رسائل الأدباء رسالتان بين طه حسين والوزير التركي

رسالة الوزير التركي إلى طه حسين

الوفد التركي
القاهرة، الخامس من مايو 1945
يا صاحب السعادة،
نشرت جريدة La Bourse Egyptienne في 3 مايو مقتطفات من تصريحات أدليتم بها إلى مراسل لمجلة صدرت مؤخرا . وهي تتسم كما هي العادة دائما بسمو الفكر وعمق النظر اللذين يميزان جميع تصريحاتكم . ولن أخاطر بالإعراب عن وجهة نظري في موضوع يتجاوز كفاءتي، ولكني أود أن تتكرم سعادتكم بتوضيح لغز يشغل فكري .
تقولون سعادتكم "إن مصر بقيت مستقلة، وإنها أقامت مع العالم الخارجي صلات مزدهرة إلى أن أنهى الأتراك العثمانيون استقلالها فحصروها في نطاق العزلة القاتلة" . وهو ما يعني يقينا باللغة العادية أن مصر ألقى بها في عزلة أفضت إلى انحطاط روحي وخلقي بسبب الغزو التركي الذي قضى على كل مظاهر الفكر وعلى مسيرة التقدم المادي .
أرجو أن تكونوا على ثقة من أنه ليس في نواياي على الإطلاق أن أناقش هذا القول الذي أصبح شعاراً منتشراً في جميع البلدان التي كونت فيما مضى جماع الإِمبراطورية العثمانية . فتركيا هي التي يقول المفكرون الشرقيون المتشبعون بالروح المشرقية إنها عرقلت بإدارتها السيئة وعيوبها الأخرى خطى الحضارة في هذه الدول، وحالت دون ازدهار الفكر، مصدر كل نشاط بشري . وأنتم سعادتكم تسمعون هذا الترجيع في اليونان كما تسمعونه في بلغاريا ورومانيا ويوغوسلافيا، بل وفي المجر حيث لا يجد أساتذة الفكر أي سبب آخر لتفسير الضعف الظاهر في المجال الروحي والأخلاقي الذي يلاحظونه في بلد كل منهم .
والعزلة القاتلة في حالة البلدان الإسلامية التي تتحدثون عنها سعادتكم ينبغي ألا تعزى إلى القرن السادس عشر . فقد بلغت هذه العزلة أوجها بداية من القرن الثالث عشر عقب الحروب الصليبية، وغزوات المغول، والاضطرابات الداخلية التي دمرت الشرق الأوسط . وقد وقع العالم العربي في وهدة العزلة القاتلة إذاً بسبب عوامل أخرى لا بسبب الأتراك العثمانيين كما يحلو لسعادتكم أن تقولوا . ومن المؤكد أنه ليس بوسع أحد أن يجهل ما قدمه العرب والشعوب المعربة من مساهمة رائعة في حضارة تلك الفترة البطولية . ولكن من شأِن التدهور أن يعقب الذروة - وإلا لما كان ذلك عملية عادية - وقد بدأ هذا الانحطاط يتجلى لا في المجال الحربي فقط ولكن في مجال الفنون والفكر أيضاً . ولذلك فبينما أدى تجدد آداب القدماء ومعارفهم المعمقة في الغرب في القرن الخامس عشر إلى حركة النهضة، فإن الشرق الأوسط كان يوجد في تلك الفترة في غمرة الفوضى الكاملة من الناحية الحربية والروحية . وكانت العزلة القاتلة كاملة قبل أن تبسط تركيا غزوها على البلدان العربية . وحتى إذا سلمنا - على سبيل الجدل - بأن تركيا قمعت في مصر كل مظاهر الفكر، فكيف يمكن عندئذ تفسير التدهور الفكري الذي أصاب بلدانا إسلامية أخرى مثل إيران، وأفغانستان، وجزر الهند الشرقية المسلمة، وتونس، والجزائر، وهي بلدان لم تطأ أرضها قط قدما جندي أو موظف تركي [؟] وإذا كان الأتراك اضطهدوا التعليم والتربية، فلماذا لم يزدهر الفن والعلم والمعرفة في بقية العالم اِلإسلامي [؟] وماذا عسى أن يقال عن المغرب الذي لم يكتشف الفرنسيون فيه في سنة 1912 سوى كائنات بدائية جاهلة وشبه متوحشة، هذه الكائنات التي حكم أجدادها القدماء شبه الجزيرة الآيبيرية على نحو باهر لعدة قرون[؟] فلم تكن الإدارة التركية يا صاحب السعادة هي التي أوقعت هذه البلاد في حالة البؤس والجهل والخراب التي نعرفها . وأعتقد أن السير البطيء الذي نلاحظه في الشرق وفي العالم الإسلامي بصفة عامة يجب أن يفسر بظاهرة ذات طابع عام . وإن عقلاً مرموقاً مثل عقلكم لقادر على اكتشاف العلة والتعبير عنها بكل صراحة .
ولقد سمحت لنفسي بأن أوجه إليكم هذه السطور لكي أؤكد لكم أولا احترامي العميق الذي أشعر به نحو شخصكم ولأخبر سعادتكم ثانيا أنني أود أن أرى في حججكم النقدية ورسائلكم الفلسفية حقائق ترتفع عن المستوى العادي وتظل خالية من كل تعصب بال عتيق .
وأرجو يا صاحب السعادة أن تتقبلوا فائق احترامي وخالص مودتي .

التوقيع
(غير واضح)

***

رد طه حسين على رسالة الوزير التركي

السيد الوزير،
تلقيت منذ بضعة أيام الخطاب الذي تفضلت سعادتكم بكتابته لي فيما يتعلق بتصريح كنت قد أدليت به لمجلة جديدة وترجمته جريدة "La Bourse" .
اسمحوا لي أولا بأن أشكر سعادتكم بكل إخلاص على الكلمات الطيبة التي توجهونها إليّ وعلى حسن رأيكم في .
ولتطمئن سعادتكم: فإني عندما أدليت بتصريحي لم أرد التقليل من شأن أحد أو أن أجامل أحدا . ولم يدفعني إلى قول ما قلت إلا الحرص على الحقيقة التاريخية .
وليس لدي ما يكفي من الكفاءة ما يؤهلني لمناقشة وضع البلدان التي تذكرونها سعادتكم في آسيا وفي إفريقيا وفي أوروبا، ولكني أعلم أنني فيما يتعلق بمصر قلت الحقيقة الصادقة . فقبل الغزو العثماني كان بلدنا يتمتع باستقلال تام سمح له بإقامة علاقات دبلوماسية، واقتصادية، بل وعلمية مع أوروبا المتوسطية . وكانت حضارة بلدنا مزدهرة، وتولت القاهرة في العالم الإسلامي دور الاسكندرية في العالم الهلنستي، وكانت جامعة الأزهر لدينا والمدارس التي أنشأها السلاطين المماليك في كل مكان تقريبا تلعب دورا يشبه إلى حد كبير دور متحف البطالمة . والغريب في الأمر أن نهضة علمية وأدبية وفنية في مصر خلال القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر كانت موافقة للنهضة الأوروبية الأولى . وكان من المحتمل تماما أن تتمكن مصر لولا الغزو العثماني من أن تشارك في النهضة الأوروبية الثانية في العصر الحديث .
وإذا طلبتم سعادتكم إلى تقديم أدلة على ذلك، فإني أرجوكم أن تنظروا إلى آثار القاهرة لتلك الفترة وأن تروا أن مصر في تلك الفترة على وجه التحديد أعطت العالم اِلإسلامي مصنفاتها الإنسكليوبيدية الرائعة التي استطاعت، بجمعها حصيلة المعرفة الإِنسانية في هذا الفرع أو ذاك من فروع الحياة الفكرية، أن تصون تراث الحضارة العربية .
ويكفيني أن أذكر القلقشندي والنويري والعمري والمقريزي لكي أثبت أن مصر في ظل السلاطين المماليك صانت ونقلت إلى أجيال المسلمين خلاصة ما أنتجه العقل اِلإسلامي خلال سبعة أو ثمانية قرون من التاريخ .
يضاف إلى ذلك أن هناك ظاهرة ثابتة في تاريخ مصر، وهي أن من المستحيل بالنسبة لها أن تنتج شيئاً مهماً في حياة العقل إذا لم تتمتع باستقلال فعلي بدرجة أو بأخرى .
وهي عندما تخضع لسيطرة أجنبية تصاب بالإنهاك في كفاحها من أجل الحرية . وهو كفاح يستنفد طاقتها بصفة تامة تقريباً .
فهي في ظل السيطرة الفارسية وفي ظل السيطرة الرومانية لم تعط أي شيء مهم تقريبا . أما عصر البطالمة فكان فترة من الخصوبة المثيرة للدهشة . فمصر تحت حكم البطالمة كانت حرة، كان لديها ملوكها، وعاصمتها، وجيوشها البرية والبحرية . وتوجد نفس الظاهرة في العصر الإسلامي؛ ففي ظل خلافة المدينة ودمشق وبغداد كانت الحياة الفكرية المصرية متدنية تقريبا، ولكنها ما إن استعادت قدرا من استقلالها مع مجيء الطولونيين والإخشيديين حتى بدأت تصبح عاملاً أساسياً في حياة العقل الإسلامي . وأخذت مصر مع وصول الفاطميين والأيوبيين والمماليك تستعيد استقلالها الكامل وتبسط سيطرتها خارج حدودها، وأصبحت القاهرة على الفور منافسا شديد الخطر لبغداد في الشرق وقرطبة في الغرب . وعندما وقعت بغداد تحت ضربات المغول ووقعت قرطبة تحت ضربات مسيحيي إسبانيا، بقيت القاهرة وحدها هي العاصمة الفكرية للعالم الإسلامي .
ثم يصل الأتراك العثمانيون فتنحدر مصر إلى مرتبة إقليم في اِلإمبراطورية التركية كما كانت إقليما في الإمبراطورية البيزنطية والإِمبراطورية الرومانية . وترتد من ثم إلى حالة التدني .
ومع مجيء القرن التاسع عشر تستعيد مصر استقلابها شيئاً فشيئاً وتسترجع في نفس الوقت شيئاً فشيئاً حياة عقلية نشطة .
وهكذا ترون سعادتكم أنني عندما أدليت بتصريحي لم أفعل شيئاً سوى أنني لاحظت ظاهرة ثابتة في تاريخ أمتنا، ولا شيء غير ذلك .
وعلاوة على ذلك ألا تعتقدون سعادتكم أن من المستحسن دراسة التاريخ بروح موضوعية بقدر اِلإمكان؟
فذلك مما يرضي العقل والقلب في آن واحد، إذ يعطي أحدهما متعة تأمل الحقيقة ويخلص الآخر من كثير من الأفكار المسبقة التي تصيب بني الإنسان بالشر أكثر مما تقدم لهم من الخير .
وأنا إذ أكرر شكري أرجوكم أن تتقبلوا فائق احترامي .

طه حسين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى