عادل المعيزي - رسالة مفتوحة إلى أبي القاسم الشابي في مائوية ميلاده في 24- 2- 2009

باسم الحقيقة المطلقة !
عزيزي أبو القاسم،

دعيت هذا الصباح الجنوبي المشمس لأتمشّى في بلدتك التي عرفتها في صباك ... أرنو إلى الواحات والى قلبك الطيب وقوتك وعظمتك رغم الهشاشة التي تبدو على الشعراء العظام ...
ها إنّني أقف هذا الصباح على أطراف البلدة محتفيا بميلادك المائة، أشعر كأنّني في يوم عيد بملابس جديدة وحذاء لمّاع أسمع رنّة الموسيقى هنا وهناك مختلطة بالضحكات التي تطلق عنانها من حين إلى آخر إلى الواحات الفسيحة المجاورة ... لعلّك لا تعرفني بعد قرن من الزمان ولعلّك أيضا تعرفنا جميعا بحدوساتك وإلماعاتك ... لقد علّمتني منذ صباي شيئا عظيما أن الشعر حين يتغذّى بغذاء الآباء ويتحوّل إلى أشياء أخرى غريبة وحين لا يغيّر أعراف شعبه وعاداته القديمة وحين لا يغيّر لغته وخلقه يعتلّ ويذوي ولن يستطيع أيّ دواء أن ينقذه أو يقدّم له يد المساعدة لأنّه في الحقيقة أصيب بوباء الخيانة، خيانة جوهر الشعر !
لست وحدي من تعلّم منك الأشياء العظيمة، كلّنا نتعلّم يوما بعد يوم، ربّما تعلّمت منك شيئا آخر سيظل حلما طويل الأمد، كلّما فكّرت في كتابة مسرحية فكّرت أن أجعل إطارها ومكانها تونس بأكملها الأرض والبحر والجبال والأنهار صحراء الجنوب وغابات شمالنا الغربي والوسط المطلّ كبطن امرأة توشك على الولادة وفكرت أن اجعل زمانها العهود الغابرة والحاضر والمستقبل في نقطة متقنة مرسومة فوق اليمّ أما الأبطال فهم نحن الذين نخرج من الأرض ومن الصحراء عوض الخروج من بطون أمهاتنا أولئك الذين انبثقوا قبلنا والذين سينبثقون، منهم من يولد فاكهة في شجرة البرقوق ومنهم من يولد سمكة في البحيرة الجبلية ومنهم من يولد ذئبا في الغابات ومنهم من يولد غزالا في الصحراء ومنهم من يولد لطيفا ناعما ومنهم من يولد غضوبا مزمجرا ... ربّما ستكون هذه المسرحية أجمل مؤلفاتي التي يمكن أن أفتخر بها ... ربما ما يحتشد في نفسي من شخصيات مختلفة جعلني اعتقد أن جزءا ضئيلا منك ولد في الصحراء أما الجزء الأغلب فنصفه سقط من السماء في الغابات والنصف الثاني خرج من أغنية حبلى كانت تتكلم الحكمة ...
ربّما جئت لأترجّل هذا الصباح في محيط بلدتك التي يعتقد أهلها أنّك خرجت منها، لأقول لهم خلاف ما يذكرون.. سأتربّع معهم على الأرض وأسألهم من جديد، أعرف رحابة صدرهم، لن يغضبوا أبدا لأنّهم تعوّدوا التنازع على رمزيتك من زمان بعيد ... سآكل معهم لحم الخرفان بيديّ هاتين ثمّ بعد قليل سأغيّر لياقة صارت تكبّلني لأمسك الفرشاة والسكين وأضغط بشكل رسمي على ربطات العنق أقصّها بتؤدة وأرفعها إلى فمي بالفرشاة وأنا أتبادل الابتسامات المؤدبة مع أولئك الذين جاؤوا للاحتفاء بمئوية ميلادك الموافقة لهذا اليوم الثلاثاء الرابع والعشرين من فيفري ... إنهم لا يعلمون أنّني ـ منذ عرفتك ـ أحتفي في نفس اليوم من كل سنة بعيد ميلادك لوحدي، أجتمع في طاولة العشاء مع روحك ومع القصائد أضرم شمعة وأرفع إلى الفضاء كأسي وكأسك، نضحك معا، ثمّ في آخرة الليل اقرأ على مسامع روحك قصيدتي الجديدة وتقرأ لي قصيدة لا أعرفها .. عندما مللت من الاحتفاء بميلادك لوحدي دعوت أصدقائي الشعراء، أولئك الذين يمجّدون ما تفعل وحتى الذين لا يمجدّون، إلى الاحتفاء بمئوية ميلادك منذ خمس سنوات ... لا أحد يعلم مدى الحب الذي يجمعني بك إلا حبيبتي الملازمة لصبواتي ومعاناتي وأحزاني، وربما صديقي يعلم ذلك أيضا لأننا اجتمعنا على حبّكما أنت والطاهر الحداد لا شك أنك تعرف صديقي مثلما تعرفني ذاك الشاب قصير القامة ذو السمرة القليلة وذو النظرات التي تشبه في وصايتها عليكما نظرات أبي، صاحب الحركات المتشنجة في غالب الأحيان والوديعة في غالب الأحيان أيضا، ذلك الشاب الذي يمضي في كل لحظة والذي يطلقون عليه اسم القنبلة الموقوتة !.. حارس الذاكرة ومهرّب الحاضر إلى المستقبل ربّما كان عليكما أن تنتظراه لقرن من الزمان مثلما سننتظر !..
منذ سنة كتبت قصيدة أمجّد فيها شهر أكتوبر ولم أكن اعلم لماذا، ومازلت محتارا في الأمر إلى هذا الصباح.. وضعت كل الاحتمالات ونسيت أن أضع احتمال تاريخ خلاصك من الحيّز الضيق ـ الدنيوي ـ إلى أبدية الأنوار، ربما سأقرؤها هذا المساء تمجيدا لروحك...
إنني استقبل في هذا الصباح عيد ميلادك وأنا أحيا حالة من الوجد أشتاق إلى حبيبتي الربيعية والى ضحكتها البربرية والى خطاطيف حاجبيها والى همساتها في أذنيّ وهي توشوش لي كلمات الحب، أشتاق إلى شعرها الليلي الملون بالخزامى وبالزمن ... لا أدري ما الذي حدث ولكنّي مأخوذ بما يحدث لي دائما مع بدايات الربيع ...
سأظل أهتف بالأعالي من أجل القصائد التي كتبت والقصائد التي لم تكتب وسأمضي عمّا قريب إلى الشمال الغربي أتتبع دربك بين الجبال والجداول ربما سأصير يوما عشبة أرنو إلى الأفق مستمتعا بأغاني الرعاة ومطلا على أبدية الأرواح ... حبّي الأبدي (...).
توزر في 24 فيفري 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى