الطيب عبدالسلام - انطفاءة ظل..

* الى ح. ز. وهو يحترق في اتون المنافي:

«ها هو الجسيد يرفع الروح لصلاة الميلاد الثاني من الرحم الاول.. وها هي شهقاتك المكتظة بالاندهاش تعلو فوق عينيك لتشكل ضبابا من الموسيقى النورانية التي انبعثت من «حلقوم» نوبة كاد يبح من طول الدوران حول الذات.
والدك صحراوي القسمات يسهب في ارتحالك عن ظهره لتحملك السرة بت عبدالمحمود كمشروع لشئ جديد في كمه قديم في نوعه.. وها هي عيناك تورقان بانعكاس ظلال الملائكة عليهما وهم يستعدون لتسليمك الامانة.. التي لم يشاوروك في امرها .. كما ظللت تقول طيلة فترة مكوثك الانقطاعي في غار الجسد .. بل ولا زالت صرخات امك تدر اللبن من ضرع التبلدي الشامخ شموخ الطلح في ليلة عرس..!!
ولا زال الشيخ «الحزين ود الليل» يحلب المطر من بقر السحاب في ذات صلاة للاستسقاء لينبت قوس قزح في الافق.. ولا زلت تذكر جيدا ذلك اليوم الذي سألت فيه الشيخ الحزين عن تلك الالوان فقال لك بعد ان ابتسم ابتسامة سرية« ان هذه الألوان هي ملابس الملائكة التي علقوها فوق الافق لتجف» وحينما سألته باستغراب عن الملائكة،
نظر إليك نظرة عميقة ثم ابتسم ابتسامة غامضة قال لك بعدها: إنهم كائنات لا تعرف التمرد، ايها الثرثاري وها هي الطورية الصدئة التي ورثتها عن نفسك تحاول النهوض لوحدها.. . فخصوبة الارض اغوتها وكادت «تحندكها» لتنهض بمفردها وتودع الارض البكر بذرة الوجود الكوني..
ولولا انك هربت من وجه القدر المشؤوم لكنت فعلتها وانتصرت... لأرضك ولنفسك وللنيل المجلود بسيطان الحراز..
ابوك قال يوم ان رأى دمعتك تلك «تتدردق» من شرفة وجهك الأعلى: «ليتها الاخيرة يا آدم» وفي رواية اخرى منسوبة الى «اب ضلين» درويش الصحراء انه قال: «ها هي اولى طلائع الجيل المنهزم بدأت في الظهور» قالها وذهب في ذات ليلة اشد اقمرارا من يوم الاكتمال.. يوم ان عطس والدك روحه من دون اي سبب وهو يحاول الصلاة .. كنت انت محور الاشياء ومصدر دورانها فلا عجب ان اصابك دوار الذكرى وبدأت تنظر الى ذات الاشياء التي شاهدتها من ذي قبل.. يوم ان حسبوك مجنونا حينما صارحت عمك قائلا بأنك رأيت هذه الانفعالات من ذي قبل لكنك افلت بوصلة المكان والزمان وتهت في بحار الغيب حتى غرقت في سراب الارض.
ذهب والدك تاركا لك عمامته المرقعة بسعف النخيل والمعتقة برائحة عرقه ذي النكهة الاحتضانية بينما صكت عائشة بت نورين اسنانها قائلك: «الكلام تمشي وتجي يدك فاضية»... لحظتها نظرت الى وجهها بانكسار شابه الكثير من الاستحقار ثم قلت بعد صمتة طويلة خرقتها امك بدمعة يتيمة قالت لك بعدها: «إنها آخر دمعة نسيت ان تذرفها يوم ميلادك.. لقد حبستها تيمنا بآخر قطرة شعاع تذرفها السماء وهي تدخل ضريح المغيب»... ولولا انك قبلتها قبلة لاطمة لا بكت جميع الواقفين جوار المحطة ذات الشاهد التوضيحي لغموض المسافة وتضارب الاضداد والأقدار.
بل ولا زالت لطمة العمدة الوطنية تحمر على خدك كلما حاولت ان تمسحها بكفك المخضرة من شدة الاحمرار... بالتناغم مع ركلات العسكر البندري وهي تكهربك حتى الاضاءة.
صراخك المتوجع بين أيديهم الشوكية.. لازال عالقا في مسامع الغيب الذي تجاهلك يومها بكل برود. بل ولا زال السؤال الملح المالح يمارس مرارة الرؤيا على وعيك.. يوم ان ضبطك احد ابناء العمدة وانت توزع المناشير على المزارعية حتى يطالبوا بعدم تصفية المشروع وبيع حواشاته القمحية قندولا قندولا. والمطالبة برفع الاجور لمواجهة استعار الاسعار بعد حملة السعر الاحتكارية الناتجة عن بعض الانفلاتات الانقلابية لأمزجة التجار «هل كان من الواجب ان تهرب منهزما الى اللامكان الكائن على مرمى جبل من المخيلة مجرجرا ظلك السرابي وتاريخك المنسي.. ومعبأ حتى اخمص وعيك بالانكسار؟!
لم يدر المزارعون المصدومون أيهما يصدقون.. عقولهم ام صيحات العمدة العالية وهو يهتف بهم «إنه .. افاك يريد ان يوقع الفتنة بيننا»؟!
اختطفوه من امام بيته وهو يخرج لأداء صلاة الصبح... وعذبوه حتى اعترف .. بانتمائه المشبوه الى ارضه . كان يصرخ بحدة حينما كانوا يضعون الحجارة الثقيلة على بطنه قائلا: «وطن وطن .. وطن وطن».. بعد ايام اعتقوه من الجحيم وجعلوه يكفر بكل شئ... بغناء ساقيته المختلط مع نهيق حماره الفحل «اب كرنكي» حماره الذي كان يؤجره لبيوت الفريق ليعشر اتنهن..
ببرمة «النوارة» التي كانت تسقيها إياه اشد ساعات العوز الروحي وامرها على الاطلاق... وغنائها الموسيقى المخضب بحنة حزن عميقة.. اشد سوادا من اعمق ثقب في قميص الوعي.
همهمت في صمت ثم قلت «ليت النوارة ترحل معي»..
لكن النوارة كما قالت لك ذات مرة إنها مثل السمكة لا تطيق العيش خارج بلدها السرابية ابدا.. وإلا انها سوف تنطفئ كما تنطفئ شمعة يتيمة في عيد موت لأحدهم.. وهي تمسد شعرك المعجون بالطين وتنيمك... لتصحو في مكان يتحرك فيه وعيك بكل حرية وجراءة..
كفر آدم بكل ذلك...
لكن اشد ماعز عليه ان يكفر به هو تسبيح عمه لمبة وقد فتكت به البرمة فصلى باتجاه الغرب بعد ان فاجأه خجل الشمس من تعري القمر الشبقان لها.. وظنها القيامة..
وها انت تضحك على نفسك من جديد وانت ترى قيامتك تقوم قافزة فوق العلامات الصغرى والكبرى والوسطى والرضيعة.. وها هي عيناك تتسلقان قيزان الرمل وتخترقان حاجز الصمت لتهمسا في اذن القمر.. فكل المسافرين معك يحملون ملامحك وإحداثيات انفاسك.. لا تنصدم حينما تجد ان الزول الجالس بجوارك هو انت لكن في سن اكثر حداثة.
فلف صدرك بغطاء نيكوتيني دافئ يقيك برد الروح وارتجافها في شرنقة الجسد المتهالكة لفها حول صدرك.. ووعيك حتى تفرغ كل انفاسك الثائرة التي حنطتها في رئتيك منذ الازل.. وهز اليك بجزع شوق لترى ارتسام ظلك الحديدي على جدران السراب..
بعد ايام لفظك الكائن الحديدي وسط صحراء اشد اتساعا مما رأيته في الخريطة..
نظرت الى نفسك من الاعلى فوجدتها كحبة رمل ضئيلة قد تاهت عن «قوزها» الام وتشردت ما بين التجمعات الرملية وتكتلاتها..
غريبا في صحراء لا تحفل بالغرباء..... بل وتنزع منهم حرية الرؤية فيها.. فلكم هبت عليك نفراتها واقتحمت عليك عينيك ومزقت شريط الرؤية فيهما.. ولكم ابتلعتك دواماتها ورقصت معك رغما رقصة احتفائية باستقبال كائن يتنفس غيرها.. وغير هذا الصبار المسلح.
حينما رآك الصبار ظنك كومة رملية تتحرك عكس الرياح، وهمهم قائلا: «يا رب المطر .. قنا من شر كائناتك الغريبة هذه...» غير انك ابتسمت ثم مسحت على ريشه الناعم بيدك الصبارية وواصلت احتراقك في اتون هذه الصحراء اللامتناهية.. وحينما كان الصمت الصامت يتعبك كنت تستريح تحت شجرة حراز عصية على دية المطر حينما يغرق البراح.. حرازة حملتها معك فوق ظهر مخيلتك اللامتناهية .. حينما كان يتسربلك الليل.. كنت ترى من على البعد نارا فتبتسم ثم تقول لنفسك ضاحكا: انا لست نبيا لاقتبس منها جذوة.. ولا حتى مختارا لأن يناجيني الله على الرغم من هذا الصمت الشاحب الحزين.. لكنك كنت تطمع ان يناجيك.. ان يبتسم لك ويخفف عنك وزر التشظي في هذه الفراغات اللعينة.
حينما كان يوغل الليل في نفسه كنت تسمع صوت الصحراء وهي تراود نفسها عن نفسها.. وحينما يغرق القمر في سراب الأفق كنت تشعل من قوتك سيجارة تسامرها ريثما تضمحل عيناك في وحل الموت المرحلي.
حينما نظرت الى الخريطة نظرة مستفسرة ومستعجلة ادركت ان الصحراء سوف تمتد ليومين آخرين.. وبعدها سوف تدخل العالم الجديد العالم الذي لا تعني المدينة الفاضلة فيه سوى مرحلة تم تخطيها منذ قرون.. في آخر ايامك في الصحراء عثرت على صدفة غارقة في الرمال.. نفضت الغبار عنها وانصت اليها.. ولكم اندهشت حينما سمعت نشيد البحر الوطني لا يزال عالقا في حنجرتها على الرغم من ان البحر قد هاجر بعيدا من دون ان يصطحبها معه..
وتركها منهمكة في هذيانها السرمدي عن حكايات البحر الملحمية التي عاشتها في طياته.. ابقيتها بالقرب من اذنيك.. اللتين صدئتا من طول الصمت. ثم وضعت يديك على رئتيك... بلهفة وخوف.. ولكم صدمت حينما شعرت بهواء النيل لا يزال مصطبخا في داخلها.. وبكيت يا آدم .. بكيت يا آدم .. بكيت يا آدم ..حتى امتلأت الصدفة بدموعك.. وحتى اختفى السراب الموهوم من امامك.
وقد بدأت تشعر ان هذيان الصحراء وشوقها الاسطوري الى البحر قد ولد لديها جنونا بلون البحر فابتدعت السراب كتذكار للبحر .. لكنها ما لبثت ان امنت انه البحر فعبدته.
وهنا توقفت الخريطة عن الحديث وصرت على مرمى يوم واحد من الارض الجديدة التي سوف تبرئ كل آلامك وجراحاتك الوطنية.
وحينما اقتربت من الشريط الحدودي وتبقت لك خطوة واحدة من الارض الجديدة .. نظرت نظرة حالكة الى الوطن واخرى مشرقة الى البلاد الجديدة التي بدأت اضواؤها في مراودتك عن وعيك. رأيت المدائن كلها متشحة ببياض انساني معماري ساحر... رأيت فردوسك الذي سوف تعيش فيه مكرما معززا، تبقت بينك وبين الحياة الحقيقية خطوة واحدة.. ضحكت بسرور . وكدت تخطو خطوتك الاخيرة لولا انك سمعت الصدفة تصرخ بك بكل ما اوتيت من شوق الى البحر..
«لا تعبر . الارض يا آدم .. الارض تناديك»..
تجاذبتك نوبات الحنين ما بين إغراء البلاد الجديدة وقسوة الوطن.. اغمضت عينيك ثم اتخذت قرارك المصيري... بيد انك ما كدت تخطو حتى سمعتهم يصرخون بك: توقف.. توقف.. دي منطقة حدودية ... لكنك لم تكترث بصيحاتهم ونباحهم المسعور ذاك... وواصلت مسيرتك الملحمية.
لحظتها تغيرت نغمة اصواتهم الى «نغمة كلاشنكوفية» اشد نباحا وحقدا اقتحمتك رصاصاتهم تلك بقسوة..
لكنك لم تسقط.. واصلت مشيك، حتى اسندت جسدك الى احد الصبارات الصابرات.. وبدأت في رؤية شريط ذكرياتك.. ميلادك الاسطوري من رحم تبلدية مؤمنة.. حبوك المحابي للنهوض ، صباك الصابي عن ملة الصبيان في عمرك وانت تبحث في الوجوه والاوراق عن و جهها السماوي.... هذيان عمك لمبة الموتور وهو يقول.. (الولد ده مازي اخوانو.. ولا زي رفقاتو.. (بينما أنت تضحك فخورا بهذه الكلمات الثمينة والسمينة في آن..
بينما كان الدم ينز من كل خلايا جسدك.. وقد وقفوا خلفك بهيئتهم الشيطانية.. مفتوحي الافواه مكشري الأنياب..
بينما كانت انفاسك الحزينة تتصاعد بوتيرة متنازلة .. ولكم اندهشوا.. حينما رأوك تقف مادا يديك.. كأنك تستعد لترفع الى صليب سرابي مغروس في الأفق ...
رأوا جسدك يرتفع مسافة سبع نظرات.. ثم يشخص نحو الأعلى.. ويخرج من جلبابه جسم نوراني شفيف له كل ملامحك الحرازية المتماسكة وكل ملامح الارض التي نبت منها..
خرج مرتديا جلابيتك البيضاء الناصعة، وعمتك التاجية، وسبحتك (اللالوبية) الخاشعة.. وحاملا ابريقك الفخاري المضيء من تلقاء نفسه.. وكيس «سعوطك»الياسميني الرائحة...
رأوه ينفض غبار الصحراء المتراكم فوق زواياك واركانك ثم يرسم ابتسامة مائية بالحبر السري على شفتيك اليابستين.. وينظر الى قاتليه نظرة ملائكية بريئة، ويبدأ في معراجه السرمدي نحو الغيب المطلق.
رأيت حبيبتك (الغيبية) تمشط شعرها لتدخل عليها عريسا ملحميا.. رأيت امك تنهض في تلك الليلة مفزوعة مضطربة وقد شخصت نظراتها نحو الحائط الجالوصي وهي ترى ظلك يتسلل منه دامعا.. ثم يدخل غرفتك ليطفئ قنديلك الذي لم يطفئه قط منذ رحيلك، لحظتها علت (كواريكها) حتى فاض النيل على ارضك البكر لينبت منها آدم جديد بنفس تفاصيلك المفصلة على مقاسك اللامتناهي.
ذهل العسكر حتى سقطت البنادق من أيديهم وهرب بعضهم خوفا من العقاب السماوي.
فلقد ظنوا لوهلة انهم قتلوا نبيا.. لا مجرد عظام بشرية يكسوها الجلد حتى لا تتداعى وتتساقط لكن احدا منهم ولا منكم... كان يعرف ان آدم قد قرر التوبة الى وطنه.

* القصة الفائزة بالجائزة الأولىفي مسابقة الطيب صالح للشباب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى