتحدث عن مآسي تلك المهنة الشاقة على الرغم من زهوها الشكلي والخارجي فالمرء يشعر بانه مقيّد بالف نطاق ويكاد يختنق بكثرة وقسوة الاوامر وهو يسرّبها الى الرتب الادنى منه .اما ابي فقد خلق عقيدا ولا يريد ان يغادر هذا العالم الخاكي ، وبدا امره يقلقنا حتى قال لي يوما ابواحسان بانه يحتاج الى مراجعة طبيب نفسي او سفرة خارج العراق لكي يستعيد توازنه ويتخلص من هذه اللوثة العسكرية ومما زاد من عبء المشكلة بان الجيران والاقرباء والمعارف بدأوا يسخرون منا لاسيما وهو يصر على ملاقاتهم بالبدلة العسكرية ويتحدث معهم بصيغة الاوامر ويتحاشى الجميع بعنجهية واستعلاء ، ونحن نقاتل انا وامي واخي لاقناعهم وترضيتهم والاعتذار لهم عما يبدر منه ، حتى تحاشينا دعوة احد الى البيت بل ان الجميع من المعارف بدأوا يستهجنون المجيء الى البيت وهو يزداد تعلقا بمهنته التي اندثرت مع مرور الزمن . وفي ذلك الصباح الغريب أيقظني اخي كمال وهو مندهش تماما وخلفه امي ترتعش وقد اخبرني بان أبي قد رقّى نفسه الى رتبة عميد وهو في الحديقة يتلو الامر العسكري وقد اخذ وضع التحية العسكرية . قررنا في ذلك اليوم بأن نترك الدار التي تحولت الى ثكنة عسكرية ونلجأ الى بيت عمي وجدي انقاذا لموقفنا الذي اصبح لايطاق ، في ظهيرة نقلنا اثاثنا ، كان السيد العقيد او العميد ينظر الينا باستهزاء وبيده عصاه ثم تابع مشيته العسكرية اما نحن فقد توارينا عن الانظار باتجاه المجهول.


*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (بوح مؤجل)
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى