يونس بن عمارة - مدرسة سانت باترك Saint Patrik School.. قصة خيالية قصيرة

– يا لكلود !… يا لكلود !

صاحت مارغاريت ممّا جلب انتباه كُلّ الطُلبة وانتباه المُدرّسة كذلك… فصاحت في صوت خرج من أنفها قبل فمها:

- ما بك يا عاقة؟ ما به كلود…

– لقد كان غبيّا… لقد كان معتوها… أكثر عتها من…

– لقد قُلت لك ما به يا…

وكانت على وشك النّطق بلفظة “الحمارة” النابية عندما دخل المُدير، وهُو شخص ضخم يلبس نظّارات سميكة ونادى بصوت جهوريّ بعد أن ألقى التحية ونهض التّلاميذ وقوفا…

– روجر شاوهريتز.

– ها؟ قال طفل أنيق صغير…

-تعال هُنا…

وأمسكه من يديه وخرجا معا، ثُمّ اقترب من المُدرّسة وأسرّ لها شيئا فقطّبت حاجبيها وامتعضت ثُمّ ذهب وآثار حذائه من تراب وصوت تقعقع في القاعة.

همست ماري لآن: هذا هُو الظّلم ! هذا هُو الظّلم… لعلّه يُحضّر له هديّة رائعة.

– صمتا.

عادت المُدرّسة لسُؤال مارغاريت:

– ما به كلود يا ليدي؟

و”ليدي” كلمة تُطلقها المُدرّسة جيسيكا آلبيروف على الفتيات المُشاغبات.

– لقد كتب تعبيرا عُنوانه “الليلة السّوداء”… وهل هُناك ليلة…

وكما توقّعت جيسيكا، فكلّ مشاغل الأطفال حماقات.

فالطّفل ثقيل النّطق، سمين وبليدُ الطّبع يُدعى بول.

– لقد أقسم كلود أنّه سمع المُذيعة تقول “ليلة بيضاء”.

وضحك أطفال القسم كُلّهم… لكنّ الآنسة حوّلت طأطأة واحمرار كلود المسكين (وهُو المُجتهد رقم واحد في القسم) إلى فخر واعتزاز…

– إنّ كلود مُحقّ… تمام الحقّ… توجد ليلة بيضاء…

صمت خيّم فجأة…

كتبت جيسيكا على السّبورة…

“الليلة التي يسهرها الإنسان كاملة ولا ينام فيها أبدا تُسمّى ليلة بيضاء”.

وهُنا عاد سُؤال بول الغبيّ:

– هل ليالي الكباريهات بيضاء؟

وخجلت جيسيكا أن تُجيب. فتلك الليالي يدعوها الصّحافيّون بالهُراء !

لم تدر بما تُجيب… فقالت:

– ألم تسمع… لقد قُلت لك كلّ ليلة يسهرها…

أمّا المدير وروجر شاوهاريتز فذهبا رأسا إلى السّيارة خارج المدرسة، سمع منها الطّفل بُكاء ونحيبا وخرجت خالتُه تبكي بُكاء حارّا وعيناها حمراوان:

– خالتي مونيكا… ستُعاقبني أمّي بشدّة إذا ما تغيّبت عن المدرسة.

– أوو عزيزي لقد أصبحت أمك في السماء!

* * *

كانت مُجريات أحداث قسم مارغاريت تسير كلّ يوم على نحو مُماثل… أمّا الآنسة جيسيكا فهي سعيدة بهذا القسم وتقول في رسالة إلى خطيبها جورج زايلين.

“لعلّك قرأت آخر قصّة للكاتب ادغار بوتشي… لقد كانت رائعة لأنّ اختياره لمصحّة أمراض عقليّة كان مُوفّقا… إنّه كتاب كوميديّ، كوميديّ بأتمّ معنى الكلمة. أنا لم أُحدّثك بآخر أعمال ادغار… إلّا لأحدّثك عن قسمي العزيز ! إنّه مُضحك وهزلي… تماما كقصص ادغار… لقد أصبح من المُمكن كتابة قصّة طريفة عزيزي جورج… سأصبح في غُضون أشهر قليلة كاتبة !”.

إنّ قليلا من الإثارة كان يأتي دائما من مارغاريت… الفضوليّة رقم واحد في المدرسة كُلّها… وما من خبر صغير أو كبير إلّا وعلمت به مارغاريت… إنّه أمر عجيب… أمر هذه الفتاة الصّغيرة والحكم عليها…

– أصعب من الحُكم على سمك السّلمون عندما تطهوه السيّدة ريبكا.

– حسنا. قال المدير الضّخم للمُدرّس المُتوسّط البنية.

– وما قصّة هذه السيّدة وسمك السّلمون؟

– لستُ هنا لأقصّ عليك حكايات ألف ليلة وليلة… لقد كُنّا نحكي عن الصّغيرة مارغاريت…

– ما بها؟

– لقد كتبت إليك رسالة ترفض فيها قائمة المُجتهدين التي علّقتها على لوحة الإعلانات…

– وماذا قالت فيها؟ أخرج المُدرّس ورقة وبدأ يقرأ:

-“إنّنا… باسم كلّ أفراد قسمنا ما عدا كلود… لأنّه واحد من الأفراد التي ميّزتها مدرستنا عنّا… لقد كُنّا في تسوية تامّة عندما جاء هذا الأمر الذي بغّض إلينا أصدقاءنا وأشعل في قُلوبنا الحسد.”

– ثُمّ؟…

– “وإنّنا نعترض على هذه القائمة… إنّ إدراج اسم اليتيمة انطوانيه خطأ فادح… وكذلك اسم روبيرت وكلود… إنّ هذه الأخطاء لا يجب الوُقوع فيها…”

ضحك المُدير وقال من وسط بطنه: أكمل؟

– “إنّنا سيادة النّاظر، سعادة المُدير (كان يجب القول سعادة المُدير، سيادة…) نمتلك الكثير عن الحياة السّابقة لكلّ من الذين أُدرجوا في القائمة. نحنُ نحترم السرّيّة، ولذا فنحنُ نُطالب بعدم إدراج هذه القائمة مجدّدا، إنّها لا تُثير حوافز المنافسة بين التّلاميذ كما تتوقّعون، إنّها وفقط تُثير الاشمئزاز”

– إنّها فصاحة نادرة…

نظر إليه المُدرّس بدهشة وقال:

– هل ستنزل عند طلبها؟

– أجل… إنّها جديرة بذلك… غاي.

* * *

في المساء، كتبت مارغاريت في مُذكّراتها…

“أخيرا، رضخ المدير الضّخم الأحمق لطلباتي… رغم أنّ الرّسالة –وسأعترف بذلك- لم تكن من إنشائي الخالص… وقبل أن أقُصّ عليكم من أين أتيت بهذا الإنشاء فإنّني سأخبركم أنّني تعمّدت زيادة لفظة “العزيزة” بعد مدرستنا في الخطاب، لكي استدّر عطف المُدير!… لقد كانت خطّة بارعة منّي!” (وهذا التّعبير مُستعار من رواية بوليسيّة) سنعود الآن إلى المصادر التي استقيتُ منها رسالتي… آه لو يعلم الأستاذ غاي”

– احمل هذه: رودريك… إلى السيّد غاي.

– إنني خائف يا مارغاريت، لعلّها خدعة من خدعك…

– لست أخدعك، إنّها رسالة وحسب…

– وما أدراني أنّها قُنبلة… تنتهي بصفعتين عند انفجارها!

– يا رودريك العزيز! يا أيّها العزيز! أتعرف قواعد البورصا التّجاريّة؟ صفعتان خير من عشر معارك مُتعبة لا تخرج في أيّهن منتصرا… اثنان أم عشرة؟ أذعن رودريك للأمر أخيرا… وحمل الرّسالة وهنا أعادت مارغاريت توصياتها.

– لا تستبدلها، لا تُحاول خداعي، إنّ أي خطأ منك سيعود عليك، أخيرا أنا أُؤكّد لك لن يصفعك غاي.

“آه لو يعلم الأستاذ غاي مصادر رسالتي… أوّلا المقدّمة “إنّنا… تلاميذ قسم الآنسة جيسيكا ألبيروف… باسم كلّ قسمنا…” هذه المُقدّمة من مقدّمات الطّلبات الشّهيرة بالجرائد…

أمّا قولي “سيادة النّاظر، وسعادة المدير” فمعروف… فالآنسة ألبيروف تقول ذلك لمّا تريد تحبيبهم إلينا… أظنّ أنّ خطيبها جورج زايلين يدعوها بـ”الحنّونة” على الفراش!… آه… يا لنساء!! وتظنّ الحمقاء أنّني لا أعرف… لقد اتّبعت في هذا خطّة بارعة… وهاهي… أظنّها سوف تُعجبكم.

1- أرسلتُ إلى خالتي في باريس وطلبت منها طوابع بريديّة بحُجّة أنّني (هاوية طوابع بريديّة). لن أورد كلّ الرّسالة. هاهي آخرها.

“…إنّي أستسمحك خالتي العزيزة وأبثّ قبلاتي على وجنتيك وعلى فيك… باركيني خالتي… ابنتك مارغاريت”.

2- بعد أن حصلت على الطّوابع الفرنسيّة، (أنظر للملاحظات في مذكّرات 13 آذار عن هذه الطّوابع) كتبتُ رسالة شديدة التّأثير والرّومانسيّة إلى الموظّف بالبريد أدّعي فيها أنّني قريبة الآنسة جيسيكا ألبيروف. وأطلب عنوانها وعنوان أيّ قريب لها…

لقد ظننتُ أنّها لن تنجح… ولكن غباء الموظّف (آه. كم أودّ كتابة مقالة عن الغباء موظّفي الحكومة، والبريد خاصّة) الذي ظنّ أنّ الرّسالة آتية من فرنسا ومن عجوز مُحتضرة تطلب عنوانين جعله يبعث بالعنوانين.

3- كان المفروض أن يبعث بالرّسالة إلى فرنسا، إلّا أنّ جُزئيّة بسيطة من رسالة العجوز الأسطوريّة واسمها (مادام بينيه) تأمره أن يبعث بالعناوين إلى قريبة لها بإنجلترا، هذه القريبة الأسطوريّة أيضا صديقة لي استعنت بعنوانها كي لا يفطن بالأمر. فعُنواني في نفس حيّ الآنسة ألبيروف، وقد يشكّ في الأمر، زد على ذلك فهو يعرف عنواني، كلّ هذا لأعرف اسم خطيب جيسيكا المهاجر جورج زايلين، اسمه فقط… لكنّي تعرّفت أيضا على عنوانه… المرء أحيانا يكسب من عمل فائدتين (أنظر مذكّرات 17 أيلول والتي سأنقلها مجدّدا آخر هذه اليوميّة) وهذا بحدّ ذاته موضوع آخر.

سنعود الآن إلى قصّة الرّسالة، إنّ ألفاظ مثل “حوافز” و”اشمئزاز” (هذه الكلمة بالذّات تقول عنها الآنسة أنّها “اسم على مُسمّى” ولعليّ أكون فيلسوفة حين أقول إنّي أشمئز من كلمة الاشمئزاز) مُقتبسة من كتب مختلفة، أمّا عن تحدّثي أو تلميحي للحياة السّابقة للمُدرجين في القائمة فهي كذبة صغيرة، وفي حال ما إذا طلب ولو نتفة عن الحياة السّابقة لأنطوانيت مثلا، سيتعيّن عليّ الاعتماد علة خيالي الواسع والاستعانة بالرّوايات والجرائد…”

حاشية: نقلا عن مذكّرات 17 أيلول، تعليقا على قولي (المرء يكسب أحيانا من عمل فائدتين)، هذا القول قاله جدّي حين قدم إلى منزلنا في الشّتاء ورأى اشتعال النّار في الموقد، فقال: أنّ النّار لها فائدتان، النّور والدّفء.

بينما أبي قال: أنّ لها خسارتين، الخشب والدّخان، (رغم أنّ هذا الأخير تُخرجه المدخنة).

وأمّي تقول: جهاز التّدفئة الكهربائي أفضل بكثير، على الأقلّ السيّدة مِيْر تمتلك واحدا.

* * *

– آنسة ألبيروف…

– ماذا؟

– إنّ توم يدّعي أنّه استحمّ أمس، وهاهو يحكّ نفسه مرارا، تدخّلت مارغاريت شارحة.

– إنّ قميصه جديد يا آنستي، لذا فإنّه يتحكّك.

ثُمّ حدجت نيكول بنظرة مرعبة فبلع ريقه بصعوبة والتفت إلى كُرّاسته وأقلامه… نظر إليها توم بامتنان…

وفي هذه الأثناء دخل روجر، الطّفل الأنيق الذي ماتت أمّه منذ أيّام… كان حزينا وأثر ما شاهده في الجنازة مُرتسم على وجهه…

حنّت عليه الآنسة ألبيروف:

– حسنا روجر تفضّل، اجلس.

ثمّ التفت لباقي القسم: أحمم! اسمعوا. لا أريد من أحدكم أن يزعج روجر، إنّ والدته قد تُوفّيت، فليرحمها الله… ارفعوا أيديكم وقولوا مثلي.

فرفع التّلاميذ أيديهم كلّهم وقالوا بصوت واحد: “فلتسترح بسلام في تربتها” لكن مارغاريت التفّت إلى ماريان ضاحكة: عندما تقول أمّي لا تمسّوا الكعكة فإنّها مُتيقنة بانعدامها في ثواني، (تعني أنّ روجر سينزعج لا محالة بفعل التّلاميذ، لأنّ كلّ ممنوع مرغوب).

انهارت الأسئلة الهامسة على روجر تضايقه:

– روجر… أين دُفنت أمّك؟

– روجر… هل ستكتب كلّ الدّروس التي خلّفتها؟

– روجر لماذا أتيت مُبكّرا… هل تكره أمّك؟

– روجر… روجر…روجر.

وهنا لم يعد يحتمل روجر وأجهش بالبكاء وهو يقول… “ماما…”

رثت جيسيكا لحاله، وانحنت لتُقبّله ولتعوّض ولو جزءا بسيطا من حنان أمّه…

قال بول ببطء: يا روح أمّه!

وقال جون بمكر: الآن لا يتعيّن عليه استشارة أحد في أكل الجبن، اللبن، البوظة… وقد استراح من كلمة: يا بنيّ لا تفعل، يا بنيّ لا تأخذ، يا بنيّ لا تقل… يا بنيّ كن مُهذّبا.

قالت مارغاريت وهي تستمع لثرثرة جون:

جون… أيّها الثرثار… غدا لدينا عمل كثير… وأنت تمزح الآن!…

* * *

العمل الكثير كان في اختيار مسؤول القسم… المسؤول الثّاني بعد المدرّسة! والسّفير السّامي لحضرة المدير! لقد حضّرت مارغاريت لهذا اليوم كثيرا وأعدّت العُدّة كي يكون “النّصر الماحق والفوز السّاحق لها”.

– والآن، قالت الآنسة جيسيكا ألبيروف… سوف نختار مُرشّحين… هؤلاء سوف ينتخبهم (أيّ يختارهم) باقي القسم، القاعدة: من يكسب أكثر تأييدا يكسب منصب رفع كلود يده… ثمّ توم… وأخيرا مارغاريت.

– برافو… سنكتب أسماءهم على السّبورة… كلود… توم ومارغاريت والآن… من يُصوّت على كلود يرفع يده… واحد… اثنان… أربع… سبع أصوات.

– من يصوّت على توم؟

– صوتان… فقط، يا للأسف!

– مارغاريت…

– إحدى عشر صوتا… إذن؟! الفوز سيكون لمارغاريت كمسؤولة قسم وعريفة رسميّة له.

عضّ كلود على شاربه وقال: خسارة؟ مارغاريت؟

أمّا توم فطأطأ رأسه مُتخاذلا…

ضحك جون قائلا: أرأيت الخزي الذي أنت فيه؟ صوتان! هههه!

وقالت ماريان له، الذّراع الأيمن لمارغاريت:

إنّ مارغاريت تستطيع الانتقام الآن… بكتابة أسمائكم كلّ مرّة توكّلها فيها الآنسة جيسيكا ألبيروف… وستعفو عن مؤيّدي سلطتها…

– لن تدوم لها… قال توم بحنق وأضاف:

– سبع أشهر فقط… ردّ جون بذكاء:

– إنّ الجلد في أشهر الشّتاء يساوي أربع أضعاف أشهر الصّيف… وبذلك تصل السّبع أشهر فقط إلى سنة كاملة… سنة كاملة يا عزيزي، وأنا أضمن لك فوز مارغاريت كلّ سنة، أنت لا تعرفها…

– كلود أذكى منها…

– حتّى ولو كان…

هنا قطعت الآنسة جيسيكا ألبيروف حوارهما… وقالت بغيظ:

– جون بلياردي وتوم تسينكلايفر، إلى الوراء وارفعا أيديكما… التفتا إلى الجدار.

أذعن الطّفلان دون النّبس ببنت شفة.

* منقول عن مدونة يونس بن عمارة.

مدرسة سانت باترك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى