أحمد بوزفور - زفــــزاف

1
أجلس أمامه على الطاولة، في سطيحة على البحر. هو يشرب قهوته ويدخن، وينظر بعيدا في اتجاه الأفق: حيث يلتقي الماء بالسماء. يمسك السيجارة بيده اليمنى، وبها أيضا يمسك فنجان القهوة من عروته فيرشف رشفة، ثم يضع الفنجان على الطاولة.
بيده اليسري يمشط لحيته من أسفل، ويمسح شاربه. أنا أجلس أمامه على الطاولة. وجهي إليه وظهري إلى البحر. أنا أعرف أنه ميت، وأراه أمامي حيا، دون أن أدهش أو أعجب أو أستاءل. كأن ذلك طبيعي. وهو يقول لي كأنه يتابع حوارا سابقا:
«ثم إن المطموس لا يفتح».
وأنا أفهم أن المطموس تعني الذي ختم الله على قلبه فلا يعي شيئا، وأفهم أن (لا يفتح) تعني: لا يفتحُ الله عليه، ولا يفلح في شيء.
وأفهم أنه يشرح لي أسباب تصرف شخصية من شخصيات قصة له بعنوان (زفزاف) فأقول له:
«لكن الطامس يفتح».
وكنت أقصده هو بكلمة (الطامس). فرمى ببصره المدى البحريَّ خلفي، وأخذ يتكلم في غموض وفي خفوت. ولكني فهمت أنه يعتبر شخصية قصته مغلقة كالقُمقم المرصود، ولا يمكن أن يفتحها حتى علاء الدين. وفهمت أنه يعني نفسه حين ذكر علاء الدين.
قلت له بعد تردد: «إنني أفكر في أن أكون أنا علاء الدين فضحك ضحكته المتميزة حتى استلقى إلى الوراء في كرسيه البحري المستطيل وهو يشير إليَّ بيده اليمنى ويمشط باليسرى لحيته الخفيفة، قبل أن يقول:
- أنت؟
قلت له غاضبا: سأريك. وأفقت.
في الصباح، بعد أن أفطرت، فكرت طويلا في الحلم الغريب ثم أخرجت من المكتبة قصة (زفزاف)، وأعدت قراءتها.

2
«... وجلس أمامي دون أن أدعوه وقال لي:
- الله يخليك آسي محمد. اكتب لي رسالة إليها.
قلت له وأنا أرشُفُ قهوتي:
- لو كان الخوخ يداوي...
- ومع ذلك، أنت كاتب كبير، وتعرف تلك الكلمات التي «تهر» القلب. كثّر لي منها، و«دَرَّحْ» الرسالة بشيء من الشعر وكلمات الأغاني. وثوابك عند الله.
- لا تدخل الله في الموضوع. هل تظن أن الله يرضى عن كتابتك الرسالة إلى بنات الناس؟
- وماذا أفعل آسي محمد؟ قتلتْني. جابت لي الدبوح.
- اسمع. أنت صاحبي، ولك عليّ النصيحة. اذهب إلى الفقيه ليكتب لك (حرز المحبة) وسيجيبها لك بسبيبة، وإن كانت مربوطة فستقطع السلاسل.
- أنا المربوط آسي محمد. الله يجيبك علي خير.
- اذهب إلى الفقيه، فهو الذي يأتيك بها، أو على الأقل يحل رباطك، أو اذهب إلى أي مكان آخر، ودعني أختلِ بصباحي. وكلت عليك الله، أطرت من رأسي كل ما حلمت به وفكرت فيه هذا الصباح.
أولاني ظهره غاضبا، وخرج.
أما أنا فتابعت تفكيري في قصة (زفزاف). ولكن المربوط الزغبي تسلل إليها من حيث لا أدري. دخل مغمورا في حشد الكومبارس، ثم أخذ يبرز على خشبة القصة بالتدريج. كانت الشخصية الرئيسية الأولى تتجاهله. لكن الشخصية الرئيسية الثانية كانت تحدجه بنظرات غاضبة بل كانت تفكر في الخروج عن النص، لتلقينه أدب الشخصيات القصصية المحترمة. بينما كان هو يصر على التقدم، ويعاود المحاولة حين يُقمع ويُرد إلى الكواليس. وأخيرا نجح في الوصول إلى مقدمة الخشبة، ووقف أمامي وهو يقول: «الله يخليك آسي محمد، اكتب لي رسالة إليها».
حين انتهيت من قراءة القصة، فكرت في إعادة كتابتها بطريقتي، وكانت النتيجة كما يلي:

3
«... وجلس أمامي دون أدعوه، وقال لي:
- الله يخليك أَسي محمد، اكتب لي رسالة إليها
قلت له وأنا أرشف قهوتي:
- لو كان الخوخ يداوي..
- ومع ذلك أنت كاتب كبير، وتعرف تلك الكلمات التي «تهر» القلب. كثر لي منها، و«درح» الرسالة بشيء من الشعر وكلمات الأغاني. وثوابك عندالله
- لا تدخل الله في الموضوع. هل تظن أن الله يرضى عن كتابتك الرسائل إلى بنات الناس.
- وماذا أفعل آسي محمد. قتلتني.
ولكي أتخلص من إلحاحه، كتبت له الرسالة التالية:
«سيدتي.
مرآتان هما عيناك
أقرأ في عمقهما
في عمق العمق مرايا خلف مرايا شَعرُكِ/ثغرك/صدرك/قدك/كُلكِ
مرآة أنت.
على صفحتها تنعكس جميلات التاريخ من عهد جلجامش.
ها أنذا جئت أخيرا أيتها المرآة.
بقلمي أفتح في السطح الصلب الأملس نافذة وأحرر كل الصبايا السبايا منك... ومنهن أحررك فاكشفي عن ساقيك وسيري».
طويتُ الرسالة، ووضعتها في الغلاف المتنبر الذي وضعه أمامي على الطاولة، وأغلقت الغلاف، بادرني قائلا:
- ألا نقرأ علي ما كتبت.
- من الأفضل أن لا تعرف شيئا عن الرسالة الآن.
- سأقول لك ما فيها حين يأتيك الجواب.
بعد أسبوع، جاءني وهو يلوِّح برسالة مغلقة. أخذتها منه، وفتحتها. جلس إلى جانبي لكي يقرأ الرسالة معي. لكن الغلاف كان فارغا لا رسالة فيه.. قال لي:
- ما معنى هذا؟
- معناه أن القمقم مفتوح، وأن العفريت طار «كيف الطوير»..
ابتسم الرجل، وأخذ مني الغلاف الفارغ الأبيض، مدده بين يديه فامتد. مططه فتمطط. الغلاف الأبيض الفارغ الصغير أخذ يكبر بالتدريج. وشيئا فشيئا، أصبح جلبابا كاملا. لبسه الرجل، وشد على يدي شاكرا، وخرج.

4
قرأت كل ما سبق على صديقي الناقد، فقال لي: إن هذا هو الفرق بين كتابته وكتابتك.. هو يكتب نصوصا مكتملة، وأنت تكتب نصوصا مفتوحة هو يكتب نصوصا واقعية، وأنت تكتب نصوصا عجائبية. هو يفكر وأنت تحلم. وأنتما، على أي حال، خطان متوازيان لا يلتقيان في قصة.
سرحت ببصري بعيدا.. إلى ذلك الأفق البحري في ذاكرتي، وقلت له:
من يدري.. لعلهما يلتقيان.

5
أجلس أمامه على الطاولة في مقهى الماجستيك. أعرف أنه ميت، وأراه أمامي حيا، فأتذكر الحلم القديم، وأغتنم الفرصة قبل أن أفيق، فأقرأ لهما كتبته تنويعا على قصته «زفزاف». وفيما هو يتأمل ما كتبت، أحكي له ما قاله صديقي الناقد. فيضحك ضحكته المتميزة، ويستلقي بكرسيه إلى الوراء حتى يكاد يسقط، فأبادر والنادل الي الإمساك به. لكنه يتابع ضحكته وهو يشير إليّ ويقول:
- الفرق بين كتابتي وكتابتك؟ إن صديقك الناقد المسكين لا يعرف أنك أنت أيضا كتابتي.

7/11/2008

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى