خالد بابكر ابوعاقلة - 3 رجال وإمرأة

* ( مهداة لاحمد الملك )

عندما هبطت الفتاة التي اغتصبت قبل قليل في الانتنوف كانت تسير بهدوء في ردهات المطار ولا تشعر بأي ألم في جسدها الذي كاد الرجال الثلاثة أن يطحنوه كالدقيق في محاولاتهم العبثية أن يصنعوا لأنفسهم حياة جديدة ومشاعر أقل صلابة من التي كانوا يشعرون بها في بيوتهم مع زوجاتهم.. هبطت الفتاة سلم الطائرة المتهالكة وهي تحس أنها قد خرجت من ثقوب غربال نحاسي كالشعيرية وكان الرجال الثلاث يتابعونها بنظرات وجلة وعيون محمرة وقلوب مرتجفة .. فربما تحدثت مع العسكري الواقف هناك الذي كان يحدق في ( عباءتها ) الملساء ورياح الظهيرة الحارة الجافة تكاد تخلعها عن جسدها الفاتر الممتلئ وتعلو بها كأنها ( كيس ) خبز اصفر .. في اللحظة التي أرادت أن تكون هاجسا لهم إلى الأبد وأن تكون زوجة خيالية لكل منهم إلى أن يذهبوا إلى قبورهم بعد شهرين .. في اللحظة التي أرادت أن تختفي بكل الأحاسيس والأوجاع التي حقنوها بها .. التفتت بسرعة فرأوا خصلات شعرها الناعمة ثم حدقت في عيونهم الدامعة بنظرة احتقار وشماتة . ظنوا أنها ربما تكون بنتا لمسؤول كبير في الدولة .. لقد كانت فارعة الطول .. طويلة الساقين .. صدرها بارز من تحت العباءة ذات ( الزراير ) الفضية الكبيرة كأنه تل .. عندما دخلت الطائرة وقبل أن تجلس فتحت العباءة فرأوا خصرها النحيف وحوضها الواسع وأفخاذها الملفوفة وهي تلبس ( بنطلون ) من قماش ابيض ناعم فقالوا معا " إنها هي" وعندما اندفعت الطائرة في المدرج وحلقت في الفضاء كانوا يرتجفون من فداحة وآلام الانتظار . يريدون أن يصرخوا .. أن يهتاجوا .. أن يطلقوا عباراتهم العبثية التي يطلقونها في كل مرة يريدون فيها اغتصاب فتاة في غاية الجمال والفتنة .. كان كل الصيد بالفعل في جوف الفرا كما يقول المثل العربي .. وبعد نصف ساعة صاحوا معا كأنهم في جوقة موسيقية .. أربطوا الأحزمة يا شباب .. الطائرة في مطب هوائي .. لن يحدث شيء .. ولكننا في خطر كبير .. وعندما يسود الطائرة الرعب وتجحظ العيون وتختلط الأفكار وتبلغ القلوب الحناجر .. ينادون الفتاة بإشارة صغيرة يحاولون أن يجعلوها غير ذات معنى .. فتقوم إليهم مضطربة .. فاقدة التوازن ومستعدة للعطاء والإباحية في لحظات الحياة الأخيرة .. وتدخل معهم وهي خائفة المكان الذي يريدونه .. وكانت تفعل ما يقولون .. فتخلع ملابسها على عجل .. وتصبح كمجنون في الشارع العام .. هذه الخطة نجحت عدة مرات .. نجحت في رحلات كردفان ودارفور وبورتسودان .. ولكنها هذه المرة كانت ناجحة مئة في المئة لأن الفتاة لاحظت اهتمامهم الجنوني بها فقامت تتهادى وتتغنج وتتأرجح بكل ثقل جسدها وعنفوانها أمامهم وعندما كانت الطائرة الهالكة تعلو وتهبط خلعت الفتاة عباءتها وعلقتها في رف الطائرة وتبعتهم إلى حيث أرادوا وأشاروا ..
في المساء كانت الطائرة خالية تماما إلا من الثلاث فقال الأول أنا اشعر بالحمى وقال الثاني أنا اشعر بالتهاب في حلقي وقال الثالث قلبي .. بعد عدة أسابيع تدهورت حالتهم تماما وفقدوا أوزانهم وكانت أنظارهم زائغة يبدو عليها الخذلان والضعف والسجم فوقفوا أمام الطبيب في السلاح الطبي الذي سأل كل واحد منهم سؤالا واحدا .. هل لك علاقات خارج الزواج .. فكانت إجابتهم " كيف ذلك . أنا رجل متدين وأعرف الله " .. زرع لهم الدم .. وبقوا لأسابيع يحلمون بالبقر العجاف يخرج من البحر ويأكل البقر السمان وبالسنابل اليابسة الهشيم تقضي على السنابل الخضراء .. كان أحدهم يلبس ( العراقي ) والسروال ويأخذ ( الراديو ) ليجلس أمام الباب في المساء ليستمتع بهواء الليل وبأصوات الاذاعات البعيدة التي تأتي من سيبريا وجبال الألب وجبال الإنديز ويراقب صاحب ( اللبن ) في الظلام وهو يسرع بحماره ولبنه ( يجلبغ ) في ( التمن ) ثم ينظر الى السماء الخالية من الطائرات فتبدو له أجمل وهو يحس بكركرة بطنه وبالماء الذي شربه قبل قليل يسيل في سرواله وفخذيه .. كان يشعر بفداحة المصيبة القادمة .. أما الثاني فقد لزم بيته وأصبح لا يتحرك من فراشه فجلبت له زوجته ( القصرية ) ووضعتها في كرتونة تحت فراشه حتى لا يراها الضيوف وكان يشعر في كل ليلة أن البقرات العجاف لا تأكل البقرات السمان وإنما تأكل أحشاءه وكبده ورئته ويحس بالصديد ينزف من انفه وأذنيه ومحاجر عينيه ويحس بالدود الأبيض الشرس يتقلب في ذراعيه وفي ساقيه ويحس أنه ممدد في مكان ضيق مظلم صامت وأن هناك وقع أقدام هادئة تتمشى وتتنزه في مكان يقال له ( الجنة ) وأن الرجل الذي فتح له طاقة من نار ( السموم ) وحدثه عن جغرافية المكان قال له إن القيامة تبقى لها مليون سنة .. ولكنه فتح عينيه في ليلة ممطرة كانت من آخر لياليه ورأى زوجته تحمل القصرية وتغلق باب الغرفة وسمعها تخوض في ماء المطر .. أما الثالث وهو مشلخ الوجه قبيح الخلقة فقد عرف أهله مرضه الخبيث فرفضوا زيارته وأغلقوا عليه في غرفة بعيدة عن بقية الغرف وصاروا يدخلون له المأكول والمشروب بطاقة صغيرة حفرت خصيصا لهذا الغرض وصار الرجل في حجر صحي مشدد وحتى حينما أحضروا الشيخ ليغسله ويكفنه غسله بفرشة غسيل البلاط وجففه بالمكنسة البلاستيكية ورشه بالعطر من هاوية بعيدة ولكنهم حينما عبروا به شارع الظلط سمعوه يعطس وينادي على زوجته بأن تزيح عن وجهه هذا الغطاء .. كثير من الناس فروا رعبا من هذا الشبح الذي قام من موته .. ولكن بعض الناس كانوا مصرين على الذهاب به إلى قبره مهما كانت النتيجة خاصة عندما هدأ وقلت حركته .. لعل ذلك لسمعته السيئة ولتاريخه البشع .. من أحد الشوارع خرجت جنازة أخرى ثم تبعتها جنازة ثانية كان يتبعها جمع غفير من الناس كأنها جنازة وزير أو رئيس وصرح رجل قائلا هناك أكثر من خمسين جنازة في الطريق وسأله رجل آخر عجوز عما إذا كان هناك تسمم فقال الرجل كلا هناك مجزرة ثم تسرب خبر بأن انقلاب السادسة صباحا الذي دعمته تشكيلات عسكرية مدنية مازال يشق طريقه في القيادة العامة وأن بعض الجنود يجدون مقاومة أثناء التمشيط رغم أن البيان الأول قد أذيع منذ ساعتين .. عندما وصلت الجموع الغفيرة التي تحمل النعوش إلى أطراف المقبرة لاحظ بعضهم وجود امرأة زائغة النظرات تلبس عباءة ذات زراير فضية ولكن كل الذين اتجهت أنظارهم نحوها وهي واقفة في المدخل الشمالي اقشعرت أبدانهم من منظرها الكريه .. كانت عيناها محمرتين .. وصدرها ملتصقا بظهرها من شدة النحافة .. وكان من تحت ذاك الكفن مازال الرجل يصيح بأن يزيلوا الغطاء من وجهه وأنه لم يمت مثلما مات رفاقه .. إنه يريد أن يرى ولو جزءا بسيطا من الحقيقة العجفاء ذات الزراير التي تعامى عنها طوال سنوات سطوته وجبروته وهو يحلق فوق رؤوس الناس .. في التاسعة صباحا تم دفن جميع الجثث ولكن الجثة الأخيرة حاولت الهروب وانطلقت منها رائحة سيئة كرائحة مومياء قديمة معلنة أن موتها هذا ليس بموتها الأول ثم رجعت كل الجموع التي أتت من كل صوب .. من ود نباوي والعباسية و الملازمين والموردة و ابوروف ومن حي الشهداء وحي العرضة وحي العرب .. وبقيت المرأة وحيدة في المقبرة بعد أن حلت شعرها الأشعث ورمت العباءة القذرة فوق شاهد قبر قديم منذ الخمسينات تنتظر الرجل المشلخ البشع كي يزيح التراب ويخرج من قبره ويعلن توبته .. وبقيت في مكانها هكذا أبد الدهر إلى أن أعلنت حالة الطوارئ .. وأسدل الليل أستاره .. وشكلت حكومة انتقالية جديدة مناصفة بين المدنيين والثوار .. كانت أول قراراتها إقامة متحف للمومياءات المتحركة والميتة ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى