أدب السجون علي الجريري - الأغنية الشعبية نموذجاً "من نوح إبراهيم ومعين بسيسو إلى راجح السلفيتي"

الأمر سيّان في ما يخصّ مواضيع أدب السجون وأجناسه، من الرسائل المُكثّفة والمُختصرة ذات الرمزية والدلالات الخاصة جداً، مروراً بالأغاني والأهازيج، وحتى الأعمال الروائية.

مُصطلح أدب السجون:

الشق الأول من المُصطلح يكاد يكون الأمر متفق عليه، ما هو الأدب وأصنافه وأجناسه ودروبه ، ودواعيه ومحاسنه وعيوبه وما إلى ذلك، وأما ما يخصّ المضاف إليه "السجون "فمكان الاعتقال من الناحية الظرفية، محدّد ومتّفق عليه، بما في ذلك السجن البيتي في ما يعرف في اللغة العبرية "معتسار بيت מעצר בית " غير أن الاتفاق على التفاصيل والمحدّدات، يثير قضية جدلية تماماً مثل الخلاف على مُصطلح المقاومة والإرهاب، وترك الباب على غاربيه على المستويين العالمي " الأمم المتحدة "والمحلي.

كما هي الحال في تحديد كاتب أدب السجون، هل هو السجين الذي أبدع أدباً، أم شعراء المقاومة الذين انتصروا للمُعتقلين ونصروهم بألسنتهم، أم هؤلاء وهؤلاء.

والأمر سيّان في ما يخصّ مواضيع أدب السجون وأجناسه، من الرسائل المُكثّفة والمُختصرة ذات الرمزية والدلالات الخاصة جداً ،مروراً بالأغاني والأهازيج، وحتى الأعمال الروائية .

وعليه تعتبر قصائد أبو فراس الحمداني في سجنه، وكذا قصائد الحُطيئة في سجنه، من أقدم ما عُرف من أدب السجون عند العرب، في وقت لم يكن ظهرت فيه هذه التصنيفات، كأدب الطفل وأدب المرأة، وأدب السجون، ونحو ذلك.

ولا يكاد بلد واحد من بلدان العالم مر باحتلال أو قضية رأي، إلا وقد شهد لوناً من هذا الأدب، غير أن فلسطين والشعب الفلسطيني تميّز عن باقي شعوب الأرض بأطول احتلال مُعاصر، يجد ضالته في دفاع دول متقدّمة، عنه وعن ممارساته القمعية ضد أسرى الحرية في سجون الاحتلال. ولا تزال تلك الدول تكيل بمكيالين. علاوة على أنظمة تدّعي الإسلام والعروبة، تلهث للتطبيع مع كيان العدو المحتل وتصفه بالصديق والحليف.

وفي رأيي إن اخلاقيات التعامل مع المعتقلين، وحقوقهم التي تحدّثت عنها مواثيق أممية، تدخل في سياق أدب السجون.

هذا الكم الهائل من المسائل الجدلية حول أدب السجون يجعل الكاتب الناقد في زحمة من الاختيار من أين يبدأ تناول أدب السجون.

تماماً كمسألة زحمة الاختيار حين تبدأ بالكتابة عن أدب الأطفال، والذين منهم أسرى ومعتقلين في سجون الاحتلال.

ومثلما تتنوّع القصيدة العتيقة في موضوعاتها بات يتنوّع أدب السجون في إحداثياته والانتقال من السجن الخاص إلى العام ومن السجين الإنسان إلى الأسيرة المدينة كمدينة القدس.

وواضح أن بيت الشعر المشهود لأبي فراس الحمداني "رب واه معتصماه انطلقت "تقدونا إلى قدم ما نسميه اليوم أدب السجون.

ولا أجده ينفصل عن تصنيفات أدبية أخرى تفرضها طبيعة الشعوب المقاومة ضد احتلالها وعبوديتها واضطهادها، في ما يُسمّى بـ" أدب المقاومة"بل إن أدب السجون من أبرز معالمه إنه مقاوم بامتياز. وإذا ما بقي الجدل على حاله من مثل هذه القضايا؛ ما انتهينا ولن ننتهي منها؛ لهذا تعالوا نتناول معالم وقضايا وموضوعات أدب السجون في فلسطين ومنها:

الأغنية الشعبية المقاومة في أدب السجون.

لعبت الأغنية الشعبية وتلعب دوراً هاماً ومتقدماً في إذكاء روح اليقظة والحمية بين الأسرى والمعتقلين، وتسلّحهم بالعزيمة والهمّة والقوة على تحمّل آلام التعذيب والاعتقال، وحرمانهم من الأهل والحياة بأبسط أشكالها، ولم تحظ الأغنية الشعبية على أهمية دورها بالتوثيق والدراسة والاهتمام في هذا السياق كباقي الأجناس الأدبية، ومن أبرز كتّابها وروّادها الشاعر الشعبي نوح إبراهيم [1] في رائعته التي أبّن ورثى فيها الشهداء الثلاثة؛ بعد إعدامهم على يد الانتداب الإنكليزي وهم: محمّد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير في سجن عكا في مدينة عكا بتاريخ 17 حزيران عام 1930 في أعقاب مشاركتهم في ثورة البراق. وقد عُرف ذلك اليوم بعدها باسم "الثلاثاء الحمراء" لبطولة الشهداء الثلاثة في مواجهة الموت، وكان فؤاد حجازي ومحمّد جمجوم خرّيجين من الجامعة الأميركية في بيروت، وعطا الزير كان عاملاً، وقد ترك الثلاثة خلفهم ثلاث رسائل رائعة تدعو للاحتفال بشهادتهم كتبوها قبل الصعود إلى حبل المشنقة وقد تسابقوا إليه. بعزٍ وفخار وحملت القصيدة الغنائية إسمها من مطلعها "من سجن عكا"، ومطلعها هو:

من سجن عكا طلعت جنازة محمّد جمجوم وفؤاد حجازي
كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت // أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد
وصاروا مثل يا خال وصاروا مثل يا خال // طول وعرض لبلاد…
يا عين // ا نهوا ظلام السجن يا أرض كرمالك
يا أرض يوم تندهي بتبين رجالك // يوم الثلاثا وثلاثة يا أرض ناطرينك
من اللي يسبق يقدّم روحه من شأنك // يا عين يا عين يا عين .....….
***
من سجن عكا طلعت جنازة / محمّد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي / المندوب السامي وربعه عموما
محمّد جمجوم ومع عطا الزير / فؤاد حجازي عزّ الدخيرة
أنظر المقدم والتقاديري / بحْكام الظالم تيعدمونا
ويقول محمّد أن أولكم / خوفي يا عطا أشرب حصرتكم
ويقول حجازي أنا أولكم / ما نهاب الردى ولا المنونا
أمي الحنونة بالصوت تنادي / ضاقت عليها كل البلادي
نادوا فؤاد مهجة فؤادِي / قبل نتفرّق تيودعونا
بنده ع عطا من وراء البابِ / أختو تستنظر منو الجوابِ
عطا يا عطا زين الشبابِ / تهجم عالعسكر ولا يهابونَ
خيي يا يوسف وصاتك أمي / أوعي يا أختي بعدي تنهمي
لأجل هالوطن ضحيّت بدمي / كُلو لعيونك يا فلسطينا
ثلاثة ماتوا موت الأسودِ / جودي يا أمه بالعطاجودي
علشان هالوطن بالروح نجودي / كرمال حريتو ما يعلقونا
نادى المنادي يا ناس إضرابِ / يوم الثلاثة شنق الشبابِ
أهل الشجاعة عطا وفؤادِ / ما يهابوا الردى ولا المنونا

ولا تزال تردد إلى اليوم، لإذكاء روح الحمية والاستشهاد، والصبر وتحمل ظروف الاعتقال بين آلاف المعتقلين الفلسطينيين في زنازين وسجون الاحتلال الصهيوني، كما استلهم منها الشعراء والزجّالون في ما بعد قصائد وأغان ثورية
إلى جانب ذلك نظم قصائد أخرى ومنها:

الله محي المعتقلين، نيالوا يللي تعذب، في سبيلك فلسطين وغيرها

وتحوّل أغلب شعره وقصائده إلى أغانٍ شعبية وهتافات على أفواهِ الناس في المسيرات والتظاهرات، وبعض أغانيهِ ما زالت متداولة حتى اليوم

سار الشاعر معين بسيسو[2] على دربه فنظم مجموعة رائعة من قصائد وأغاني وأناشيد السجن مازجاً بين الأغنية الشعبية والقصيدة العمودية / وأبرزها قصيدة الأم ولعله كتبها لأمه يوم كان في السجن:

لك الجماهيرأبناء بلا عدد فلست وحدك يا أما بلا ولد
إن يغلقوا بيتنا الدامي فقد فتحوا لنا الزنازين بيتا شامخ الزرد
من خلف قضبانه نرمي الدماء على مكبلينا رصاصا من فم ويد
إنا جعلنا "طوابيه" منابرنا وفي "العنابر"حيث اصطف جيش غد
قد أقسمت هذه الأيدي وما كذبت بالشعب لم تنحرف عنه ولم تحد
بأن سترشح في أغلالنا لهباً حتى تحررنا من عيشنا النكد
من عيشك المر، يا أمي وهل سنة تمر من غير أن ننفى من البلد
من غير أن ينقعوا في القيد كل فم أبى يساوم في حق ومعتق
مشى الطريق ولم يرهب وعورتها وليس غير أيادي الشعب من سند
أمامه كل من لم يلق رايته وخلفه كل منهار ومرتعد
هو الكفاح فخطي يا مطارقه بقيد مضطهد تاريخ مضطهد
إن يمنعوا نشره فلتطبيعه على نور الدماء وفي حقد وفي جلدوعند أسماء من عاشو الكفاح وهم مطاردون بلا أسماء فاتئدي
وقبلي أحرفا قد رسخت قدماً للشعب كالجذر كالشريان في الجسد
خطت تقاليد شعب عاش مجرمه رغم المشانق والإرهاب في سهد
محاصر بالدم المسفوح قد زحفت سيوله فتطلع ليس من مدد
هي الحقيقة يا أماه تدفئنا بغيرها القلب لم يدفأ ويتقد
لن يخدع الشعب من لو فتشت يده سوى مفاتيح سجن الشعب لم تجد أماه إن عاد أبطال الكفاح على موج الكفاح الذي يعلو ولم نعد
ويسأل الشارع الولهان: أين مضو ما بين مختطف ليلاً ومفتقد
أماه مهما احتواني القيد منفرداً فإنني بنضالي غير منفرد
إن كان قلبي خفاقاً إلى أمد قلب الجماهير خفاقا بلا أمد
براية الشعب يكسوك الرفاق إذا عريت فامشي بثوب بالدماء ندي
وان يعضك ناب الجوع مفترسا فقد عجنا رغيفا من ضياء غد
من لم تودع بنيها بابتسامتها إلى الزنازين لم تحبل ولم تلد

ولا يجد الناقد صعوبة في اكتشاف حقيقة هذا الشاعروهويته الثورية وقد جمع فيها كل أشكال القمع والظلم والمعاناة ، فلم يستسلم لها وظل عنيداً ثائراً مقاوماً فكراً وكلمة حيث معاناة شعبه وتحديه للمحتلين وسجونه التي تخرج منها أكثر ثورية وصلابة، يقول في قصيدته "ثلاثة جدران لحجرة التعذيب"، واصفاً حياة السجون.

عند طلوع الفجر
سأقاومْ...
ما زالَ في الجدارِ صفحةٌ بيضاء
ولم تذبْ أصابعُ الكفينِ بعدُ...
هناكَ من يدَقْ
برقيةٌ عبر الجدارْ
قدْ أصبحتْ أسلاكُنا عروقُنا
عروقُ هذه الجدرانْ...
دماؤنا تصبُّ كلُّه
تصبُّ في عروقِ هذه الجدرانْ...
برقيةٌ عبرَ الجدارْ
قد أغلقوا زنزانةً جديدهْ
قد قتلوا سجينْ...
قد فَتَحوا زنزانةً ج
قد أحضروا سجينْ...

تغلب على قصائد معين حالة السجن، فيذكرها في أكثر من قصيدة، وكأنها تشكل له هاجساً، إلا إنه في قصيدة"تحدي"يذكر السجن ولكن بطريقة عنفوانية، إذ يتحدّى جلاده ومقيده، طالباً منه الاستمرار في هذا العمل الإجرامي في حبسه وتعذيبه، لأنه غير آبه بكل أفعاله، فهو ابن الثورة وابن الشعب الذي لا يستطيع أحد أن يقوضه ويهزمه

أنا لا أخاف من السّلاسل فاربطوني بالسلاسل
من عاش في أرض الزلازل لا يخاف من الزلازل
لمن المشانق تنصبون لمن تشدوّن المفاصل
لن تطفئوا مهما نفختم في الدّجى هذي المشاعل
الشعب أوقدها وسار بها قوافل في قوافل

في قصيدة "صليل الحبال"، يشدّد أن السجون مدارس الأبطال والثوار معلناً أن من خلف جدرانها تولد ثورة ورجال

أخي من خلال حبال السياط ومن حلقات القيود الثقال
تطلّع إلى وطن الكادحين وقد شنقوه بسود الحبال
ولفّوه بالخرق الباليات وألقوه في ظلمات الحفر
وهالوا عليه التراب الكثيف كأن لم يكن في ربيع العمر
أخي من خلال الجدار الكئيب ومن فجوات الدّجى والحطام
تطلّع إلى الأعين الغائرات وقد علقّت بسقوف الخيام
هنا يمضغ الجائعون التراب هنا يعصر الظامئون الحجر
هنا تكتسي بالظلام العراة أخي من هنا سوف يمشي الشرر

ولا زلت أذكر كيف كانت حناجرنا تصدح بالغناء بترديد رائعته " الطريق الى الزنزانة " و جنود الاحتلال يقودننا إلى سجن النقب في أعقاب الانتقاضة الأولى عام 1989

نعم لن نموت ولكنَنا // سنقتلع الموت من أرضنا
هناك هناك بعيداً بعيد // سيحملني يا رفيقي الجنود
سيلقون بي في ظلام رهيب // سيلقون بي في جحيم القيود
لقد فتشوا غرفتي يا رفيق // فما وجدوا غير بعض الكتب
وأكوام عضم همو إخوتي // يئنون ما بين أم وأب
لقد أيقظوهم بركلاتهم // لقد أشعلوا في العيون الغضب
أنا الآن بين جنود الطغاة // أنا الآن أُسحب للمعتقل
وما زال وجه أبي ماثلاً // أمامي يُسلَحني بالأمل
وأمي تئن أنيناً طويلاً // ومن حولها إخوتي يصرخون
ومن حولها بعض جاراتها // وكل لها ولد في السجون
ولكنني رغم بطش الجنود // رفعت يداً أثقلتها القيود
وصحت بهم أنني عائد // بجيش الرفاق بجيش الرعود
هناك أرى عاملاً في الطريق // أرى قائد الثورة المنتصر
يلوّح لي بيد من حديد // وأخرى تطاير منها الشرر
أنا الآن بين مئات الرفاق // أضيف لقبضاتهم قبضتي
أنا الآن أشعر أني قوي // وأني سأهزم زنزانتي
نعم لن نموت نعم سوف نحيا // ولو أكل القيد من عظمنا
ولو مزقتنا سياط الطغاة // ولو أشعلوا النار في جسمنا
نعم لن نموت ولكننا // سنقتلع الموت من أرضنا
نعم لن نموت ولكننا // سنقتلع القمع من أرضنا

واعتقد أن نشيد نعم يا حماة الديار قيلت على لحنها وتفعيلتها ووزونها

أما ثالثة الأثافي قي الاغنية الشعبية الفلسطينبية في أدب السجون والذي أكمل درب نوح إبراهيم ومعين بسيسو فكان الشاعر الشعبي العظيم الراحل راجح السلفيتي [3] الذي رافقته في سجون الاحتلال أكثر من مرة وميزته أنه تلقائي في أبرز روائعة أغنيته الرائعة المخصّصة لأم السجين وزوجته وأخته وهي بعنوان " تعلمي سر النصال "

تعلمي سر النضال تعلمي // واصبري على المر ولا تتألمي // تعلمي سر النصال وأوعي من البكا //

ليلقولي رفيقة هالدرب // قلبها اشتكا // السجين كتب وصية وعنك حكى // تخوضي المعارك // وما تستسلمي

أذكر يوماً كنا عائدين من زيارة الأهل خلف القضبان إلى غرف الاعتقال وإذا براجح يرى الدمع في عيون صديقنا فرحان ابو الليل من نابلس ، فسأله وما يبكيك يا أخي فرحان، قال له رزقت بولد ولم أره، قال الراجح وما أسميته ، قال توفيق ، على الفور وقف الراجح وسط غرفة الاعتقال وكانت تكتظ بالسجناء أكثر من 36 أسيراً وارتجل يغني وكلنا نردد خلفه

سجّل يا قسم التحقيق // الإسم الكامل والعنوان // إجا للثورة شبل جديد // واسمه توفيق الفرحان

وتحوّل الاحتفال إلى تظاهرة داخل السجن دفعت قوات الاحتلال إلى اقتحام المعتقل والبطش بنا رغم إننا بقينا نردد هذه الأهزوجة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى