استيلا قايتانو - اقتل نفسي.. واحتفي!

11294%255B1%255D.jpg


النسور تحوم في السماء كأنها سرب من الشوارب الطائرة. السماء بعيدة، بعيدة، زرقاء، مشمسة، وحارقة. وأنا مخنوق بعبرات لا تزرف، وممتلئ برعب يحلق في الفراغ، ولكن قلبي لا يخفق .. ربما مت! أو أتظاهر بالموت. أنا، أو بالأحرى، جثتي ملقاة وسط كومة من جثث أخرى. ههههه .. أقول جثث أخرى كأني لا أعرفهم. طبعاً أعرفهم واحداً واحداً .. هذا أخي، وهذه أختي، وفي حضنها صغير لم يكمل رضاعته، وهذا أبي الضرير المزعج، وذاك جارنا المتدين راكعاً في صلوات أبدية وفي يده إنجيل تلطخ بالدم، وذاك صديقي الذي تشاجرت معه بالأمس على كأس خمر فاسدة، وهذا التاجر الإثيوبي صاحب الحانة المرتجلة بنهاية الشارع، نشتري منه الخمور الرخيصة ال )تاسكر( وال )نايل سبيشل( وال )سفن نايتس (ونمرح، أنظروا كيف هو مرمي بإهمال والرعب مرتسم على قسماته التي بدأت تتورم
الآن وتنتفخ، يبدو انه كان سيكون أكثر وسامة لو كان ممتلئاً كما هو الآن. كلنا مستلقون منذ عدة أيام أو أسابيع بطريقة مضحكة لا تراعي هيبة الموت.
توقفوا قليلا . أنا لست حزينا . ربما قد مت حقا ! لماذا لا يخفق قلبي ولا يحزن؟! ربما يجب أن أكون اكثر جدية. أنا فعلا مت! كل ما أتذكره هو أني رأيتهم فيالق فيالق، يحملون كل أنواع البنادق، والرشاشات، والقاذفات، والقنابل اليدوية، مشاة واخرونعلى السيارات. هم يشبهوننا كثيراً بل يخال لي أني رأيتني بأم عيني التي يأكلها الدود الآن .. رأيت نفسي أقود جيشا . كنا نحن الجيش والضحايا في آن، قلت لنفسي لا بد أنها ألاعيب الخمر تعصف بي إلى عالم افتراضي. دعوني أكمل القصة. رأيتنا قادمين .. بعضنا يرتدي بزات عسكرية،
وبعضنا عاديون، ونحمل البنادق مختلفة الأحجام والأنواع، أتوماتيكية لا تكف عن حصد الأرواح ما لم تُفرغ كل ما في جوفها من رصاص، بأصوات مخيفة وسريعة.
رأيت هذا الجيش يظهر في الأفق من بين الأشجار الباسقة الخضراء، ويبدو أنهم، أو أننا أشعلنا ناراً في القرى المجاورة. كان الدخان يعلو، ويعلو، ويتماوج بتكاسل كأفعى ضخمة تصيب الكون بالعتمة. وكانت الأشجار تتقزم، وتنكمش، إلى أن اختفت في باطن الأرض كما تفعل السلاحف بأعناقها. وكنا نعلن عن وصولنا بإطلاق النار مباشرة تجاه المساكن، وننشر الموت. كلما اطلقنا مجموعة من الرصاص أُصبنا بنشوة، فننتفخ، إلى أن أتينا وهاجمنا أنفسنا، وقتل كل منا نفسه دون رحمة. لقد رأيت نفسي اقتل نفسي دون رحمة. كنت أنظر إلى أنا الآخر. كان متخندقاً في بزته العسكرية القاسية، مدججاً بالسلاح، وحزام من الرصاص المصطف يتصالب حول صدره. نظرت عميقا في عينيه عساه يتعرف علي. وكنت أتوسل إليه ألا يقتلني. كنت خائفا ، فجاءت ابتسامتي بلهاء، وذليلة، قلت له: ألا تعرفني؟! أناااااه .. أناااااه .. أنا أنت! قبل أن اكمل جملتي المبتورة حصدني بكم هائل من الرصاص بدم بارد، و .. احتفى، نعم .. رأيتني أقتل نفسي وأحتفي!
انا الآن مثقوب، وجسدي ينزف كالغربال، وأحس بفوران دمي الدافئ يخرج هادرا ، ويفيض، ويغرقني في بركة حمراء لزجة. ولكن أتعلمون .. أنا لا أحس بالألم .. ربما أنا حقا مت؟! أو أن هذه فعلاً درجة متقدمة من درجات السكر، ائتلاف بين السكر والموت القت بي في غياهب الغياب!
هل هذا هو الموت؟! الوعي السرمدي دون شعور؟! الغياب الطاغي، والحضور الباذخ لجثث محفورة بالرصاص، ومحروقة بالقذائف، ومذبوحة كالشياه. لقد رأيت كل شئ.
رأيت قاتلي، وقاتل إخوتي، وطفلنا الرضيع، وأبي الضرير، وجارنا، والتاجر الأجنبي.
رأيت مدننا تتحول إلى رماد، وأكوام من الجثث المتعفنة تأكل منها الكلاب والطير، وكأن القرية تحولت إلى قبر مفتوح، وأفواج من المرعوبين يفرون بلا وجهة محددة. وأنا ملقى هنا بكامل وعيي الملتهب، وجسدي الميت الذي لا يستطيع الهروب.
أراهم الآن بعيني المرتفعة عن الأرض، أما عيني الأخرى فكانت غارقة في بركة الدم الأحمر اللزج. كلنا هنا مثقوبو الأجساد، ونندلق.
رايتهم يقتلوننا، ويسرقوننا، يغتصبون الاخوات والامهات والجدات حتى .. ويحتفلون على مرأى من جثثنا!
إني غاضب الآن! هل يغضب الموتى؟! أنا غاضب، إذن أنا حي! ولكني أرقد بسلام. فقط يبدو أنني تهت في دهاليز الغياب، وسوف أعود أحس أن روحي عالقة داخل جسدي كسنارة داخل جوف سمكة غير محظوظة، أتشبث بها كتشبثي بطائرة ورقية عندما كنت طفلا شقياً .. بالطبع ليست ورقية، في الحقيقة، ولكنها من الأكياس المستعملة، نثبتها على عيدان متصالبة، ونربطها على قطعة خشبية نلف فيها الخيوط
التي نسرقها من أمهاتنا خلسة، ونطلقها في الهواء، فتخفق في السماء البعيدة عندما نحررها رويداً رويدا . أنا الخشب الساكن الآن، وروحي ترفرف فوق سمائي بعيدة هناك تحاكي النسور التي تحوم في الفضاء كأنها سرب من الشوارب الطائرة.
اسمع إطلاق نار كثيف الآن، وعدسة عيني تلتقط اللهب بعدة ألوان وأحجام .. ألوان الحرائق، الأصوات المرعبة كالرعود تخترق حتى مسامع الموتى، يهزني هدير الدبابات، كانت السماء تمطر ناراً كأننا في كرنفال ألعاب نارية جادة وقاتلة. أيضا رأيتنا نهاجم بشراسة، وأصبحنا، أو أصبح أشباهنا يتساقطون أكوام أكوام .. يُقتل أحدهم بقذيفة يمكن أن تقتل سرية كاملة، ويتحول إلى مجرد أشلاء، أو، في أحسن الأحوال، إلى نصف جثة، أو إلى جثة بلا رأس. إنهم الآن فارون، أو مستلقون بطريقة لا تراعي هيبة الموت .. مثل جثة أبي، وإخوتي، وجارنا، والآخرون .. لقد قتلوهم دون رحمة، واحتفوا على مرأى من جثثهم وجثثنا.
أسمع هدير مروحيات عملاقة كالطيور الكاسرة تحط على مقربة منا تهش عنا النسور، والكلاب، والذباب، بما أثارت من عاصفة ترابية قوية. نزل منها أناس يبدو أنهم مهمون، يسبقهم جيش من الحرس يصوبون فوهات بنادقهم علينا، وعلى الطرقات، وفوق هامات الشجر. يرتدون الكمامات، ويلقون نظرة رثاء علينا جميعا ، بعد أن تحولنا من أناس كنا نملأ الأجواء بالحياة والأفراح إلى جثث متقيحة نملأ الأجواء بالعفونة والسكون!
أحضروا أكياس كبيرة شرعوا يلفوننا فيها الواحد تلو الآخر .. نحن والجنود .. أنا وأخي الذي قتلني .. أنا وأنا الآخر الذي قتلني دون رحمة واحتفى. نحن القتلة والضحايا. عندما انحنوا فوقي، وحركوني، انفلتت أشرعة روحي المعلقة، وتحررت من داخل جوفي، وطارت! وعندما شرعوا يلفون جثتي في تلك الأكياس، انزلقت عيني من داخل محجرها، وتدحرجت، معفرة بالتراب، فدنا نسر وخطفها إلى الأعالي .. ومن
سمائي رأيتنا متراصين، ملفوفين في الأكياس، يتم إحصاؤنا، واحد .. اثنين .. عشرة .. مئة .. خمسمئة .. ألف .. ألفين .. وحفروا قبراً واحداً ساقونا إليه جميعنا، أنا، وأبي، وأخي، وأختي التي في حضنها طفل لم يكمل رضاعته، وصديقي الذي تشاجرت معه البارحة على كأس خمر فاسدة .. ويا ليتني لم افعل! والتاجر الإثيوبي المرعوب صاحب الحانة الرخيصة، وجيراننا، والجنود الذين قتلوا أنفسهم، وقتلونا، واحتفوا على مرأى من جثثنا وجثثهم!
حلق النسر بعيني الواحدة التي رأت كل شئ. كنت أحملق من عليائي على المشهد، فأصبت بالأسى. نسور تحوم في السماء. لهب يحرق كل شئ. الأشجار تبتلعها الأرض كما تفعل السلاحف بأعناقها. وأراني، بأم عيني التي يأكلها النسر الآن، أقتل إخوتي دون رحمة، وأسرق أبي دون رهبة، وأبيد عشيرتي دون رجفة، وأغتصب أختي بنشوة، وأقتل نفسي .. وأحتفى!


جوبا 3 مايو 2014 م



المجموعة التانية العودة ، عن دار رفيقي للنشر جوبا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى