مقتطف صمام الأمان

مرة أخرى أقف أمام بابه الخشبي الطامس في الأرض لقدم البناء، هذا الباب وحده يحمل على كتفيه ثقل البيت، كنت مشتاقا جدا أن ادخل إلى باحته، واقف في رواقه المجسم والمقسم بفواصل خشبية على شكل شبابيك عمودية الوضع قد مضى عليها دهر من الزمن ... الباب لأول مرة مقفل والممر فارغ تماما من المارة والزائرين وحتى من سكنة المنطقة، أرعبني منظر الجمود والصمت ولكن اندفاعي وشوقي جعلت أقدامي تخترق هذا (المجاز) الصامت الذي تنحني على جانبيه الدور وكأنها عاشقة ترغب في الاعتناق، يمنعها بعض جذوع النخل والخشب السميك الدائري الشكل الذي يمسك بالبيت كأكف كي لا يلامس الأرض ولا يحاول السقوط وتشعر عند مرورك إن انهيار البيوت قائم في أي وقت أنت سائر فيه ولكن بقيت على حالها قرابة مائة عام أو أكثر ... طرقت الباب ورجعت خطوتين الى الوراء بلا شعور وضغطي بدأ بالتصاعد ونبضي يتسارع بجنون أحسست بدوار براسي .. لماذا أنا خائف ؟ فتح الباب وإذا بالخادم يومئ لي بالرجوع وغلق الباب بسرعة بوجهي... قدماي توقفتا عن الحركة أمام الباب لا قدرة عندي للرجوع وترك الأمر ولا أستطيع طرق الباب مرة أخرى .. سمعت همسا حنونا من وراء الباب يقول: لي اذهب,, الحالة صعبة جدا ونحن خائفون عليك، حاول أن تتمكن من الرجوع بالسلامة.
أدركت أن هناك أمرا غير طبيعي يحدث ،المكان موحش بالفراغ لا صوت ولا إنسان ولا تلك الزقزقة الصباحية للعصافير وهي تدور في الفضاء وتتمركز في الزوايا العالية للبيوت وأعشاشها واضحة وفراغها أحيانا تسقط على الأرض وتحاول الأم زقها والأب رفعها وتفشل المحاولة لارتفاع المكان فيكون الصغير إما ملكا لصبي المنطقة أو وجبة طعام سمينة لقطط البيوت وهي تتربص دائما هذه الوجبة الدسمة... خطوت خطواتي باتجاه الشارع دون أن التفت يمينا أو يسارا شاخصا بصري على كتلة الضوء التي كونتها أشعة الشمس على شكل خيوط ذهبية نهاية الممر،انظر إليها كسراب كلما اقتربت بعدت أكثر المسافة كانت أطول مما أتوقع وأنا أتعثر في الوصول لقلة السيطرة على قدمي... هل أنا في كابوس جثم على روحي أو أضغاث أحلام تدور في فلك مخيلتي... ثقلت خطواتي بعد أن سمعت صوت مفتاح يدور من إحدى الأبواب التي أمامي، واصلت المسير بتمهل وحذر وخوف بل رعب حقيقي حينما سحبت بقوة جنونية إلى داخل البيت الذي فتحت بابه فجأة ،وكأني سقطت كما تسقط صغار العصافير بعد أن عصب عيني وشد معصمي بحديد وضربت على راسي وتحت قدمي حتى أصبحت تماما على ارض ضيقة ترفس جسدي أرجل بوحشية وقسوة دون رحمة... كنت صامتا لا أتكلم واستسلمت لواقع الضرب دون أن اعرف السبب فقط شعور بحدوث حدث لا يمكنني معرفته قد يخص المكان الذي أنا فيه... خفت الركلات قليلا وامتدت أيدٍ إلى جيوبي لتفريغها من محتوياتها... الصوت يقول... اكتب:
- مبلغ من المال ، قلم حبر شيفر، هوية الاحوال الشخصية، رسالة غرامية، صورة لفتاة مكتوب عليها لن أنساك حبيبتي، اسمها (أحلام عباس حمودي) ، شهادة وفاة باسم صبرية علوان، مسبحة حمراء حجر يماني هوية دائرة خاصة..
توقف الصوت عند الهوية الخاصة وساد الصمت وشعرت أن المكان قد فرغ تماما لا صوت ولا نفس ولا ضرب ..بقيت على هذه الحالة وقتا طويلا، ورغم شعوري بآلام الضرب غفت عيناي وهجرت روحي جسدي وذهبت إلى تلك الروح الجليلة التي لم تفارق خيالي منذ رؤيتها أول مرة حين ذهبت مع صديقي سعد كروان لزيارتها ومصالحتها والتحاسب الشرعي للأموال مضى عليها سنة كاملة ،كان حينها سعد كروان عليه أن يدفع مبلغا كبيرا من المال ولكن لا يملكه وقتها وكان خائفا أن يقع في إشكال شرعي مع مرجعه الشرعي وصاحب الأمر في العقيدة ... دون أن ينطق سعد مشكلته عفا عنه الدفع لهذه السنة وكلفه بتوزيعها على المحتاجين والفقراء أو جمع زوجين بالحلال عند الميسرة، وقتها عمت الفرحة قلوبنا ليس من اجل المال بل كيف عرف أمر عدم التمكن من الدفع وما هذا السر الرباني الذي بداخله ولماذا محبته تنساب إلى القلب بمجرد رؤيته وأنا في تلك الحالة تبسم لي وهمس في إذني صوت يقول لي قل لا اعرف... صحوت مع هذا الهمس من نومي وهم يرفعون عن عيني الغطاء ويفكون ذلك الحديد الذي طوق يدي وأجلسوني على كرسي من خشب رفعت راسي فرأيت شخصين طويلين ذوي شاربين سميكين وتقاسيم الغضب والقسوة واضحة على محياهما ،كان احدهما يقف أمامي والآخر وراء طاولة مكتب صغير...وقد اشتركا في طرح أول سؤال عليّ وبصوت واحد: ماذا تفعل هنا ؟
كان جوابي سريعا وغير متردد ومتمكن وليس خائفا وكان الجواب يأتي كهدير الماء بانسيابية وسلاسة دون شعور بشيء..تسري في داخلي قوة كامنة، وصورة مبتسمة في خيالي تستنطقني حسب رغبتها ويد كريمة تمس هامتي فيزول وجعي...إنها صورة ويد ذلك الطاهر الذي عبرت المسافات الطويلة لرؤيته وهو الآن يحميني بروحانيته ... إذن افرح أيها القلب والجسد المضروب إن سيدك راض عنك ويحميك فنطقت:
- سمعت أن رجلا مباركا يقطن هنا صيته في كل مكان رغبت في رؤيته وأظن اني أخطأت المكان من المحتمل في الفرع الآخر من هذا الشارع.
- ماذا تريد منه؟
- لاشيء مجرد حب إطلاع لا أكثر.
- من هي صاحبة الصورة ؟
- زوجتي ممكن التأكد منها من هوية الأحوال الشخصية.
هنا ضحك الاثنان على غبائهما وقال احدهما للأخر كذلك شهادة الوفاة تعود لوالدته.. علينا أن نكون دقيقين نحن أمام رجل إعلامي فطن... ولكنه وقع بيدنا لنكسر فطنته وغروره وسنرسله إلى بغداد ليأخذ حق فضوله الصحفي.
- نعم أنا صحفي وجئت لزيادة معلوماتي ولدينا موضوع خاص عن حوزة النجف فقلت طالما أنا هنا فلماذا لا أقوم بالاستطلاع ولم أكن اعرف أن هذا يخالف القانون في شيء.
- هل هذا الموضوع لدائرتك الخاصة؟
- نعم
- الم تسمع عن أحداث النجف مؤخرا؟
- لا يهمني أمر النجف... أنا هنا لغرض أربعينية والدتي وجئت لقراءة سورة الفاتحة عليها وتخلفت عن أهلي لمعرفة من يكون هذا الرجل الديني واسع المعرفة والانتشار.
- تأكدنا من ذلك تستطيع أن تذهب من هنا وعليك أن لا تعود إلا بصفة رسمية... ولولا هويتك الخاصة هذه لذهبت وراء هذا الباب إلى الجحيم وبئس المصير مع الكثير من الموالين لرجلك الديني واسع الانتشار بزهده وعلمه...ارجع حالا الى بغداد ولا تتصل بأي شخص في النجف ستكون مراقبا حتى خروجك هذه نصيحة لك لكونك صحفيا أولا، وثانيا كي لا نبرحك ضربا وتذهب تحت الأقدام.
دون أن انبس بأي كلمة لملمت أشيائي وخرجت متجها الى محطة الباص والشك يحوم حولي بأنني مطارد... وفي يومي الثاني ذهبت الى دائرتي مرعوبا أن تصل معلومات كذبتي حول موضوع الحوزة وسارت الأيام ولم يطرق احد بابي وعرفت فيما بعد أن اليوم الذي كنت فيه لزيارة بيت من أقلد من خلاله أمور ديني وعقيدتي، ذلك الرجل الروحاني الجليل ... كان منكوبا بفقدان احد علماء الحوزة وهو قريب له نسبا وقد اغتيل أمام بيته من قبل رجال الدولة الكارهين لامتداد العلوم الإنسانية على يد علماء يملكون المعرفة والبصيرة لدينهم ودنياهم.

* حيدر عاشور
* قصة قصيرة من مجموعة (زَهَايْمَرات)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى