عدنان زاهر سرور الساداتي - ليلة أخرى لا تضير

Adnan.jpg

رائحة الشتاء المبكر تبعث الحزن وتثير الذكريات زاد من اوجها ذلك اليوم وحشة البيت الكبير. لم يكن المنزل العجوز مبنياً من الطين الأحمر ومطلياً من الخارج بالزبالة، لكنه ركب من خلايا بشرية ومطلياً بعرق الحياة، إذا قيل له كن سينبض بالحياة أو هكذا تهيأ له. العربة في الخارج محملة بما تيسر من "كرور" استطاع انتقاءه تقف مضجرة تحك عجلاتها في قلق تستعجل مغادرة المكان. صابر يتحرك مذهولاً وبلا هدف في أرجاء البيت يبحث عن شئ مجهول.

كانوا ثلاثتهم هو وأختاه يستديرون في خفة وجذل مرددين لتلك الأغنية التي التقطتها أسماعهم ذات مرة، إيقاعاً خفيفاً، راقصاً محبباً للنفس تلك الفرحة تلاشت عند سماعهم صياح وكمجرة أخوهم الأكبر ثم انهياله عليهم ضرباً بعصا التقطها من الأرض لم يفهموا إلا مؤخراً وعندما صاروا كبارا سبب نعتهم بعدم الأدب وغضب أخاهم الهستيري من ذلك الغناء البريء. كلمات الأغنية تبدأ "يا أستاذ بالقزاز" وذلك يعنى وصف المعلمين في ذلك الزمن بالسفه ومعاقرة الخمر وكان أخاهم أستاذاً جليلاً!!

الحديقة الصغيرة لم تعد كما هي، تهدلت أغصان أشجارها في هرم أما أرضها الخضراء قد أضحت خشنة كذقن "تيتل" سار في الأرض كثيرا، تتخلل خضرتها الباهتة نباتات شيطانية وتسكنها قطط لا مأوى لها.

أتت رائحة النيل مضمخة برائحة السمك، تلك النسمة تسمى بواسطة اهالى الحي "تنفس البحر" كم هي ملهمة تلك الرائحة !! رائحة الأزلية التي تبدأ من العدم وتسير إلى العدم .!!

يستطيع أن يميز من خلال تجاربه رائحة كل سمكة في تلك النسمة "هذه رائحة البلطي، تلك شهقة القراقير وهذه بوخة البياض".

تعلم صيد السمك بواسطة أخويه عندما كان صغيرا. مارسه عندما صار شاباً أدمنه حينما أضحى شيخاً. يستطيع من هزيز الصنارة أن يحدد نوع السمك الذي يأكل الطعم ثم كيفية التعامل معه وإخراجه من الماء. كم يحب أكل السمك، الصيادون هنا يقولون "أن كل ما يعيش في النيل صالح للأكل إلا مركب الصيد" النيل يمنحك الهدوء، راحة البال والقدرة على "مداقشة" الحياة ويعيد زاجة الأشياء. أخاديد الشاطئ بموجاته يعرفها ويحفظها عن ظهر قلب من أقاصي الجنوب وحتى أقاصي الشمال، حتى "صياع" النيل الذين لا ديار لهم صاروا جزءاً من حياته وهمومه .

وقفت هناك في منتصف الحوش الكبير بكل بهائها، نصف اله والنصف الآخر زهور بريه محملة بكل أشكال الحنان والشوق والشبق، نظرت إليهم في عجز وأسى وانسحبت في هدوء لم يكن يستطيع منعها من الذهاب ولم يكن يطيق فراقها، هل خطر ببالها يوما أن تلك الرحلة التي تحمل كل المعاني لا معنى لها؟!! تداخلت غرف البيت العجوز ببعضها خجلاً وكدراً.

صديقه الرافض لكل شئ صار إماماً لجامع الحي بعد أن كان وجودياً، لم تسعفه قدرته على مواصلة البحث فآثر الانسحاب. لم يرثى له ولم يعطف عليه.

مجد الذي يتناول كل الأشياء ببساطة قال له "لماذا تذهب؟ فما تزال في المدينة كثيرا من النساء يستحقن المضاجعة" امجد يعتقد أن الحياة رحلة مضاجعة لا تسوى كل ذلك العناء الذي يبذل فيها ولها. وقد يكون هنالك قدراً من الحقيقة في مقولته ولكنه يتغاضى عن أعوامه الخمسين.

الحوش الأمامي للبيت الكبير الذي شهد كثيرا من الجلسات الهامة "والقعدات" اصبح مربضاً لعربات متهالكة عنوان لمجد زال.

كم اهرقت في تلك المساحة زجاجات خمر، قتلت بحثاً قضايا لا تستحق جهد النزال، بنات عشقن وعشقن هنالك. تحرك نحو الباب الخارجي يتبعه صابر بنظرات تآمر صامت، أمر السائق بإنزال كل الكرور والذهاب. ولم يلتفت لدهشته. تجولا وصابر داخل الغرف فاتحين لكل النوافذ والأبواب الموصدة، ثم اخذا مقعدين وضعاها بين العربات الرابضة في الحوش واخرجا زجاجة خمر كان يدخرانها ليوم اسود. جلسا. صبا كأسين وتجرعاهما في مهل. فليلة أخرى في البيت الكبير لا تضير.

*sudan4allorg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى