يوسف نصّرْ - غِوايةُ الحُبِّ و الغرقِ و الحياة..

الخامسةُ فَجْرًا ، يصبغُ الفجرُ المدينة بحمرةٍ أرجوانيّةٍ فريدةٍ ، ثلاثة أيّامٍ بلياليها لمْ يعرفْ هذا الصبيُّ للنّومِ طريقًا . في نهجِ عبد الوهّاب شقّةٌ صغيرةٌ ينبعثُ منها ضوءٌ خجولٌ و خشخشةُ مذياعٍ قديمٍ ، أثاثُ الغرفةِ مرتّبٌ ترتيبَا يعكِسُ كثيرًا ممّا في نفْسِهِ ...
كلّ هذه اللّيالي ، يقضيها متلويًّا في في فراشِهِ هاربا من يومهِ و من أمسهِ خائفا من غدِهِ ، فقد شهيّة السّيرَ في خُطوطِ المدينةِ منذ أن غادرها وجهها ، هكذا هم يرحلون في غيرِ مواعيدهم ... يصلُ إليهِ ضجيج الشّارعِ من خلال فتحة البابِ فيوقظُ قليلا من ذهولهِ و استسلامِهِ و انشغالهِ بنفسهِ ، فيثبّتُ بصرهُ إلى السّقفِ الخشبيّ ، فتعجُّ في مفكّرتهِ ذكرياتٌ ظنّ أنّها لم تعد صالحةَ للاسْترْجاعِ ...
" يوم الاثنين 15 سبتمبر 2003 "
الرّابعة فجرا ، يومٌ كان فيه الصبيّ يستعدّ للالتحاقِ بمعهدهِ في أوّل أيّام العوْدةِ المدرسيّةِ ، عليهِ أنْ يُسرعَ في في حمْلِ حقيبتهِ المحشوّةِ بالأغطيّةِ و الكتبِ و الكرّاساتِ قبل أن يفوّت موعد قدوم سيّارة النقل الرّيفي التي ستحملهُ بعيدا عن عوالمهِ الصّيفيّةِ ، عوالمُ شغلتهِ طيلة ثلاثة اشهر قضّاها في المرحِ مع ابناءِ عمّهِ و رعي أغنام اسرتهِ . شعر باختناقٍ شديدٍ و هو مقدِمٌ على سنةٍ جديدةٍ سيمضي أغلبها في المبيتِ بعيدا عنْ أشيائِهِ المحبّبةِ رغم يقينهِ المسبق بتميّزهِ في نهايتها كعادتهِ . مبيت المعهد بالنّسبةِ إليهِ عقوبةٌ قاسيةٌ قدّرتها لهُ السّماءُ ... تخنقهُ أسئلةٌ مشوّشةٌ ، لماذا لا يعودُ إلى بيتهِ مثل بقيّة التلاميذِ ؟ ثم يصطدمُ بالإجابة الموجعة : أمرٌ مستحيلٌ ، كيف لهُ أن يعود كلّ هذه المسافة من مركزِ البلدةِ إلى قريتهِ التي هي أشبهُ بعشّ العقاب الذي تخيّر أعلى القمم ليحمي فراخه من بطْشِ السّباعِ .
يجبُ عليهِ أنْ يسيرَ مسافة ثماني كيلومترات تقريبا حتّى يبلغ محطّة النّقل الرّيفيّ فيجد سيّارة " عم سعد " في اِنتظارِهِ .

يأتي صوتُ والدهُ من غرفتهِ العتيقة حاثّا إيّاهُ على الاسْراعِ مخافة أنْ تمطر و يفيض الوادي فتنقطعُ سبلُ الوصولِ إلى البلدةِ . لا شيء يوحي أنّ الأمطارَ قادمةٌ بعد موسمٍ صيفيّ جافٍّ كادَ أنْ يذهبَ بما تبقّى من أشجارِ الزيتونِ . أمّي لا تتخلّفُ عن مة عدها أبدا ، أعدّت لنا كلّ ما يمكن أن تجود بهِ عجوزٌ ريفيّة على طفليها و خاصّة ابنها الصّغير : كسرةٌ ساخنة ، كوبان من لبن الغنمِ و بيضتين آكلها بشراهةٍ كبيرة ، فما زلت إلى اليومِ أعتقد أنّ دجاجات أمّي مخلوقات مقدّسة.

اِلتحق بي شقيقي ثم ودّعت أمّي و انطلقنا ،تبعنا كلبي " وستي " لمسافة لاهيا بمؤخرة قدميّ فنهرتهُ حتّى لا تتّسخ ثيابي الجديدة ، و الحقيقة لم يكن إلا سروالا جديدا فلم أكن ممّن يتيسّرُ لهم أن يلبسوا ثيابا جديدة كلّ عودة مدرسيّة . تقدّمنا في السّيرِ حتّى بلغنا طريق الوادي و هي مسلكٌ صخريّ يصعب المشي فيه لغير أهل القريةِ . هدوءٌ عميق يحضنُ المكان لا تشقّهُ إلا اصواتُ عواء الذّئاب الجائعةِ فتجيبها الكلاب بنباحها من جانب الوادي المقابل ، حوارٌ صوتيّ مميّزٌ لم أتنبّه منهُ إلى على وميض البرقِ الذي بدأ يضيءُ سفح الجبلِ . أخذنا نسرعُ الخُطى قبل هجوم أمطارِ الخريفِ العنيفِ . صوتُ هديرٌ قويّ يأتي من بعيدٍ " يبدو أنّها بدأت تمطر في البلاد القديمهْ " هكذا قطع شقيقي عبد السلام انشغالنا بالمشيِ . بدأت قطراتٌ كبيرةٌ تصفعُ أديم الأرض الكالحةِ ، لقد بدى وقعٌ ارتطامها بالأرضِ مخيفا . الطبيعةُ عقدت عزمها . نفخت هبّةٌ قويّة من الرّيح كادت تطوّحُ بنا بما نحمل ... ثمّ بدأت السّماء بكاءها الغاضبِ . أمطارٌ عنيفةٌ و تساقط البَرَدِ على رؤوسنا ... كيف لتلك السّماء الزرقاء الحالمة أن تخزن كلّ هذا العنفِ و الغضبِ ؟ و ما بال السّحبً الودودة التي انتظرناها صيفا لتظلّل وحشتنا تتحوّل إلى حجارة سجّيلٍ ؟ كلّ ما أرجوهُ الآن أن تتوقّف هذه الأمطارُ . أردّدُ أدعيّة مختلفة و القلب ينخلع من مكانهِ و لكنّ هذا الطّوفانُ لم تكن لتنفع معهُ طلاسمي السّاذجة . أخذت السّيولُ تنحدرُ من روافد الوادي فعلا فيه مستوى الماء المتدفّقِ . الآن نحنُ في خطرٍ كبيرٍ ! لم يكن بوسعنا تجنّب مجرى الماءِ فجوانبُ الوادي عالية جدّا ، حاولت ذلك فأنزلقُ و أعود فيقلبني تدفّق الماءِ القويّ و اصطدمُ بالصّخور النّاتئةِ . لم يعد من الممكنِ رؤية شقيقي و لا حتّى صرخاتي المبتورة وصلت إليهِ . ربّما حملتهُ المياهُ بعيدا أو ربّما تمكّن من النّجاةِ . صمَّ صوتُ الرّعد مسامعي و تخطّف وميض البرقِ بصري ، أحيانا تضربُ على الماء صعقات البرقِ فيرتفع ارتفاعا رهيبا ، هل هي النّهاية ؟ هل هذا كلّ ما يمكنُ أن تريني إيّاهُ الحياةُ ؟

لم أعد أقوى على المقاومة فقرّرتُ أن أذعن للوادي ... ارتخى جسمي فحملني الماءُ بكل يسرٍ ، لحظاتٌ مكثّفةٌ لا تعرف الذّاكرة تشكيلها و رسْمها ... أحسّ بشيءٍ يعيق تقدّمي يبدو أنّي علقتُ بشيءٍ ماء ، أه عرقٌ ضخم لشجرة "السّدر" عرتهُ السيول الجارفة فبرز من جانب الوادي . شعرتُ بقوّة خافتة تسري في عضلاتي المنهكة و لا اعرف كيف استجمعت نفسي لأتشبّث بهِ زاحفا إلى أعلى ، حتى بلعت حافّة الوادي و ابتعدت عن مجرى الماءِ حافيا . لقد حمل السيلُ حقيبتي و حذائي . ساعدني لمعان البرق على تبيّن المكانِ ، كوخٌ خشبيّ اتّخذهُ أحد رعاة القرية ملاذا لهُ من حرّ الشمسِ . تقدّمت باتّجاهه جارّا قدميّ ، كلبٌ مسكين يحاول اللّحاق بي فلا يستطيعُ فينزلق على الأطمار الطينيّةِ ، ارتميتُ داخل الكوخِ ، أنفجارٌ عظيمٌ و فرقعةٌ مهولةٌ لم أتذكّر بعدها من امْري شيئا و لا أدري ماذا حصل ... أفقت من اغْمائي ، سكونٌ لافتٌ ، الأمطارُ توقّفت تماما و ضوء الصباحِ أضاء المكان ، حاولت النّهوض أتفقّدُ جثّتي الهامدة ، نعم انتهى الطّوفانُ ، نظرتُ في المسربِ المقابل للكوخِ ، غشاوة تمنعني من تبيّنِ نقطةٍ أخذتِ في الاقترابِ ، نعم إنّها هي أمّي لم أقوَ على الكلامِ و لكنّ قلبي كان يصرخُ : " إنّي حيٌّ "
صوتُ المؤذّنِ يرتفعُ من جامع الهواءِ بساحة معقل الزّعيم قطع عليّ خيط التذكّرِ ، صوتٌ حادٌّ ألعنهُ كلّما ارتفع فجرا ، لا أدري كيف يقبلُ هؤلاء المؤمنون بكل تلك البشاعة الصوتيّة لتأخذهم للجنّة ؟

المدينة ساكنةٌ إلا من أزيز بعض سيّارت التّاكسي التي انطلقت في سباقها المحموم للظّفرِ بزبائن الصّباحِ . لا بدّ أن أخرجَ فليس أفضل من رؤية المدينةِ بكرا خالية من وجوه البلاستيك الباردة . فانطلقُ من نهج النّهر مرورا بنهج بوخريصْ و منهُ إلى باب منارهْ أين ألمحُ بعض الصّباحيين يزدحمون على دكاّن فطائريّ ، ثم نهج السرّاجين و انعطف يسارا عبر سوق العطّاريـنْ و منهُ إلى نهج سيدي بن عروس حتى اصل إلى ساحة رمضان باي في مفترق نهجي بير لحجار و نهج الباشا حيث استرحُ قليلا أتأمّل ما ما يصبغُه الصّباح من الوان عجيبةٍ على جدران المدينة و منازلها . الأسبوع المنقضي كنت مع صديقتي هنا ، لا أدري أين هي الآنْ ربّما عادت إلى بلدتها و لم تعد تجيب على اتّصلاتي و رسائلي ، هكذا هم دائما " الغايب حجتو معاهْ " ‘عدتُ إلى مقهى العادةِ ، لا أعرف ما عليّ فعلهُ هذا الصّباح ، أه نسيت يجب أن أحصل على ملفٍّ صحّي حتّى اثبت لوزارة التربية أنّي لست مجنونا أو معتوها .
الآن أتوقّفُ عن كلّ شيءٍ فصوتُ رولان بارط يصرخُ في أذني " اِحذرْ أنْ يفلت منك النصُّ " و فعلا قد أفلت منّي نصُّ الحياةِ ... قلتُ كلّ هذا دون هدفٍ ما ، و ربّما لأنّي محتاجٌ في هذا الغرقِ إلى يدٍ تمسك بي و أصرخ إنّي حيّ من جديد ...


يوسف نصّر
الأربعاء 31 أكتوبر 2018 : 05am .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى