جمال الدين علي الحاج - صرخة فأر

قعر البئر سحيق; الظلام دخان أسود كثيف غطى جدران الصمت وصلت خيوطه لسقوف الأمل ; والجو كله خانق يحبس الأنفاس. بمعول يصم أذن الزمن القاسي و ويجفل سكينة الأرواح; أرواح الأسلاف; يحفر الفأر البائس قلب حلمه أو شبر قبره بموالة نملة لا تعرف الشفقة طريقها الى جسدها المنهك. ومع كل ضربة معول يخرج زفير من أنفه وحمحمة من صدره في تتابع ( زفرة وحمحمة). هنات وحمحمات.
هة..
ويحفر
هة...
ويحفر;
يفت عضد الصخور الرملية منذ طلوع الفجر وحتى سدول الليل; والزمن رئيس عمال لا يمضي لحال سبيله أبدا; يقف فوق رأسه متجهم الوجه و عابس وصامت وقاسي لا يرحم. القدر المتربص يحلق فوق الجميع يرقب بعين النسر; و يتحين فرصة مواتية. الفريسة بالأسفل تركض; صدرها يصدر الحمحمات وأنفها يرسل الزفرات; والعرق ينزف من جميع مسامات جسمها ; وكانت تنهب الأرض بيديها لا بقدميها بمعول صدئ كحذاء مهترئ يترك آثاره جروح وكدمات على جسم الصخور الرملية الأملس.
صديقه يقف بالأعلى فوق فوهة البئر كالواقف على شط الحياة; يمسك بيديه حبل الصداقة المتين المتدلي; وكأنه ينتظر غريق يلفظه البحر من جوفه حيا ومحملا بالياقوت واللؤلؤ والمرجان; والرجاء فسحة واسعة يلهو بها قلبه. الفأر بالأسفل مسك درب العرق اللامع; وركض بسرعته القصوى; وحفر بقوته الكبرى. والعرق دساس. والقدر المتربص مثل حية مجلجلة دفن نفسه في الرمل وترك ذيله يلمع مع انحناءة درب العرق ينتظر فأر سيئ الحظ يمر من هنا.
لقد عاش نصف عمره في المدينة كفأر مستقيم. يظل يحفر ويحفر ويحفر في شوارع المدينة الخراب ويعود آخر النهار الى جحره بالفتات. في السابق كان يحفر بطن الأرض ويخرج منه الخير الكثير. الأرض شاخت. مبايضها تكلّست; ورحمها أصابه العقم وما عادت فتية; تحمل وتلد وترضع مثل أول. وحين حزم أمره وقرر الارتحال للمدينة; وجد النار في مطابخ المدينة الطرفية هامدة; لذا ضل الطريق. ولما توغل للداخل; إلى حيث القصور الفخيمة والبنايات الشاهقة; تلك التي ظن أن النار تظل موقدة في مجامرها منذ طلوع الفجر وحتى حلول الظلام; هاله المنظر تماما. وجد أرضياتها مصقولة بقطع الباركيه و الرخام والسيراميك والبورسلان. وجد قطط سمان يسكنون تلك الفلل والقصور. وبرغم العداء التأريخي المستحكم بينه وبينهم; لم يتعرضوا له بأذى; واكتشف بعد مكوثه بفترة أن هذه القطط أصبحت مدجنة و ما عادت تستهويها رياضة اصطياد الفئران و نادرا ما يوقدون نارا في مطابخ بيوتهم. ماذا تفعل بلحم الفئران العفن؟ صارت تطلب الوجبات الجاهزة ( البيتزا والهوت دوغ والبيرجر والفراي جيكن). من أفخم المطاعم وأرقى الفنادق. والحساب ولد; والحساب مفتوح بجيب جبة الوطن اليتيم الفقير. والوطن وليد صغير يحفر;
رزقة...
قدره ...
قبره...
ويكفن أحلامه ويدفن عمره في قعر البئر السحيق.
القطط السمان أكلت حشايا وحوايا البلد ومصت مخها. ما عاد الدخان يتصاعد من مطابخ بيوت أهل الله الفقراء. أنين الصواني و صراخ القدور و اصطكاك حواف الكأسات الفارغة يقطع نياط القلوب و يفتت الأكباد ويحرق الأحشية.
الفأر الصغير ما زال يحفر درب العرق اللامع. وصديقه بالأعلى ممسك بحبل الصداقة المتين المتدلي; والقدر نسر محلق بالجو أو حية مجلجلة مدفونة بالرمل. هو هو القدر; متربص بالكل. الفأر يحفر درب العرق اللامع ويزفر ويحمحم.
هة...
هة...
هة....
والغبار كثيف وعابق; وأوصال الصخور الرملية تتساقط و حبات الرمل تتلوى تحت قدميه; وصرخات غبار تنطلق مكتومة ثم ما تلبث ترتفع بالجو; تصم الآذان وتقذئ العيون. الفأر لا يرحم عجها ولا تفتتها. ولا يلتفت لصرخات غبارها; يمضي حافرا طريقه أو قبره. يرفع رأسه لأعلى; سماء أحلامه صافية رائقة أمام عينيه; تخايله; تناغيه; تغازله; ببريقها و زينتها وبهرجتها.
يضرب رمل حظه; فتضحك الشياطين برأسه ويزم الرزق شفتيه وتتألم أيام الكد.
العرق يتصبب وحفيف أجنحة الذكرى يلوح أمام وجهه بعبق الماضي المنعش; فينسيه الهم ويلطف الأجواء. فأرة صغيرة ملساء رقيقة وناعمة; سكنت في جحر مجاور لجحره وصارت تحفر بأزميل العشق; فهدت أركان قلبه. ذات أصيل وهو منهمك بالعمل في محزن الدكان الوحيد بالحي; تناهى الى مسامعه صوت الفأر الضخم( الجقر الكبير). وكان عائدا للتو من أحدى الغزوات منفوش كأبي القنفذ. وكان من أؤلئك الفئران الضخمة التي حدثت لها طفرة جينية ذات ظلام; فانتفخت أوداجها وكروشها في ذات اللحظة. وحين حمى الوطيس; فرت من الغابة وبعضها فر قبل اندلاع الحرب بلحظات.
في العادة لا يقول الفأر الضخم هذا الكلام; انما كان يخبر من يسأله أنه قدم للمدينة في استراحة محارب سرعان ما يعود بعدها لمكانه في الثغور. قال الفأر الضخم لجليسه:
- عدت من الغابة فوجدت البيوت الكبيرة تسكنها القطط السمان; وبما أنه قد عقدنا صلحا للتو بعد العداء المستحكم; فقررت السكنى أسفل الكوبري.
- أي واحد تقصد.
- الكوبري الجديد. الا تستمع لنشرات الأخبار وتقرأ ما تقوله الصحف أبدا؟!
مسح شاربه وضحك بسخرية وقال: سوف أتزوج.
- ولكنك حسب علمي متزوج باثنين.
- وأما بنعمة ربك فحدث. البشر يقولون في المثل: البحر لا يرفض الزيادة.
- ومن هي العروس؟
لمع بريق من مكان خفي بعيني الفأر الضخم; وأصابت جفنه الأعلى رفة خفيفة ورعشة في سبيبات شاربه فوقفت لأعلى.
- فأرة صغيرة; ملساء وفاتنة لمحتها وأنا قادم; كانت خارجة من الجحر المقاصد لزاوية الدكان الغربية.
- وهل سوف تبني لها دارا جديدة هي الأخرى؟
ابتسم الفأر الضخم بسخرية وقال:
- طبعا مافي ذلك شك.
غمز بعينه وأضاف:
- فثمة سدود وكباري وبنايات كثيرة وكلها جديدة; تنتظر من يحفر أسفل منها و يسكن. لا تفهم حديثي خطأ ها.
بأذن وطواط سمع الفأر الصغير هذا الحوار وهو منهمك في عمله بداخل مخزن الدكان; فطار قلبه من الخوف ووقع تحت قدمي أمه.
- أمي أريدك أن أتزوج
- خير و بركة يا ولدي; ولكن من هي العروس؟
- الفأرة الصغيرة ابنة جارنا الجديد.
- أبشر بالخير; أمها صديقتي سأخبرها ولن تجد عريسا لبنتها أفضل منك.
قالت الأم وهبت واقفة منشرحة; فتدخرج الفأر كصدفة قذفت بها أمواج الفرح بالشط. تدحرج في الدروب المغبرة يكد دوم الرزق بأسنانه وقلبه مشع بالفرح. وفي سبيل توفير المهر لم يمانع تفتيت الصخر حتى لو كان في قعر بئر سحيق. ها هو يحفر درب العرق اللامع بعزيمة مسجون ينوي الفرار. الشيطان يضحك في رأسه : أحفر يا غبي. الآن هناك بالأعلى في المدينة وتحت الأضواء. الفأر الضخم يهيئ نفسه لالتهام وجبته الشهية. الفأرة الصغيرة الملساء. يحمم الفأر ويضرب العرق اللامع; يهاجمه بشراسة وحش مطعون; والصخور تتفتت والغبار يصرخ ويتلوى ; والقدر المحلق كنسر بالجو والمدفون كحية مجلجلة بالرمل; اجتمع في جسد واحد صار مخلوقا قدريا صخما.
والزفرات تتوالى والحمحمات ترتفع.. هة... هة...هة. وجنبات البئر تطقطق من الشروخ والصدوع. والفأر يحفر... ويحفر... ويحفر....
وفي اللحظة التي هوى فيها المعول شاقا رأس الحظ. رأس درب العرق اللامع وفالقا له الى فلقتين; لمعت أنوار الحفل في سماء المدينة و خر النسر من الجو وانقضّت الحية المجلجلة; فتداعت قصور الأحلام. وأطبق الصمت. صمت لا كالصمت.



جمال الدين علي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى