نزار حسين راشد - عالمان على أرضٍ صغيرة.. حكاية من فلسطين

" سبسطية " تلك البلدة، الّتي أتقاسمها فقط مع صديقي مُحمّد، حيث لا صديق لي غيره، والّتي لا يميّزها شيءٍ، سوى ذلك الموقع الأثري، الّذي تتعاقب عليه أفواج السيّاح، بين الفينة والفينة، والّذين كنّا نتسلّى أنا ومحمّد بالتفرُّج عليهم، والتعليق على تصرُّفاتهم،أو الضّحك عليها أحياناً، قاطعين بذلك ساعات الملل الممتدّة بين المدرسة والألعاب المكرّرة الّتي يلعبها الأولاد، برتابةٍ أبديّة دون تغييرٍ يُذكر!

في ذلك اليوم جاء فوجٌ سياحي، وكنت قد سبَقْت محمّداً إلى الموقع،كان بصحبتهم هذه المرّة طفلة شقراء جميلة، ذات عيون زرقاء، وكنت واقفاً أتأمّلها وهي تبتسم مرسلةً نظراتها باتّجاهي، حين اقتحم محمّد المشهد، وقف إلى جانبي، وهمس في أذني متحدّياً، فيما إذا كنت سأجرؤ على تقبيلها وأهرب، وأجبته بأنّ ذلك عيبٌ وحرام! ولكنّه غافلني واندفع فجأة إلى حيثُ تقف الطّفلة واختطف من وجنتها قُبلة وأطلق ساقيه للريح، لا يلوي على شيء!

لم تحدث كارثة، كما توقّعت، ولم يطارده أحد! ابتسم الدليل السياحي وابتسم الجميع، ثُمّ انتظموا في طابور، وصعدوا إلى الباص بنظام وهدوءٍ كالعادة! كنت أرنو نحو الباص، فلمحْتُ الطفلة وقد ألصَقَتْ وجهها بالزجاج ، ثُمّ رفعت راحة يدها ولوّحت لي بالوداع، فبادلتها التحيّة ،وتابعتُ الباص وهو ينحدر بطيئاً من تحت عيني، ثُمّ يتسارعُ مبتعداً ، ليختفي في البعيد، مُخلّفاً وراءه أثراً لذكرى، سوف تعلقُ بذاكرتي كبصمةٍ لا تمّحي، ورُبّما أحملها معي إلى آخر العمر!
..
بعد الغروب بقليل، جاء محمّد الشيخ، ورجاني ألّا أذكر شيئاً مما حدث، لأيّ شخص كان، مخافة أن يصل الخبر إلى أذن والده، وعندئذٍ سيسلخُ جلده أو يُعجّب عليه، كما قال!

وفي الحقيقة، فقد نكثتُ بوعدي مع محمّد ،ورويتُ ما حدث لوالدي، الّذي لم تُصبه صدمة كما توقّعت، واكتفى بالإبتسام، وعلّق بطريقة عابرة:

- الشيوخ يُخلّفون دائماً أنجاساً!

حكيت ذلك لمحمد فيما بعد، فقهقه ضاحكاً، وسرّه أن والدي لم ينقُل شيئاً مما حدث لأبيه، وترك الأمر يمُرُّ بسلام!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى