مزمل الباقر - كابتشينو.. قصة قصيرة

" بسبب .. هواك ..
تعذبني
الأنسام .. وقلبي
تؤلمني .. قبعتي …
من .. مني
يبتاع .. وشاحي …….. هذا
وذاك .. الحزن
وصيغ من الكتان .. الأبيض
كيما يجعله
مناديل "
( ف. غ. لوركا )


في صباح الأربعاء الماضي كنت اضرب في أزقة بيت المال وأبروف متسكعاً دون ما هدف. تخيلتك بسوق الشجرة تبتاعين بعضاً من الخضراوات وشيئاً من السلطة، كنساء أم درمان الرائعات. لم تكوني هناك ، حسبتك خارجة لتوك من إحدى تلكم الأزقة العتيقة لتباغتيني بسؤال قبل التحية:

- ( الليلة الجابك بي جاي شنو ؟! )

- ( إنني أمارس هوايتي المفضلة التسكع في أزقة أم درمان !! ) أجاوبك دون مواربة .

- ( ليه ؟ )

- ( لما تكتر همومي ألوذ بأزقتها، أتسكع فيها .. عشان تديني الأمان والطمأنينة. أحس كل زقاق فيها هو زقاق بيتي .. كل أمدرمانيّ فيها هو من أهلي. أحسها – حسنائي السمراء – تتمدد في دواخلي شيئاً فشيئاً وتنشر .. زي ما دايره )

- ( الله .. الله … يا سلاااام ) تقولينها وأنت باسمة، يا لوجهك وقد أشرق بالبسمة، هي بسمتك أم الشمس؟. نصمت .. تملين صمتنا، فتزيحيه جانباً.

- ( عامل كيف ؟! )

- ( علي كيفك !! ) أجيبك باسماً ، فتبسمين مثلي لأن سؤالك وجوابي هما اسما اغنيتين . وأجدني قد صمت حتى تملين صمتي، فتودعيني وتذهبين. تتركيني وأمدرماني . ألا تغارين منها ؟!!.

نهار الأحد كنت فاتنة للغاية ومدبرسة للغاية ، حاولت أن أثرثر معك حتى تطول وقفتي معك … حاولت أن أقول شيئاً .. لكن عيناك المتطلعتان في دائماً ، تهزمني كثيراً كنت مكشوفاً للغاية بالنسبة لك ..عيناك تقول لعيني (أنت تحبها … تحبها … تحبها ).توتر أصابعي بيديّ...أرجحتي لساقيّ تخبر عيناك ( هو .. يحبها.. يحبها .. يحبها) هممت ذلك النهار أن أصارحك بحبي غير أنى خشيت رفضك، وفقد صداقتنا.

لماذا أنت من دون كل السودانيات اللاتي ألتقيهن أينما حططت رحلي وأينما حملته . قرأت قبل عامين إلا قليلاً انه وبحلول عام ألفين ، ستكون نسبة الجنسين رجل مقابل أربع نساء .

- ( دا كلام ساكت… الناس بتقول كدا لأنو نسبة الشابات والأعمارهن صغيرة اكتر من الشباب. لكن النسبة متساوية ) تعقب خالتي علي حديثي ونحن علي مائدة الغداء .

- (علي الأقل النسبة دي هنا صاح، لأن الحرب شغالة تكتل في الرجال ساكت) أعقب علي حديثها.

يتشعب حديثي مع خالتي أجدني أعي بعضه فقط لأن فكري منشغل بك. هناك صوت بجوفي – يموء كقطط حديثه الولادة – هاتفاً باسمك .. ألملم أفكاري التي تضطرب كلما ذكرتك في نفسي. وأسئلة حائرة ممسكة بتلابيبي، هل تفكر بك؟ هل تحبك؟ هل ستحتفي ببوحك؟ هل؟ هل؟ هل؟.

أعتزم مجدداً أن أبوح لك بهذا المزعج (الحب)، أحمل قصيدتي زلفى لإطلاعك عليها لقد بهتت أحرفها كثيراً وأنا احملها معي لأعيدها ثانية دون أن ترينها.

إنني أتعس من مشت قدماه علي الأرض. تعس أنا.. بحبك .. تعس لأنك لا تدرين أنني احبك .. تعس لأنني اخشي هيامي بك وعشقك لغيري .. آهٍ لو اعلم أي شريان يغذي قلبي بحبك لكنت قطعته وكفيت قلبي مئونة الهيام بك.

وددت عصر هذا الأربعاء لو وضعت حداً لدبرستك حتى لو انتقلت عدواها إلى. سأمضي بك إلى صديقي الطبيب النفساني، إن لزم الأمر.

في الطريق إلى الخرطوم كان المونولوج المعتاد بصدري يدور ويدور سأقول لها كذا وكذا ستقول لي كذا، فأقول لها كذا وكذا، ستقول لي القال ليك منو؟ ما كذا وإنما كذا وكذا وكذا و … القي ببصري عبر نافذة البص ضجراً .

تقرأ عيناي ( متحف السودان القومي ) أملا رئتيّ من هواء ذلك المكان ومن عبق التاريخ أستنشق.. تعبأ قلبي بالشجن .. تكلّبت شعرة جلدي .. أنجذب مثل درويش في ساحة المولد، أرنو إلى هذه الأوثان فخوراً ، إنني انتمي إليهم بطريقة أو بأخرى، لابد أن أطلعك باكتشافي هذا سأصرخ: عرفتها .. عرفتها لقد صرت نوبياً .. نعم نوبياً .. لكن ربما نوبياً بالتجنس لا .. نوبياً بالفعل، ألم يعبر جدي الأكبر أب الركابيين، البحر الأحمر ثم تزوج من إحدى السكان الأصليين بالسودان لعل حبوبتي كانت نوبية .. محسية أو سكوتية لا يهم ، إنها نوبية في آخر الأمر. ماذا أن كانت حبوبتي الكبرى نيلية أو بيجاوية ولم تكن نوبية ؟ وماذا إن كان جدي الأكبر قد تزوج من أهله قبل قدومه لوطنك ؟!! .

عاد ذلك الصوت يهتف بي نازعاً تأملاتي عني، يدفعني دفعاً لأسطر هذي الكلمات لك .. استغرق في الكتابة أحس بأنفاس جاري بالبص تلفح جيدي . ألتفت نحوه في حده ، أجد عينيه تتلصصان في زحمة أوراقي .. في زحمة كلماتي .. في ذاتي المدلوقة علي الأوراق .. أحملق فيه بغيظ فيلقي بأنظاره بعيداً .. بعيداً نحو فتاة في مقدمة البص واقفة كانت .. ومن حولها شباب يصغرونها عمراً ، جلوساً علي المقاعد ، يتفحصون قوامها الممشوق، أنظر إليها معهم ( أظنني رأيتها من قبل في مكان ما .. في زمان ما )، قلبي يحدثني بذلك . تلتقي نظراتها بنظراتي فجأة وكأنها سمعتني . وحينما تلاقت أعيننا ، تهرب عيناي في خلسةٍ .. لتنزلق علي حافة النافذة.

أنتبه إلى أن بص أمدرمان الكسول قد فارق عدة شوارع وانا منشغل عنه ، فقد تجاوز شارع الموردة وكوبري القوات المسلحة وسلك شارع النيل وانعطف على شارع الجامعة فشارع الجمهورية وتجاوز ميدان الأمم المتحدة في طريقة لمثواه الأخيرة حيث آخر محطة، وذاكرتي مجهدة تحاول أن تتذكر هذا الوجه. أعود فأنظر إليها مجدداً ، علني أسعف ذاكرتي باسمها .. لم أفلح ولم تفلح إلتفاتتها نحوي في تنشيط ذاكرتي . ألعنها في سري – ذاكرتي كثيرة النسيان هذه.

جاري في البص عاودته نوبة التحديق في أوراقي .. أحمل منديلي وأضعه علي أوراقي، كحلٍ أخير أحول به بين عينيه وقراءة كلماتي . نظر إلى نظرة غياظة[1]، جبانة أن شئت. قبل أن يزيح عينيه – بعد لحيظات معدودة - عن اوراقي وعني . عيناه كانت تقول لي: ( هسع دا بكتب في شنو .. في السخانة دي ؟! هي الناس ما لاقيه التكتح .. والله صحي الناس في شنو والحسانية في شنو!!!).

أترجل عن البص القديم وجاري موزعه أنظاره بين أوراقي وبيني وبين الفتاة . هل يعمل في سر الدولة منذ عهد مايو وحتى الآن، أم انه مجرد فضولي ؟ والفتاة ما بالها تتفرس فيني ملياً هذه المرة؟ لقد استوقفتني نظراتها كثيراً .. كانت تنظر إلى بتحدي مفضوح تسألني نظراتها بدهشة: ( قادر الله!! .... هي يا زول ما عرفتني؟!) .

اعبر شارع القصر، مسرعاً اجتاز سينما كولزيوم ، أسلك اسفلت شارع سعد أبو العلا وأنا امني نفسي بالطيران، كما طار عباس ابن فرناس – دون سقوط طبعاً .. ألا تكفيني سقطاتي الكثر طوال عمري ! - اقترب شيئاً فشيئاً من مكان عملك ، تداهمني هواجسي .. يتسرب الخوف إلى قلبي رويداً .. رويداً، كحبات رمل في ساعة رملية وتتعالى خفقاته حتى أخالني قارع طبل قوي الجلد!. وأحس بجفافٍ في حلقي ويباغتني عطش لن تفلح كل مياه نهر النيل العظيم في اطفائه، وتضايقني تلك الانقباضات التي تتوزع في اماكن متعددة في معدتي وبطني، وأجد عرقي وقد سال بارداً من ابطيّ وعنقي.

أحاول جاهداً ترتيب ذات مشلهتة، ولملمت أفكار مبعثرة، وروح طارت فرّررر، وجسد ذاب كقطعة ثلج تحت شمس هذا النهار الصيفي، وتمدد كما الإسفلت. بعد لأي ( أخت الرحمن في قلبي )[2] وأنا علي مرمي حجر من موظف الاستقبال، عم أحمد الحسن. أحييه بتحية الإسلام وتحية الصباح. أساله عن حاله وعياله. وعن المغتربين الذين انقطعت إخبارهم فجأة، وعن سعيد الحظ ابن أخته الذي هاجر العام الماضي إلى أمريكا عبر اللوتري. واسأله عن عمته التي تلازم (مركز سدره للقلب) منذ عهد بعيد.

يسألني عم احمد بلهفةٍ واضحة عن جاري البرجوازي في حينا الشعبي الفقير. يحصر سؤاله حول حقيقة عمائره التي تحاكي مانهاتن، وشرفاتها حدائق بابل المعلقة . يصمت عم احمد يتلفت يمنةً ويسرةً . يهمس لي: ( لسع مرتو بتشبه شجرة الدر؟ ) أقول له في سأم واضح: ( لا .. لا بقت بتشبه أصالة نصري!!).

يضحك عم احمد الحسن دون أن يسألني عن من هي أصالة نصري؟ . فقد تذكر انه لم يسألني عن حالي حتى الآن ! .

- ( أها .. يا ولدي وين انت الزمن دا كلو ؟؟ )

- ( والله قاآآعد يا عم احمد )

وقبل أن يسألني مجدداً مطالباً بشيء من التفصيل ، أساله عنك فيجيبني كالمعتذر:

- ( معليش يا محمود يا ولدي، الليلة.. الاستاذة ما جات !!) .

أجرجر أذيال خيبتي مبارحاً المكان. فشلت مساعي عم احمد في استبطائي، كما فشلت في الوصول إليك. خرجت إلى الشارع وما خرجت خيبتي من صدري، وفي قلبي حزن كحزن لمحته في عيني صبي الورنيش ذات صباح. أثقلت خطواتي الحسرة، كحسرتي حينما صدتني راحيل في جفوةٍ، وحرمتني قطف برتقال بستانها:

- ( مش شربت العصير بتاعك .. راجي شنو ؟!! ... يلا شتت )

وتشتت في شوارع الخرطوم وأزقتها حتى صدتني هي الأخرى . ينتشلني من وحل ذكرياتي ذلك الصوت بداخلي:( أنساها .. الله ما كتر في الدنيا دي غير بنات حواء) . أقول له: ( قفّل!!).

انتبه إلى أنني أحادث نفسي بصوت مرتفع في قارعة الطريق .. فأصمت. يجتازني احدهم مهمهاً: ( الله يثبت العقل والدين!! ). التفت إليه في حده، أجده شيخاً في خريف العمر، فأبتلع تعليقه في مضض دون أن أنبس ببنت الشفة.

تقودني قدماي إلى ميدان ( أبو جنزير ) اجتازه مسرعاً دون أن ألتفت ناحية مكان راحيل الخالي منها. فاليوم الأحد، لعلها في طريقها إلى كنيسة الحبش. أرنو إلى مئذنة الجامع الكبير، أتابع نقوشها دونما اهتمام. اشرد بعيداً .. بعيداً .. بعيداً. تعبت قدماي من المسير وكأنني قضيت العمر ماشياً، ما باله طريقي طويل هكذا ؟! بجسدي وهن القادم من سفر بعيد.

أصطدم بإحداهن وأنا في تأملاتي تلك ، فتصرخ في حدة:(مالك !!..عميان ما بتشوف !!) وقبل أن أجيب تتابع: ( قليل الأدب .. عمى يعميك إن شاء الله ). اعتذر لها كثيراً ، وقبل أن امضي عنها يصطدم بي احدهم :

- ( سوري يا ابو الشباب !! )

- ( معليش ولا يهمك يا وجيه !!! ).

أريد أن أفارق هذا الزحام ولكنه لا يبارحني ، أريد أن اترك حبك لكنه لا يهجرني .. حاولت كثيراً أن أصارحك بحبي، علني أفوز بقلبك. لكن جل محاولاتي، كانت هي محاولات (كِنِيش) بعينها .

إنني متعب وقلبي أكثر تعباً ، وهواجسي تجتاحني كإعصار (المَفَازة).. أحس ضياعي ماثلاً أمام ناظري .. أنا ضائع .. ضائع .. صدقيني ضائع رغم أني ما بارحت مكاني إلا قليلاً! وذلك الصوت بصدري يلح علي :

- ( أنساها .. أنساها .. النسوان زي الدنيا .. كلما تديها ضهرك تجيك .. وكلما تباريها تودرك .. أخير لك تنساها !!).

- ( ما قادر !!) أقول له

حاولت أن أنساك وانسي أيامي معك .. لكنني وجدت أيامك منقوشة علي ذاكرتي وصورتك مطبوعة في داخلي وحبك يحتل حجرات قلبي: حجرة .. حجرة. وسؤال يلح علي كثيراً :

- ( وآخرتها شنو؟ … آخرتها؟ ) تحادثني نفسي

- ( يا ود انت ما جادي؟ .. الولد دا بحبي!! .. يا حبيبي انت لسع في الجامعة ، شوفلك برلومة حلوة حبها .. انا كبيرة عليك !! ) أظنك ستقابلين حديثي باستهتارك المعهود .

دبرستك انتقلت عدواها الآن إلى ، صرت مدبرساً. ورغم أن هواجسي لم تهاجسك ذات مساء ، غير أن القلق الذي ألمحه علي شفتيك الآن يمنحني شعوراً باللهفة .

كابتشينو …..

انك الآن بحاجة إلى كوب من الكابتشينو والي سيجارة برنجي. وربما تحتاج في المساء، إلى زق خمر ومزه .




امدرمان _ 1999م


* هذه القصة موجودة من ضمن قصص المجموعة القصصية: ( تضاريس النزوح الأخير ) الصادرة عن دار عزة للطباعة والنشر والتوزيع - الخرطوم 2016م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى