ميسلون هادي - لالاتي وسيدتها تيبي..

زُينت الأميرة تيبي بأحلى زيناتها استعداداً للآخرة، ووُضعت في أصابعها الخواتم المزينة بأحجار كريمة نُحتت لها خصيصاً في مشغل فنان من نينوى اسمه سنحريب، وهو اسم مبجل لدى رجال مملكة آشور يُطلق من باب التيمن بالجد الأعلى لملكهم بانيبال الذي جاء بالفنانين والكتبة من أرض ما بين النهرين كلها، فزينوا له كل جنبات قصره بنقوش مجّسمة محفورة على الجدران، كما صمموا له زهرة أقحوان آشورية يرتديها على شكل سوار في كل حملاته الحربية التي توسعت باطراد حتى بلغت أرض مصر. خادمتها لالاتي اعتبرت نفسها خادمة محظوظة لأنها، بعد الموت، ستلحق سيدتها تيبي إلى الآخرة، وتنال معها حظ الخلود ثم الانبعاث حية في العالم الآخر.. ستظل حينذاك مرتدية خاتمها الذهبي الذي أهدتها له سيدتها تيبي عندما انقذتها من الغرق في النيل وهي صغيرة. ومنذ ذلك اليوم وهي تلازمها كظلها، وتتنقل معها بين المعابد والقصور في أرض النوبة لكي تخدمها حتى بعد زواجها. سيدتها تيبي هي التي أطلقت على خادمتها اسم لالاتي، وهو صوت تعبدي يطلقه المحتفلون المصريون عندما يرمون إلى النهر عروس النيل قرباناً للآلهة.


هذا لا يمنع أن لالاتي تشعر بالحزن الكبير لأنها ستُبعث في الآخرة من دون أمها وأبيها وأهلها جميعهم.. فهم فقراء من طبقة الفلاحين الذين تشح لديهم الموارد، ويصعب عليهم امتلاك الأثمان الباهضة التي يطلبها الكهنة من أجل رحلة الخلود الأبدي، وحتى لو تم تحنيطهم بمواد زهيدة السعر، فسيذهبون للعالم السفلي، وليس إلى ملكوت السماء كأسيادها.

عدّت لالاتي أصابع سيدتها تيبي خلسة من العيون، فوجدتها نقصت إصبعاً واحداً تآكل واسودّ لونه أثناء العمل، فاستثناه الكهنة من الجثة الجاهزة للرحلة الأخيرة.. تواسي لالاتي نفسها وتقول بأن الرحلة حتى إذا اعترضها مثل هذا النقصان في الأصابع، فهي أفضل من المكوث في الموت إلى أبد الآبدين، غير أن سلوانها هذا لن يعوضها أبداً عن الاضطراب الذي تشعر به بسبب تعلق مصيرها بتيبي بدلاً من أمها وباقي أهلها عند القيام في الآخرة. الإصبع الثاني الذي يحمل خاتم الأقحوانة الآشورية كان متآكلاً أيضاً. لالاتي لم تنبس بكلمة واحدة حول ذلك، فهي لا تفهم أي شيء مما يحدث لسيدتها التي ماتت قبلها، وأكيد أن الكهنة يعرفون تماماً ما يفعلون، وهم على حق عندما يقولون بأن الروح ستزور جسم سيدتها، وتتعرف عليه بعد الدفن، ولهذا رأت لالاتي كيف تم تزويدها بكل ما يمكن أن تحتاجه من أكل وشرب و موبيليات و أدوات منزلية، كما تم تزيين حيطان المقبرة بالرسوم والنقوش الملونة التي ستحيط بسيدتها وتؤنس وحشتها عندما ستدب فيها الحياة في الآخرة، ولاعتقاد الكهنة بأن الشمس تولد كل يوم فى الشرق وتموت فى الغرب، فقد كان شط النيل الغربى هو المكان المفضل لدفن عليّة القوم ومنهم سيدتها تيبي.


قال الخدم بأن رئيس المحنطين فرّغ البطن من الأحشاء، ثم ترك القلب في مكانه لأن وجوده ضروري لعودة الحياة، أما البطن فحشاه بالكتان المشبع بالصمغ والقار، ثم خاط فتحته الجانبية، وأغلقها، مع خروم الأنف والأذنين والعينين، بالصمغ والشمع المصهور.. بعد ذلك غُسلت الأمعاء ووضعت في أوعية خاصة، كما وجفف الجسم بدفنه فى مادة النطرون. ولأن الأظافر عادة ما تسقط أثناء التحضير و التجفيف، فقد ثبتوا أظافر الأميرة تيبي بخيوط ولفائف ذهب صغيرة. وعندما انتبهوا إلى اختفاء أصبعها الصغير الذي كان رقيقاً للغاية، استبدلوه بإصبع صناعي للمحافظة على هيكل الجسم كاملاً قبل وضعه في التابوت المعدّ للدفن.


من المفروض أن تبقى سيدتها تيبي بوضع حسن حتى آخرتها، وهي أيضاً ستُحنّط وتدفن معها في الجبّانة نفسها عندما يحين أجلها.. ومنذ الآن تشعر لالاتي بالخوف الشديد لئلا يتآكل إصبعها بسبب البأس الشديد لمواد التحنيط، فلا يهتم أحد باستبدال جزء ناقص لخادمة فقيرة، أو قد يكون هناك قصور في حراسة المدفن يؤدي إلى دخول لصوص المقابر الذين، عندما يسرقون الخواتم، ينتزعون الأصابع بأكملها، فلا شيء يهم أولئك النهّاب سوى افتراس المجوهرات التي يمتلئ بها عادة أي مدفن ملكي.


قرب كوبري الخامس عشر من مايو كانت آخرة تيبي وخادمتها لالاتي.. وفي ذلك اليوم اكتشف بابا أمين وبابا حسين عن طريق كاميرات حساسة للغاية بأن ما يوجد في داخل اللفائف هو قاع متعفن ومتفحم.. ومثل هذه التقنيات الضارة بمشاعر الناس هي التي تجعل صحيفتهم الأكثر مبيعاً في مصر.. يعرف الرجلان بأن تلك السيارة السوداء المصفحة التي هبطت من الكوبري مخصصة لنقل مومياءتين لسيدة وخادمتها من العائلة الفرعونية الخامسة والعشرين. ومن مصدر خاص جداً عرفا أيضاً بأنها ذاهبة باتجاه المتحف الكبير الذي سيُفتتح قبل انتهاء العام. الكوبري يؤدي إلى حي الزمالك الراقي وسط القاهرة.. وبعد اجتياز الكوبري الموازي لميت عقبة هبطت السيارة المصفحة من نزلة أبو الفدا خلف سيارة أخرى متجهة إلى الزمالك.. ليس هناك بين عامة الناس في الشارع من يعرف ماذا تحمل هذه السيارة المصفحة التي ترافقها دراجتان حكوميتان.. وترددت تكهنات سواق الأجرة والميكروباصات بأنها تنقل رواتب لاعبي نادي الزمالك بالعملة المحلية، وافترض آخرون بأنها تحمل نماذج من أحياء مائية نادرة لحدائق الأسماك..


تسلقُ أشجار النخيل ممنوع في تلك المنطقة حسب لوحات الحظر التي تتوزع بين كوبري الخامس عشر من مايو، وكوبري السادس من أكتوبر، غير أن بابا أمين وبابا حسين واصلا اهتمامهما بهذه السيارة المصفحة، وصعدا إلى علو متوسط من نخلة تطل على المكان الذي ستقف فيه تلك السيارة حسب الاتفاق مع سائق التكسي.. ومن مكانهما على النخلة شاهدوه وقد نجح في ايقاف سيارة المتحف، بل راح يساعد رجال الحراسة بتفريق الصبية الذين تجمعوا حول تلك السيارة السوداء المصفحة، عندما توقفت بين نزلة أبو الفدا وشارع طه حسين.


لم يكن سائق السفير الصيني يرى ماذا يوجد خلفه.. وعندما انتبه بعد لحظات لسيارة سوداء مصفحة سارت خلف السيارة التي يقودها، غيّر اتجاهه فجأة من منزل السفير إلى الجامع الذي يغص بالمصلين، فصدمته سيارة أجرة من جهة الأمام، وتسببت بدخول السيارة المصفحة في دعامات سيارة السفير من جهة الخلف..... خلافاً للتعليمات الأمنية فقد نزل سائق السفير الصيني من السيارة بدلاً من أن يواصل سيره في طريقه عند حدوث مثل هذه الأمور المريبة.. سائق الأجرة نزل أيضاً ومعه رجل آخر أثار جدلاً متعمداً في المكان، المصوران بابا أمين وبابا حسين نزلا من النخلة التي تمطر رطباً في الليل والنهار... التقى الخمسة قرب سيارة تيبي ولالاتي، وعزف سائق الأجرة سيمفونية مضمرة سلفاً عن تضرر سيارته بسبب الاستدارة المفاجئة لسيارة السفير، كما وعزفت فرقة عبد الحليم نويرة أجمل أغاني أم كلثوم في الذكرى السنوية لوفاتها، إذ تحت تمثالها القريب كان يقام ذلك الحفل البهيج الذي جعل الصوت العالي للموسيقى يطغى على أصوات الجميع.


حدث هرج ومرج وفوضى.. والمفروض أن تذهب تيبي مع خادمتها لالاتي باتجاه متحف الآثار في مكانه الجديد، لولا أن السيارة عادت أدراجها بسرعة إلى مخازن المتحف القديم بعد مشادة اختفى على أثرها الرجلان اللذان نزلا من النخلة بسرعة الصاروخ.. كانا قد أعترفا بأنهما مصوران من جريدة اليوم العاشر يريدان الفوز بانفراد صحفي عنوانه سفين الأبدية.. غير أنهما اختفيا بعد اختراق ظلمات السيارة المصفحة بتقنيات دقيقة أظهرت جميع الأعضاء للمومياء الملكية قد أصابها التلف.. شعر الرأس لم يعد موجوداً.. أصابع الأميرة مع خادمتها تحولت إلى جلد متيبس، والأجسام تشبه قاعَ بحرٍ مخيف، ولا شيء بحال جيدة.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تصعد فيها الأميرة تيبي وخادمتها لالاتي إلى تلك السيارة السوداء المصفحة من الباب الخلفي للمتحف المصري القديم.. فقد نقلاهما أكثر من مرة بين فاترينات العرض الزجاجية في رحلات مستمرة إلى متاحف جديدة، إلا أن رحلتهما هذه المرة تركت خلفها هرجاً ومرجاً باللغتين العربية والصينية، مع أصوات تسبيح لصلاة التراويح بعد الإفطار، مع مزامير سيارات متكدسة في منطقة الزمالك، مع أصوات طبول يابانية رافقت فرقة عبد الحليم نويرة في إحياء الذكرى السنوية لوفاة كوكب الشرق أم كلثوم..

قرب منزل السفير الصيني كانت آخرة الأميرة تيبي مع خادمتها لالاتي.


*****


ميسلون هادي

روائية وقاصة من العراق.




* من أوكسجين

أوكسجين | نصف شهرية ثقافية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى