ألف ليلة و ليلة محمد عز الدين التازي - الروائي وحكايات شهرزاد.. فتنة الحكي

تشكل «ألف ليلة وليلة» موقعا هاما من ذاكرتي القرائية، فقد قرأتها بأجزائها الأربعة، في تلك الأوراق الصفراء، في منتصف الستينات وأنا تلميذ في الثانوي، مكتشفا عوالمها الحكائية ومستمتعا بسحر محكياتها ومتأملا لطرائقها في السرد

بموازاة تلك القراءة، للنص المكتوب لـ «ألف ليلة وليلة»، الذي قرأته، كنت أرتاد «الحلقات» التي تُعقد خارج أسوار مدينة فاس، في «باب بوجلود» و «باب الساكمة» القريبين من الحي الذي كنت أسكنه، كما كنت أنتقل مشيا لأكثر من نصف ساعة إلى خارج «باب الفتوح» وأنا أحمل في ذاتي رغبة حميمة في أن أصغي إلى السارد (الحْلاَيْقِي) وهو من يسرد حكايات «ألف ليلة وليلة»، والجمهور يتابعه باهتمام. كلما طاب الجو في أماسي الربيع والصيف وبداية الخريف، وخارج الأسوار المحيطة بمدينة فاس، كان ثمة طقس خاص، حكائي، يتجدد كل يوم، في الأماسي، وهو بمثابة احتفال بالحكاية ورواتها. في ذلك الطقس أو الاحتفال تَشَرَّبْتُ طرائق السرد، وفي تلك المرحلة من بداية الستينات، كتبت قصصي القصيرة الأولى ونشرتها وأنا تلميذ في الثانوي.

قلت إنني كنت قد قرأت «ألف ليلة وليلة» في بداية الستينات من القرن الماضي وأنا تلميذ بالثانوي، وكان في مرحلة التلمذة تلك أن اضطرتني الحاجة المادية إلى بيع تلك النسخ الأربع من «ألف ليلة وليلة» لوراق في حوانيت الوراقة التي كانت تُقابل سور جامع القرويين. استغربت أن عرضت على الوراق الأجزاء الأربعة، ولما رآها تلقفها من يدي وأعطاني ثمنا أكثر من الثمن الذي اشتريتها به. لم يبارحني ذلك الاستغراب إلا في بداية السبعينات، عندما التحقت بكلية الآداب، فعاد إلي الحنين إلى قراءة ألف ليلة وليلة، واشتريت وقتها طبعة لبنانية عصرية مجلدة، فلما رآها أستاذي وصديقي محمد برادة في مكتبتي أخبرني بأن هذه الطبعة مبتسرة، حذف منها الكثير، وقد تدخل الرقيب في حذف الكثير من المشاهد واللحظات والمواقف ليجيز بعد ذلك نشرها على النحو المبتسر الذي أراده. سألت أستاذي محمد برادة: وأين هي الطبعة الأصلية؟ قال إنها هي طبعة بولاق، ذات الأوراق الصفراء. هتفت: تلك هي الطبعة التي كنت أتوفر عليها وقد بعتها للوراق.

أخبرني بأن ثمن تلك الطبعة خيالي، لأنها هي الطبعة الكاملة، وساعتها عرفت لماذا تهافت الوراق على شراء الكتاب فقدم لي ثمنا أزيد من الثمن الذي اشتريته به. تحسرت لكوني كنت أتوفر على الطبعة الأصلية وفقدتها، ولم تكن حسرتي على قيمتها المادية، بل على كونها هي النص الكامل.

وليكن، فقد مرت السنون وسحر عوالم «ألف ليلة وليلة» ما زال يرافقني إلى اليوم وأنا أستعيد من ذاكرتي القرائية بعض تفاصيل محكياتها وبعض مكونات شخصياتها وفضاءاتها. وكان أن أصبحت «ألف ليلة وليلة»، زادا حكائيا أتزود به كلما احتجت إلى لحظة من لحظات الجنوح التي تتألق فيها بعض النصوص المؤثرة على حياتي الثقافية والإبداعية.

«الحلقة» وسحر الحكاية

في تلك الحلقات، (الحْلاَقِي) كان السُرّاد (الحْلاَيْقِيَّة) حافظين للحكايات، يسردونها بسلاسة عجيبة، لا يخطئون ولا يتلعثمون أو يترددون في حكي تفصيل من التفاصيل أو وصف شخصية من الشخصيات أو إلقاء حوار بين شخصيتين منها، وكانوا يزاوجون بين الحكي وبين القيام بحركات تمثيلية تُمَثِّلُ للجمهور الحاضر ما قام به الأبطال من أفعال، وهم يتقمصون شخصيات أولائك الأبطال، أما شكل الحلقة، فهو دائرة يُكَوِّنُها الجمهور، في وسطها يقف السارد (الحْلاَيْقِي) أو صاحب الحلقة، باعتباره يمتلك سلطة الحكي، وكان يطوف بجمهوره وهو يسرد ويُشَخِّصُ ما يسرد بالحركات والإيماءات. رحم الله الممثلة والأستاذة الجامعية المتخصصة في فنون المسرح، فاطمة شبشوب، فقد كانت تُحضر رسالة دكتوراه في إحدى الجامعات الأمريكية عن الحلقات التي كانت تُعقد خارج أسوار مدينة فاس، ولقد حاورتني طويلا في الموضوع، وسجلت شهاداتي، لكن الموت تخطفها فلم يتحقق إنجاز رسالتها.

تصوير الحياة الاجتماعيةترتبط «ألف ليلة وليلة» بفترة تاريخية عاشتها بغداد، وقد كثر فيها الغنى كما استفحل الفقر وانتشر الفساد بكل أنواعه، وهي فترة ظهرت فيها الفوارق الطبقية داخل مجتمع يؤمن أفراده بأن الغاية تبرر الوسيلة. ولقد برع الخيال الشعبي في تصوير الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في ذلك العهد، وما انطبعت به من مظاهر الصعود والانهيار. وربما تكون «ألف ليلة وليلة»« بممكناتها التعبيرية عن انحطاط القيم في المجتمع، قد قدمت نوعا من الإحالة، بصورة أو بأخرى، على واقع كل المجتمعات التي تنحل فيها القيم، مما أكسبها أبعادا رمزية هي السر في خلودها ك ساهم في خلودها كعمل حكائي شعبي فريد.

العجيب والغريبما يميز نص «ألف ليلة وليلة» هو أنه قد آثر التصوير البلاغي لمجتمع مدينة بغداد في تلك المرحلة التي تعرض لها، والتي كانت مرحلة استثنائية، تجمع بين كل المتناقضات، في كل شيء. ربما لذلك، جاء ذلك التصوير البلاغي لمجتمع بغداد بكل تناقضاته مراوحا لوضعين حكائيين، الأول يتجه نحو تصوير الواقع والثاني يجنح نحو تصوير ما فوق الواقع. التصوير الواقعي اشتغل على توصيف اللحظة المجتمعية، والجنوح الفانتاستيكي ارتفع بتلك اللحظة التي تقع بين العجيب والغريب إلى ما فوق الواقع.

«ألف ليلة وليلة» ونظريات السرد الحديثة

ألا يمكن أن نتصور، على مستوى نظرية الأدب، والسرديات الحديثة، أن من بين المظاهر الأولى، ومن حيث النصوص التأسيسية، أن التأليف بين الواقعي وبين ما فوق الواقع هو إنجاز لـ «ألف ليلة وليلة»، من خلال حكيها الشعبي ومخيلتها الجمعية؟

أقول كباحث في السرديات إن ذلك مجسد في البنى النصية لـ «ألف ليلة وليلة»، ومن غير شك فإن دراسة الكتاب ما زالت تكشف عن طروحات نظرية من طرائق الحكي ومستويات تخييل الواقع في كتاب سَحَرَ الناس.

ولعل ما أثار الباحثين في أنتروبولوجية الحكاية، وفي علم السرد، هو أن الطرائق التي تنبني عليها حكايات «ألف ليلة وليلة»، بإمكانها أن تؤشر على وجود قوانين جمعية مشتركة يمكن أن تدل على أنماط طرائق السرد، وهو ما انتبه إليه العالم البنيوي تودوروف، عندما توصل إلى جملة من القوانين التي تتحكم في السرد، ومنها دراسته للحكاية داخل الحكاية في «ألف ليلة وليلة».

سلطة المنع وسلطة الحكايةوهو الكتاب نفسه الذي تعرض من قبل الثقافة العالمة إلى هجمات عديدة كان أولها جعل من يريد الاستماع إلى السارد وهو يسرد حكايات «ألف ليلة وليلة» يخرج إلى خارج مدينة فاس، ففي مركزها جامع القرويين وضريح المولى إدريس باني المدينة، وفي هامشها، خارج الأسوار، القبور والأضرحة، وهناك في ذلك الهامش يمكن أن تُعقد حلقات الحكي الشعبي. لذلك كانت فئات من الصناع والحرفيين، ممن يهوون سماع الحكاية، يخرجون من المركز إلى الهامش ليحققوا رغبتهم في التَّحَلُّقِ حول السارد وهو يسرد الحكاية. وبذلك كانت حكايات شهرزاد التي حكتها لشهريار زادا ثقافيا ومتعة جمالية للفئات الشعبية العريضة. ومن قبيل المفارقة أن تكون شهرزاد قد حكت تلك الحكايات لشهريار، وأن يحكيها السارد (الحْلاَيْقِي) إلى الجمهور. ساعتها تتقلص المسافة بين صاحب سلطة الحكي وبين من يقدم لهم الحكاية. كما يذوب ذلك التوتر المعروف، بين شهرزاد وشهريار، وحيث كان يقول: «احك حكاية وإلا قتلتك!»، ومن خلال الحكي الشهرزادي الذي جاء مرادفا للحياة ومقاومة الموت.

النثري والشعريمن جانب آخر، فقد استعملت «ألف ليلة وليلة» الشعر كنوع من المقابلة مع سرودها الشفوية في الأصل، والمكتوبة فيما بعد، مما حدا بأحد الباحثين العراقيين إلى أن يستخرج من أجزاء الكتاب الأربعة ما أسماه بـ «ديوان ألف ليلة وليلة»، وأن يقوم بتقسيم تلك الأشعار إلى أغراض شعرية وموضوعات. ورغم أن الكثير من ذلك الشعر مكسور عروضيا، إلا أنه يقوم بوظيفة جمالية تنبني على تقطيع السرد وإيقاف مجراه سواء من خلال الوصف أو من خلال تلك الأشعار المنبثة على صفحات الكتاب.

القيمة الجمالية والدلاليةتتسع القيمة الأدبية لـ «ألف ليلة وليلة» لتشمل كل الأبعاد الدلالية والجمالية، فهي تصوير عميق للأوضاع المجتمعية وما اعتراها من انحلال وضعف، وهي أيضا، ملاعبة حكائية مضاعفة، وجهها الأول أن شهرزاد قد لاعبت بها شهريار، ووجهها الثاني أن السارد الشعبي يلاعب بها جمهوره، كما أنها فتنة تفتن القارئ بعوالمها وتعدد شخصياتها وفضاءاتها، تسلس للقراءة، وتسحر بما يستحوذ على القارئ من سحر تخييلها للحياة الاجتماعية وتنوع أنماطها وتباين مستوياتها، فما أبدع ما أبدعه الخيال الشعبي في نص حكائي تخييلي جمالي خالد، هو الموسوم بـ «ألف ليلة وليلة».

شهوة تحت الرماد

تحضر «ألف ليلة وليلة» في روايتي «شهوة تحت الرماد»، حيث اشتغلت على شخصية شهر زاد ووظيفتها في الحكي.

الخيال الشعبي.. مؤلفها

تعتبر «ألف ليلة وليلة» ذات حضور قوي في الثقافة الشعبية، وهي عمل سردي حكائي لا يحيل على مؤلف معلوم، بل إن مؤلفه هو الخيال الشعبي في مرحلة من مراحل التاريخ، عاشتها بغداد. وكثير من القصص الشعبي، والسير، حالها كحال «ألف ليلة وليلة»، مجهولة المؤلف، وهو ليس فرداً كما هو معروف في الكتب المؤلفة، المكتوبة، وإنما هو جماع خيال شعبي، أنجز الحكايات وصاغها على شكل «الليالي»، فجاء سردها شفوياً محافظاً على حرفيتها الشفوية، دون أي تدخل من السارد في إقامة تحويرات لفظية أو أسلوبية، لأنه مجرد سارد، أما المؤلف فهو الخيال الشعبي الجمعي.

منع وتهميش

التهميش طال «ألف ليلة وليلة»، فقد قام الأزهر الشريف في مصر بدعوة لدى المحاكم من أجل منعها، في سياق الممنوعات التي سعى إلى منعها، غير أن «ألف ليلة وليلة» تقف ضد المنع، لأن سلطتها الحكائية تبقى معترفاً بها لدى أجيال وأجيال، ولأن أحداً، مهما كان، وأياً كان، لا يستطيع أن يمحو من الذاكرة الشعبية ثقافتها أو أن يجتث من الشعب طقوسه الحكائية، وما تقدمه من سحر للحكاية. بيد أن الحصار الذي ضرب على «ألف ليلة وليلة» سوف يتقلص شيئاً فشيئاً، إلى أن خرجت من هامش المدن العربية إلى المراكز الثقافية والجامعات العالمية بعد أن ترجمت إلى أغلب اللغات الحية، وقد تناولها الدارسون والباحثون بالنظر إلى قيمتها الدلالية والجمالية، وفلسفتها التي ربطت بين الحكاية والحياة والموت، من خلال ذكورية شهريار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى