اسلام احمد منير - القبعة

في عهدٍ لم يصلنا بهِ التِلفاز ولم يعرفِ العالم بِماهيةِ الحواسِب الذكية…كانتِ المُتعُ التي تُثيرنا قليلة…
وفي مكانٍ يعرفُ الجميعَ فيهِ بعضَهُم لم تكن هُناك الكثيرُ من القِصص لِتروى…كانتِ الأشياءُ ثابتةً وعادية..وأشياءُ قليلةٌ فقط كانت تُمثل قِمةَ المباهِجِ عندَنا… العيدُ الكبير وحَولِيةِ المولد وقُدومِ عمِ حمدي…
عم حمدي وهو يزورُ بلدتنا يومَ الأحدِ الأول من كلِ شهر كان مهرجاناً في البلدة…كان رجلاً غريباً في كلِ شئ…في اليومِ الموعود نجتمع كلنا في الساحة الكبيرة ننتظر قُدومَه منذ صلاةِ العصر…لا يتخلفُ أحد…الأطفالُ يرقبون مدخلِ الساحة حتى يُطِل…والرجالُ الأكبرُ سنا يتظاهرون بأنهم يناقشون أمراً مُهما من أمور البلدة ولكنهم سِرا كانوا ينتظرون عم حمدي مِثلنا وعلى أحرِ من الجَمر…النساءُ الكبيراتُ يربضن بالجوار والصغيراتُ لا يظهرن حتى يأتي هو ويبدأ عملَه فلا ينتبهُ أحد لهُن…ومع ذلك يُغطينَ وجوهَهُن..ويقِفن بعيدا ولكن على مَرمى النظر

عم حمدي رجلٌ خمسينيٌ طويل… ببشرته بياضٌ أفلحتْ شمس الشمالِ الساطعةِ في ترويضهِ كما تُنضج التمر على أشجارِ النخيل…لم يكن يرتدي جُلبابا أبيض كأبي وأعمامِي الكِبار…كان يرتدي دائماً بنطالاً غريبا بُنيَ اللون بِه حَمالَتين تظلانِ معلقتينِ على كتفيهِ كأُرجوحةِ الشجرة…..وقميصاً أخضر بجيبين في أعلاه… واحدٌ بكل جهة…لا أدري كم مِن السُنونِ مرت مُنذ رأيتُ عم حمدي لأولِ مرة ولكنْ منذُ ذلك الوقت لم يغيرْ يوماً ملابِسه….
كان كل ما يُحيطُ بعمِ حمدي غريباً ولكن أكثر ما كان يُدهشنا ونحنُ صِغار قُبعته….لم تُشبهْ أي قبعةٍ كنا قد رأيناها يوما…الرجالُ في البلدة كلهم كانوا يرتدون قبعاتَ أشبه بالقوارِب…وكلها إما بَيضاء أو بِها صُفرة….ولكن قبعةَ عمِ حمدي كانت مختلفة عنهُم جميعاً….كانت طويلةً تماماً كبرج حمامِ جدتي زينب…تُحيط بقاعدتها هالةٌ تحجبُ عنهُ الشمس وتبدو تماماً كصحنٍ مقلوبٍ أعلى رأسه….وكان لونُها أزرقاً….
لم نرهُ يوماً بدونِها….وفي أشدِ أيام الحر سُخونةً لم يكن يخلعْها قط…..
لم تكُن ملابسُ عم حمدي أغربَ شئٍ به…كانت كل أفعالِه غريبةً لنا….كان عمُ حمدي ساحِراً!!
كانت له ألعابَ تأخذُ ألبابنا…يُدهشنا بالأشياءِ التي يُخرِجها من اللامكان…وقراءةِ أفكارنا…وفكِ العقدِ المستحيلة….وإخفائه لخروفٍ كامل بلحظة وإعادتهِ مرة أخرى بعد أن تدور أعيننا من البحث عنه دون جدوى…
كانت ألعابُ عم حمدي حديثَ كل البلدة في كل مرةٍ يزورها بها…ننشغلُ نحن الصغار بتقليده في الأيام التالية…ويبقى الرجال الكبار منشغلين بتفسيرِ ألعابه السحرية بما يُرضي المنطق…أما جدتي وبقية الجدات فيبقين منهمكاتٍ في عدِ الخِراف خشية أن يكونَ عم حمدي قد اختطفَ أحدها ولم يُعِده….
لم يكن عم حمدي يكرر ألعابه….لذا كنا لا نفوتُ فرصة قدومه في كل مرة….ولازلت أذكرُ ذلك اليوم حين حبستني الحمى عن عرضه…فظللتُ أبكي الليل كله…وبينما حَسِبتني أمي أبكي من المَرض كنتُ أنا أبكي من أنهُ عليَ الإنتظار شهرا كاملا حتى أحضرَ عرضَ عم حمدي مُجدَدَا

لا يعرفُ أحدٌ من أين يأتي عم حمدي ولا إلى أينَ يذهَب بعدَ أن ينتهِي…..
جدتي تقولُ إنه من الغجر الذين يسكنون في الشمال البعيد…”الغجر يعرفون كل شئ وكذلك يسرقون كل شئ” تقولُها جدتي وهي تدس نقودها بمحفظتِها العتيقة…وتغلق باب صندوق الملابس بقفلٍ كبيرٍ في كل مرة يزور بها بلدتنا عم حمدي… ثم تدورلكي تنبهَ نسوة الحي واحدةً واحدة أن يوصدن الأبواب جيدا….الغجرُ يسكُنون بعيدا ولكن كيف يصِلنا عم حمدي في كل شهرٍ دون أن يبدو عليهِ التعبُ من هذا السفر…ولِماذا يختارُ بلدتنا فقط لينصِب عرضَهُ بها…ابن عمي الكبير والذي يسكُن في البلدةِ المجاورة أخبرني بأنهُ لا يوجدُ عندهُم عم حمدي وأنهمْ لم يروهُ أبدا…. إذن إلى أين يمضي في كل مرة!!
جدي يُخبرنا سراً بأن عم حمدي “مَسخوطٌ” تعلم السحر حين هاجر خارج الوطن لبلادٍ بعيدة خلف أشجارِ النخيلِ الكثيرة وخلف البحر….وهو يسكنُ في كهفٍ في الجبل البعيد…حين سألتُ جدي “أين ذلك الكهف وكيف عرفتَ به؟؟” قال لي مؤنباً :”هذا الأمرُ لا يعنيك يا وَلد” ثم حدَجَني بنظرةٍ تعني أغرُب مِن أمامي يا ولد…ولم أسألهُ مرةً أخرى
أما أبي فلا يعنيه من الأمرِ كلِه إلا النقودُ التي آخذها منه لنعطِيها لعمِ حمدي بعد انتهاءِ عرضه…الرجلُ يستحق المكافأة على ما يُدهشنا به….ولكن أبي يراه عاطِلاً مستغلاً…إذ لا يعمل بالزراعة كما الرجال…وحين سألتهُ ذات مرة أين يسكن عم حمدي لم يعرِف واكتفى بقولهِ: “هذا الأمرُ لا يعنيك يا وَلد” وحدجني بنظرةٍ تعني اغرُب مِن أمامي ياولد…

حسنا لم يكُن مسكنُ عم حمدي يثيرُ إهتمامي…بقدرِ ما تشغلُ بالي قبعتُه الطويلة….
حين كان يزورُ بلدتنا لم أكُن أهتم فعلاً بكلِ ألعابهِ المثيرة…كنتُ أقضي معظمَ الوقتِ أتأملُ قبعتهُ الغريبة….وأسائلُ نفسي تُرى ما يوجدُ تحتَ القبعة؟؟!!
كثيرا ما تحلقنا حولهُ بعد انتهاءِ العرض…وحِين كان بعضُنا يسألُه عنها كان يزجُرُنا بقوله:”لا شئ تحتَ القبعة يا ولد…!!”
جدتي تقولُ بأنه يخبئُ تحت القبعة كنزهُ الذي سرقَه بينما يجولُ بين البلدان….
جدي يقولُ بأن عم حمدي يخبئ أسفلَ القبعة تمائمهُ السحرية ثم يحدِجُني بنظرةٍ حانقة ويتعوذُ باللهِ من شرِ شيطانِ عمِ حمدي….
الصغارُ مثلي كانوا يرون أن أسفل القبعة لابد من أن يكون هناك رأساً أصلع يخبئها عم حمدي عنا حتى لا ننفجرَ ضاحكين…
أما الصبيات فكن يرين أن عم حمدي حتماً يُكدسُ تحت القُبعة الكثيرَ من الورُودِ والمناديل… فهو يخرِجُها من كل جزءٍ من ملابِسه…وسراً كُنَّ معجباتٍ بلونِ عينيه الذي يميل للزُرقة

لشهورٍ عدِيدة كانت قُبعة عم حمدي مِحورَ إهتمامي….ولكنهُ لم يكُن يخلعها قط…كانَت مثبتةً فوقَ رأسهِ بشكلٍ مثيرٍ للعجب…فلا تهتزُ مع حركتِه الكثيرة ولا يُطيرُهَا الهواءُ مَهما كان عاصِفاً
لمراتٍ عديدة حاولتُ أن أنزعها بينما يُحيطُ به الصغارُ في نهايةِ العرض ولكنهُ سرعان ما يكتشفني ويزجُرني:” لا شئ تحت القبعة يا ولد…!!”
وفي كلِ مرةٍ يقولُ لي هذا الكلام كنتُ أزدادُ حماساً لأعرفَ ما الذي يخفيهِ تحت القبعة
كنتُ فضولياً جدا ولا أحبُ الأشياءَ المغطاةَ ولا الأبوابَ المغلقةَ ولا القصصَ التي لا أعرفُ نهاياتِها…
وبينما أنا أهيمُ بالتفكير في القبعة نبتت بعقلي فكرةٌ مجنونة…عزمتُ على أن أُسقِط القبعة عن رأسِ عم حمدي مهما كلفني الأمر واهتديتُ لمقلاعٍ صغير علمني ابن عمي كيف اصطادُ به العصافير…بدا المقلاع ُمناسباً لأصيب بهِ قبعةَ عم حمدي فأُوقِعُها من فوقِ رأسِه…ولأباغِتهُ مِن على البُعدِ فلا يكونُ مستعداً….
كانت الفِكرة مناسبة ولكني كنتُ أحتاجُ الكثيرَ من التدريب..فالحجرُ يجبُ أن يكونَ موجهاً بدقة نحوَ القُبعة فلا يُصيبَ وجهَ عم حمدي وإلا فإني سأقضِي العامَ المقبلَ كلهُ وأنا أخذ عقاباً يوميا من ضربِ أبي…وربما ضربني آباءُ الآخرين وفتيةُ الحي أيضا إذ أقومُ بشئٍ سئٍ كهذا….
لمدة شهرٍ كامِل كنتُ أواصِل التدرُب في طرفِ البلدة…أخرجُ وحدي…فلا يكتشِفني أَحد…أصبحتُ ماهراً في التصويب….ولعلي أُصيب يمامةً وهي طائرةٌ فأسقِطُها من دونِ عَناء…
وفي اليومِ الموعود…لم أكُن مع الناسِ في الساحة…اخترتُ سطح أحدِ المنازلِ القريبة واختبأتُ مُنتظِراً اللحظةَ المناسبة….
حضرَ عمُ حمدي في مَوعِده والذي لم يخلِفهُ أبدا….وكعادتِه بدأ ينزِعُ شهَقَات الإعجابِ بألعابِه
حين اقترابِ العرضِ من نهايتِهِ بدا لي التوقيتُ مُمتازاً فقد كانَ عمُ حمدي مشغولاً بحِيلةٍ جديدة تركها للنِهاية وكان الجميعُ يرقبونَه بدهشةٍ وصمت….
حينها فقط وجهت حَجَري نحو قبعتِه الطويلة….كان حجرا مُمتازاً اخترتُه بدقة بوزنٍ مُناسب…ولم يُخيبْ ظَني فقد أسقطَ القُبعة تماماً مِن الضربةِ الأُولى….
فجأة بدأ الناسُ يصرُخون…ورأيتُ الصغارَ يعدون مِن أمامِ عمِ حمدي….الكِبارُ أيضا بدأوا بالركْض
حين سقطتِ القُبعة لم يظهرْ رأس عمِ حمدي….ولم يظهْر قفاهُ ولا مُقدمةِ رأسِه…كان وجههُ ينتهي فقط عندَ حاجِبيه…أما البقية فكانَت فقط (لا شئ)…كان لا شئ بكلِ معنى الكلمة….ومن عُلوي ذاك رأيتُ فقط فراغاً مظلماً مكانَ رأسِ عم حمدي…كان الأمرُ تماما وكأني أُمعنُ النظرَ في هاويةٍ سحيقة….ومِن تلك الهَاوية كان هناكَ عرقٌ نابض يخرُج ليُغذي ما يبُدو وكأنهُما مِحجرَي عينيهِ منَ الخَلف…!!
انتابَني الخوفُ مِما فعلت…ومن يكونُ هذا العمُ حمدي…
خلتِ الساحة من الجُمهور إلا عم حمدي وقبعتهِ على الأرض…لم يُبدِ عم حمدي أيَ اندهاشٍ وبدأ يجمعُ أشيائهُ بهدوء…نزلتُ من سطحِ المنزل ولا أدري لماذا لم أهرُب مثلَ البقية ولكني حِينما وصلتُ الساحة كان عم حمدي قدِ ارتحل…ولم يبقَ له أثر…نظرتُ ولم أجِد غير قبعتِهِ ملقيةً على الأرضِ بإهمال… وحين سمعتُ همهمة الرجال وهم قادمونَ مرةً أخرى بأسلحتِهُم العظيمة من عِصيٍ وسكَاكين خبأتُ القبعة بينَ ملابِسي…واختفيتُ في زقاقٍ قريبٍ أنا أيضاً…
قضَى الرجالُ ليلتَهُم يبحثونَ عن عَمِ حمدي…وكثُرتِ الأقاويل….
شعرتُ بالخوفِ جداً ليلتها….وظللتُ مستيقظاً حتى الصباح…وكنتُ أخشى كلمَا حركَ الهواءُ بابَ بيتِنا أن يكونَ هذا عمُ حمدي وهو عائدٌ ليستعيدَ قبعتَه…
مع أولِ خيطٍ للفجر أخذتُ القبعة في كيسٍ كبير وذهبتُ لطرفِ التُرعةِ القريبَة مِن البَلدة…وهناكَ تحتَ شجرةٍ ضخمة حفرتٌ عميقا ودفنتُ قبعة عم حمدي…
توقفَ مِهرجان بدايةِ الشهر إذ لم يَعُد عمُ حمدي للبلدةِ قط بعدَ الحادِثة…ولا ندري أينَ اختفى….
ورُغم موجةِ الخوفِ تلك إلا أننا افتقدنا ألعابَه..وكان البُؤس مُخيِّمَاً على وجهِ الصغارِ لأشهرٍ طويلةٍ بعدَها…حتى رِجالِ البلدة الكِبار كانوا يفتقدونَ الثرثرة عن عمِ حمدي….
ما حدثَ أصبح حديثَ البلدةِ والبلداتِ المجاورة لِمدة…ولكن بعدَ وقت وكما كلِ الأشياء أعتقدُ بأنهُ لم يعُد يتذكرهُ أَحد…لا أحدَ يتذكرهُ سواي أنا والقُبعةِ المدفُونةِ تحتَ الشجَرة
واليومَ رُغما عن مرورِ سنواتٍ طويلة على هذهِ الحادثة لكني لا زلتُ أذكُرُهَا كما لو أنها بالأمس… ومِن بينِ كلِ الأصواتِ التي مَرت علي بَعدها أذكُر حتى اليوم بين حِينٍ وآخر صَوت عمِ حمدي بِوضُوحٍ وهو يصرُخُ: “لا شئَ تحتَ القُبعة يا وَلد…!!”
تغيرتْ عادَتي منذُ أن دفنتُ سري تحتَ الشجرة… أصبحتُ لا أفتحُ الغطاءَ عن أشياءِ الآخرين المُغلقة…ولا أسألُ الكثير من الأسئلة حينَ لا يعنيني الأَمر…وحينَ يقتُلني الفُضُول أذكُرُ عم حمدي…أزجرُنِي وأهمسُ لي:
“رُبما حقاً لا شئَ تحتَ القبعة..!!”

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى