غنوة فضة - حنّا مينة.. بوابة العالم المخمَليّ

حَنَّا مينة : بوابةُ العالم المخمليّ

إنّها , الرّواية , بقلم شيخِها , لذا سيكون لِزاماً على القارئ أن يُهيّئ نفسَه ُلدخول عالمِ اللغة المخمليّ من أوسع أقلامها , وأشدّها بذخاً و ثراء . عليه أن يخلع نعله , ويتطهّر , ويُنهِض عباءته حرصاً على ذلك القالب الروائي الغارق في الغرابة اللذيذة المتفردة .
عن الفقر , عن الكبت , عن لذة الإنصات التي تُستباح في ذهنية طفلة صغيرة , كبرت ونمَتْ , ونما معها حسُّ الغريزة الجنسية تحت وطأة العيش في غرفة واحدة مع أبٍ نَهِمْ – جنسياً – و أمٍّ بائسة , وإخوةٍ يتمددون على أرض الغرفة كل مساء ؛ ببطون خاوية , وآذان مشرعة لما سيحدث بين والد جاهل , وأمّ متمنّعة , حيث تطيب لهم شذرات اللمسات والرعشات , وحتى الشتائم المتبادلة على السرير اليتيم .
رواية تكاد تحمل عرائش من دوالي السيرة الذاتية , بأسلوب أدبي غريب , لكنه محبب . و عبر سرده – حنّا مينة – لسطور " عاهرة ونصف مجنون " في صفحات تكاد لا تتجاوز المائة , يحكي قصة الفتاة لورانس شعلول ؛ الفتاة التي تخفي بين شقوق حياتها ألف ألف حكاية , لألف ألف فتاة , ليصف الأديب النشأة الأولى في الفقر الذي لا بدّ للعائلة البائسة منه , فهم عباد الله الذين فرض عليهم الحياة بالصورة التي أرادهم أن يعيشوها , وعليه فتحت عيونهم على مالا يجب أن يروا أو يسمعوا .
غرفةٌ واحدةٌ ,و على نور شمعة لا تسمن و لا تغني عن عتمة المكان , كانوا يبصرون الصوت ؛ صوت الأب النهم , الذي ينام طيلة أيام الأسبوع على عتبة الغرفة , ما خلا الأيام التي يعلن فيها نيته في النوم على السرير الوحيد إلى جانب الأم , ليُوقظ بذلك ما كان مخبوءاً في أماكن لم تلمسها أرواحهم من قبل , ليكون حظ لورانس هو الأسوأ , حيث يكون نصيبها في النوم إلى جانب خاصرة الأم , فتشهد بنفسها على مالا تحبّ نفسها أن تشهد .
و إلى جانب أمها التي تحب , وعلى عكس ما كانت تُكنّه لوالدها ؛ صاحب الغرائز الجياشة ,يتحول الأب أمام ناظري طفلته من رجل إلى حيوان . عقلها الصغير لم يفهم كيف كان ذاك العبث المجنون ينتهي في صبيحة اليوم التالي بكوب قهوة وسيجارة , على الرغم من الاحتدام الجنسي الصارخ الذي كان يحترق على مسامع الأبناء .
شبَّتْ لورانس لتفضح كل الرجال , تريد منهم أن يكفّروا عن ذنب والدها الذي جنّد يدها بلا شعور , لتُشبِع نهمَاً لا يخلص , ظانّةً منه أنها هربت لتنجو , لكن يد الفقر تضعها في يد الصراع مع الحياة , لتعيش لأجل إدمان المتعة مقابل شرف العالم .
تتقاطع حياة لورانس التي تصير كاتبة مشهورة , وصاحبة مركز خاص للسّحاقيات , مع قصة الكاتب فايز غضنفر , ليبدأ هنا حنا مينة في تزكية نفسه , فيما يشبه السيرة الذاتية , فهو المجنون نصف العاقل , الذي تزعم الكاتبة أنها على معرفة قديمة به , تلك المعرفة التي يجده غير لائقة به , بيدَ أنه في النهاية يجد نفسه أنهما فرعان من أصل واحد ؛ غصنان لشجرة واحدة هي الفقر .
هنا يتّضح المغزى الذي اختلق فيه الكاتب شخصية لورانس , حيث أراد أن يكتب جزءاً من ذاته لينجو . صور كثيرة ضمن الرواية تقاطعت مع صور واقعية حقيقية من حياته , عندما عمل حمّالاً و حلاقاً مشرّداً إلى أن سربلته السياسة بأسمالها البالية .
رمزية حياة لورانس شعلول , الكاتبة العاهرة , مع فايز غصن , تُخفي غِلّاً مأفوناً يُحوّر قلم الأديب إل نصلٍ حادٍّ , فنرى ألمه يخرج و يشتدّ به حتى يدميه بلغةٍ لا يعوز الكاتب الكبير أن يغير من جرأتها التي لم يكن منها بدّ في توظيفها , وكلمات لا يحده حدٌّ , وأمداءٍ من التعابير و الاستعارات الفاخرة .
رواية " عاهرة ونصف مجنون " تُغري القارئ لتكون أنيساً لجلساته ؛ تسبر أغوار نفسه , وتخرق حرمة لا شعوره , ليجد نفسه في النهاية وجهاً لوجهٍ مع صورة قديمة ما زالت حية , صورة طبق الأصل لجزءٍ بسيطٍ عاشه الأديب الكبير , حنا مينة .

غنوة فضة / روائية سورية


حنا.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى