بديع الآلوسي - القط همنغواي.. قصة قصيرة

(( تعال يا قطي الجميل وأرقد فوق قلبي العاشق
واطو مخالب أقدامك
ودعني أسبح في عيونك الجميلة
المشربة بمعدن وعقيق ))
تردد سيدتي فرجينيا هذه الكلمات قبل أن ننام بسلام ، وتقول لي وهي تمسد ذيلي : إنها لبودلير يا حبيبي .
في السابعة يخيم على بيتنا خمول عجيب ، بداية الليل تبعث على الكآبة حقا ً ، لم أنتظر طويلا ً، بقفزة واثقة صعدت على الأريكة الحمراء التي أعتدت على التكور فوقها . لا تتصورون كم أشعر بالفخر حينما يتحدثون عن سلالتي التي تنتمي إلى القطط الفارسية المحبة للعب . نعم ، يحبني الجميع ، ما يميزني هو شعري البني الكثيف والطويل ، ولامتلاكي مزاجا ً معتدلا ً .
حرارة المدفئة في صالة الضيوف ، حفزتني على التثاؤب ، خاصة ً بعد أن سمعت سيدتي فرجينيا تقول بنبرة حاسمة : همنغواي ، يا قطي الجميل، العشاء لم يحن بعد . لكني غفوت

في تلك الليلة بالذات ، كان المطر مدرارا ً ، وبما أني أخاف من البلل والبرد وكذلك من الأطفال المشاكسين والأشرار ، لذلك وجدت نفسي مصادفة ً أنزلق صوب تلك التجربة ، التي ولدت في عتمة الوعي وضحالة الإدراك .
إنه لأمر سيء أن نجد أنفسنا نتجول بين السيارات وبلا أي هدف ، كيف لي أن أتفادى قسوة هذه الليلة الباردة ، كنت مهزوما ً وجائعا ً حين رأيت مدام (جانيت) ذات البشرة السوداء ، والتي نزلت من سيارتها من دون أن تركلني بقدمها كما فعل الآخرون ، توقفت لتقول بأسى :
ـ يا لك من قط مسكين !
حال خروجها من السيارة ، سحبت حقيبتها ، وبدأت تفتش فيها ، صمتت وهي تنظر لي ، بدأت المواء خلفها، استدارت وتطلعت في وجهي وبنبرة حانية :
ـ ماذا تريد ؟ ليس معي ما يؤكل .
حدست أن مدام جانيت المكورة العجيزة مستعدة لَتَتبَنى قطا ً ضامر البطن مثلي وبوجه طعن بالكدمات كحالي . يا إلهي ، ماذا لو لم يعجبها أنفي الصغير والعريض ؟ ، لا اعتقد سيروق لها فرائي الطويل المتسخ ، ولا نظراتي المركزة ، التي أثارت حفيظتها حتما ً وربما أخافتها عيوني العسلية الشرهة .
سرت خلفها ، متوسلا ً ، لكنها واصلت طريقها ودخلت تلك البناية التي أغلق بابها قبل أن أتمكن من المرور .
للمرة الأولى أتذكر أن موت سيدتي فرجينيا هو السبب في مأساتي ، لكني أتذكر دائما ًأنها مشيئة الله .
أبنها الوحيد لم يعد يحتمل وجودي في البيت ، لذلك طردني ثلاث مرات ، على الرغم من علمه باني كنت قط أمه المدلل ، لذا كنت أصر على دخول البيت بشتى السبل .
بعدها سمعته يصرخ كالمجنون ، وأدهشني حين أمرني زاعقا ً : أن عاودت إزعاجي أيها الأحمق ، سأقتلك بحبيبات الزرنيخ .
هكذا ، بين ليلة وضحاها فقدت أريكتي الحمراء والبيت الآمن ، وبدأت اقتنع تدريجيا ً أن الناس المحترمين في هذه المدينة لا يتعاطفون مع قط ملوث برائحة المزابل .
بحثت طويلا ً، ولم اعثر على منزل جديد يؤويني ، حتى إنني في اليوم الثالث فقدت الأمل ، بعد أن سألت اغلب القطط التي تترك منازلها الدافئة بحثا ً عن هواء الحرية .

لأول مرة في حياتي أجد أن انتظاري سيحمل لي فرجا ً ما ، معتقدا ً أن مدام جانيت ستخرج حتما ، وتبادر بسؤالي : هل تبحث عن مأوى أم عن وجبة أكل دسمة ؟
ما كان أمامي من حل إلا أن أنتظر ، فرب ساعتين من الانتظار قد تثمر عن راحة لعدت سنوات ، بعدها سأموت أو تموت تلك السوداء التي غزى الشيب رأسها .

يا لي ّ من قط سيء الحظ ، كوني لم أتمكن من التخلص من عاداتي القديمة ، فطوال سنوات عمري الخمس ما كان ليروق لي سوى النوم فوق الأريكة الملاصقة للمدفئة .
كنت بحق كطفل مدلل ، سيدتي قبل إفطارها ، تفتح علبة اللحم التي أحبها وتضعها لي في صحن السيراميك ، وتناديني بأعلى صوتها : قم أيها الكسول ـ عليك أن لا تترك الفئران تغزو البيت .
أمام غريزة الجوع قررت ليلة أمس ، أن أستيقظ مبكرا ً، وأبدأ البحث عما أحتاجه في أكداس القمامة ، ولم يدر بخلدي أن أجد قطا ً صوماليا ً وآخر من بورما .
طبعا ً ، ذلك لم يرق لي في اللحظات الأولى ، لذلك فضلت الصوم خلال الأيام الثلاثة الأولى ، كبحت رغبتي لأني لم أتصور أو أحتمل فكرة الصراع مع القطط الجرباء من اجل لقمة عفنة .
لكن مشيئة الله ، حولتني فجأة إلى قط غير محترم ، أسرق فضلات الطعام وأخبؤها بعيدا ، خشية أن يعثر عليها أصدقائي الفضوليون .
ومنذ الأيام الأولى لنزولي إلى الشارع ، عرفت أن أناس هذه المدينة لا يشغلهم أمري ، بل على العكس كان أغلبهم يتقززون مني ويحملقون بي صارخين :
ـ ليأخذك الرب ، أن رائحتك تذكرنا بالموت…..
يا له من نهار ، استيقظت على أثر سماعي ذلك الشحاذ الذي ينزف انفه ، كان نحيلا ً ووسخا ً مثلي ، والذي ما ان رآني حتى بصق دما ًعلى الأرض ليقول لي بمزاج حزين :
ـ يجب نسيان الماضي ، أشعر أنه الوقت المناسب لنتحرك كي لا نموت .
يا للهول ، هكذا أذن البرد والسكون سوف يودي بنا إلى تلك النهاية التعيسة ، قررت أن اركض ، هرعت مذعورا ً ، ولم أتوقف حتى وصلت منهكا ً إلى ذلك المكان الذي وجدت فيه فرصتي الذهبية ، لو لم استيقظ باكرا ً ذلك النهار ، لاستحال لقائي بالسيدة السوداء ، حقا ً، المصادفات تحتاج إلى مبادرات طيبة .
ما أن خرجت حتى وجدتني انتظر قرب سيارتها البيضاء ، تساءلت في خلدي : هل سيأخذ الله بيدي ؟
لا اعرف أي شجاعة حفزتني ، ما أن رأيتها تفتح باب السيارة ، حتى قفزت في داخلها ، كنت قلقا ً ، وتوقعت أنها ستطردني ، لكنها نظرت لي مطولا ً . بماذا فكرت ؟ لست أدري ، ربما برميي من النافذة . لكنها ابتسمت ، فرأيت في ذلك فالا ً حسنا ً ، كنت سعيدا ً جدا ً ، إذ رأيتها تطيل النظر وتتطلع حولها ، وحين لم تر من أحد ، تفوهت بتلك الكلمات التي أنقذتني مما أنا فيه :
ـ هل تريد أن تأتي معي ؟
مشيئة الله منحتني بركات أمل جديد ، ومكانا ً أنام فيه كما أريد ومتى أشاء .
نعم ، أحسست أنها تمتلك قلبا ً طيبا ً ، وحال وصولنا فتحت باب دارها ، وتبعتها لأجد بيتا ً تفوح منه روائح متنوعة ، بدأت أتأمل صور قط جميل ، تم تعليقها في كل مكان ، عقدت الدهشة لساني ، وضحت لي بوجع كيف إني سآخذ مكان هذا القط ، الذي قضى نحبه دون اختيار منه . عادت الابتسامة على وجهي . لكني رفضت بامتعاض فكرة أن احمل نفس أسم القط الذي أحبته كطفلها ، نعم أني قط في منتصف العمر ، لذلك اعتقد أن تناسخ الأسماء خلل قاتل .
وبما إننا نعيش في الريف ، بعيدا ً عن الضوضاء والقطط السائبة ، لذا لم احصل إلا على وجبة واحدة من الأكل ، وهذا ما شجعني أن اكتشف مواهبي بصيد العصافير والفئران ، مزهوا ً بانتصاراتي .
على الرغم من كل ذلك ، فثمة أمران أزعجاني ما أن دخلت هذا المنزل الكبير ، أولهما هو وجود ذلك الكلب الرمادي ، الذي صار يترصد حركاتي ، وثانيهما وجود ذلك الخنزير الصغير الذي لا اعرف مزاحه من جده . وبما أن سيدتي الجديدة ليس لها سوانا ، لذلك كانت تجمعنا وتبدأ اللعب معنا ، فرحة بهذا الصخب ، آملة أن تنقذنا من الضجر.
بعد ثلاثة أشهر ، اكتشفت المكان على نحو أفضل ، وصار لي صديق ، انه القط فولتير المنتسب لقطط الغابة النرويجية ، والذي أتخذ له ملجئا ً تحت سقيفة الصفيح في زاوية الحديقة التابعة إلى مسيو أبراهام .
اقترحتُ ذات يوم على صديقي فولتير أن يأتي إلى بيتنا حيث الموسيقى والراحة ، لكنه كان حازما وقال لي ما لم أتوقعه :
ـ بالله عليك لا تحدثني بذلك ، أن حريتي فوق كل اعتبار .

كلما كانت السيدة جانيت تغادر البيت ، كنت اخرج واذهب بعيدا ً مثل فولتير ، باحثا ً عن الحرية ، متنعما ً بالربيع ، مرددا ً : كم حياة الريف جميلة .
رويدا رويدا ً صرت أتنعم بالشمس وهي تبعث الدفء في الشارع الذي أمام البيت ، هنالك كنت أتمدد وأغمض عيني واحلم بالحرية التي لم تمنحني إياها فرجينيا . نعم ، يجب أن نشكر الله على ما يهبنا من نعم جديدة ولو كانت مزيفة .
في الحقيقة ، حين كنت أتمدد على أسفلت الشارع ، لم يخطر ببالي أن السيارات المسرعة من المكن أن تؤذيني .
لكن فعلي هذا ، كان يغيض سيدتي جانيت، التي ما أن تخرج وتراني أتنعم بدفء الإسفلت ، حتى يجن جنونها ، لا اعلم لماذا تنهرني حينا ً وتنصحني بعدم تجاوز حدود الحديقة حينا آخر . في المرة الأخيرة ، كان وجهها عابسا ً وركلتني على مؤخرتي ، قائلة :
ـ يا لك من غبي ، لا اغفر لك حماقاتك في المرة القادمة .
من الواضح أنها حدست أن الطريق بأنحنائتيه التين تشكلان هلالين متعاكسين سيتسبب في لحظة كارثية ويسحق عظامي .
الأمور بدأت تزداد سوءا ً ، كنت عنيدا ً ، صار دفء الإسفلت يوازي حريتي .
في أحد الأيام ، مر طفلان مشاكسان لا يعرفان الله ، شعري الناعم أغرى أحدهما فتجرأ بحرق ذيلي لتنبعث منه رائحة كريهة . لكن تلك العقوبة لم تمنعني من التخلي عن حريتي .
بعد هذه الحادثة بأسبوعين ، فتحت عيني ما أن سمعت ذلك الإيقاع الغريب ، أراد لي الله أن أرى تلك العجوز الهرمة التي تنقل خطواتها بحذر ، توقفت ، رأيت عكازها ، ساورني الشك ، نعم ، خفت أن تحطم رأسي بضربة واحدة .
لكنها ابتسمت وتجاوزتني ، وعادت لتقول لي بحزن : كيف لا تعرف أنك ستموت !
لم أفهم ما تقوله هذه ألخرفه . لكن في المساء ساورتني أمور منها : بمشيئة الله نولد ، أما عن الموت فأننا لا يمكن أن نرجئه إلى زمن آخر ، انه يحدث كالصاعقة أو هكذا يحدث دائما ً وبأمر رباني .
شعرت بالملل ، وأنا انظر إلى السيدة المنشغلة بتنظيف القراد من فراء كلبها ، وبما أن ذلك قد ترافق مع نغمات الموسيقى الحزينة التي افقدني راحة البال ، لذلك قررت أن أخرج والعب في الحديقة مع الخنزير ، اكتشفت انه أكثر بلادة من سيدته ، تفوح منه رائحة البراز ، يا له من مسكين ، فهو لا يعلم أن حياته ستنتهي إلى شرائح مملحة وأفخاذ معلقة في المدخنة .
بخطوات وقفزات متعاقبة وصلت حديقة أبراهام ، بحثت وناديت على فولتير ، لكني لم أجده ، في بعض الأحيان اشعر أن اللعب مع القطط يساعدني على قبول الحياة كما رسمها الله لنا ، بخيرها وشرها، لا كما يريدها الآخرون .
مكثت انتظر في مخدع فولتير ، سيعود حتما ً، هذا ما مر ببالي ، لا اعرف لماذا سرحت مفكرا ً بسيدتي فرجينيا ، اذكر في احد الأيام وقبل أن يرمى بي في الشارع ، كان بيتنا القديم حزينا ً ، وفي الفترة الأخيرة صار يزورنا رجل وقور. قالوا لي : أهجع فإن الطبيب لا يحب المواء ، لكن انفي شم رائحة الخطر ، تعاقبت زيارات الطبيب ، الذي أغرورقت عيناه بالدموع في آخر زيارة ، ولم يتردد حين قال لها : مدام فرجينيا ، يؤسفني ان أخبرك أن العلمَ عاجز على شفائك .
بعد يومين ، حدث ما لم أتوقعه ، وضعوها في كيس ، وحملوها وهم يرددون : نامي بسلام ، واغفري لنا ، لأننا نحبك ولا ننساك .
كان الابن الوحيد لمدام فرجينيا صديقا ً لي ، لكن فجأة ً تحول إلى شخص جاحد ونذل ، لم أتوقع أبدا ً أن يضعني في الصندوق الخاص بنقل القطط ، بعد ساعتين من المشي الحثيث ، لم أخمن ما ينوي فعله ولا النية التي عزم عليها ، كل توقعي إننا سنزور صديقا ً أو سنذهب للتسلية في حديقة ما ، لكنه ما أن وصل إلى النافورة التي في مركز المدينة ، حتى فتح باب القفص ، وباستغراب سمعته يقول تلك الكلمات التي وقعت على راسي كالصاعقة :
ـ ما أجمل أن تكتشف نبض الحياة معتمدا ً على قدراتك الذاتية .
لم افهم بسهوله ماذا كان يعني ب ( نبض الحياة ) . لكن مشيئة الله حفزتني صوب تجربتي ، والتي قادتني شيئا ً فشيئا ً إلى نبض حريتي المفقودة .
كانت سيدتي جانيت تبكي هذا الصباح ، وشعرت أنها تمنحني الحب كله حين مسدت على ظهري عدة مرات وهي تقول بحزن : بالله عليك لا تخرج اليوم .
هي تعرف كل شيء عني ، لكني متأكد أنها لا تخمن بما أؤمن، وكيف أن الله يقدر مصائر مخلوقاته . لذلك ما أن انصرفت حتى تسللت إلى الحديقة ومنها إلى دفء إسفلت الشارع ، من يراني يتوقع أن طبيعتي بدأت تميل صوب العناد ، لا ، في الحقيقة ، كنت أهرب من الرائحة المنبعثة من الكلب والخنزير .
كنت يقظا ً ، منتبها ً لصوت أية سيارة قادمة ، متنعما ً بذلك الدفء ، ممعنا ً النظر إلى السماء البعيدة ، ومندهشا ً بالفراشات التي تملأ الحقل المجاور ، حلاوة الشمس وسقوط أشعتها دفعاني أن أغلق حواسي لثوانِ ، كم لذيذ أن نعيش لحظة الخدر هذه .
فجأة ً ، وما أن سمعت مكابح السيارة ، حتى انتبهت لما حدث ، وما قدر الله لي .
يا لها من لحظة ، رؤيتي للموت أفزعتني وأجحظت عيني ، التي فتحتها لأفهم ما يجري ، نظرت حولي مذهولا ً مما حدث ، فجأة ً رأيت كتب مدام فرجينيا ، وعلى اليسار التحف الفخارية المدهشة ، بعد جهد جهيد اكتشفت وتأكدت بأني لم ابرح الأريكة الحمراء .حينها أطمأن قلبي وعاد شعري المنفوش إلى سابق عهده ، وشكرت الله لأنه كتب لي عمرا ً جديدا ً .
رأيت سيدتي فرجينيا تدخل الصالة ، من دون أن تعرف أو تتوقع بأني ما أن قفزت عن الإسفلت حتى قذفت في تلك الساقية ، وتلوث فرائي بالمياه الأسنة والأعشاب ، ولكن كيف لي أن أشرح لها بأني قد مت ورجعت إلى الحياة .
ولجت سيدتي صالة الضيوف ، بدأت تتأمل العصافير مرددة ً ما قال بودلير ، بعدها أومأت لي بصحن السيراميك وهي تقول :
ـ تعال يا حبيبي ، علبه السردين لك
وصمتت ، ثم أردفت وهي تضحك
ـ همنغواي ، السمك يقوي الذاكرة يا عزيزي .

28 /7 /2013



نقلا عن موقع الحوار المتمدن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى